للكوارث الطبيعية كالزلازل والأوبئة، والبشرية كالحرب والحصار، آثارها القاهرة. لكنها لا تخلو من فوائد لأوغاد تزيدهم المصائب ثراءً وافتراء. ويشهد التاريخ على أغنياء الحرب، وأغنياء الحصار، وأغنياء الهجرة السرية إلى شواطئ أوروبا، وأغنياء كورونا من لصوص صغار بعضهم صيادلة، ولصوص دوليين تمثلهم شركات الأدوية ومعامل اللقاحات. ومنذ ثلاثين عاماً تشهد مصر ظاهرة يمكن أن أسمّيها "أثرياء الدعوة"، وأغلبهم يتعالى على الأزهر، ونال شهادة غير دينية، ثم حصّل طرفاً من قشور تراث الفقه التقليدي، لا فقه الواقع، وساعدته طلاقة لسانه على اجتذاب جماهير تبلغ نسبة الأمية فيهم 25 في المئة.
لا يملك "أثرياء الدعوة" إلا ألسنتهم، أما الحصائد المالية لهذه الألسنة فهي تراكُم الثروات. حاولوا تفريغ خطبة مدتها ساعة، فلن تقرأوا شيئاً ذا قيمة. كلام كالكلام، ثرثرة لفظية سمعتموها من قبل وسوف تسمونعها. ربما يطرب البعض لحسن أداء ساذج يجيده "دعاة" يغنمون من دعوة المسلمين إلى الإسلام، وتنفر عروق رقابهم بالصراخ، ليثبتوا للمسلمين أن الله موجود، وأن محمداً رسول الله. وقد تزامن صعود "أثرياء الدعوة" مع بيزنس الفضائيات، وهوس الثراء لطرفيها، الملاك والشيوخ. كلما زادت نجومية شيخ، اغترفت ساقية الأموال من خوف الناس، حتى طمع البعض في زيادة حصته من المشاهدات والإعلانات، واستأثر بعوائد لسانه، فأطلق فضائية خاصة، مثل فضائية "الرحمة" لنجمها ومالكها محمد حسان.
محمد حسان اُستدعي أمس، الأحد 8 أغسطس 2021، للشهادة في محاكمة أفراد خلية داعشية بالقاهرة. وأمام القاضي أنكر ماضيه، وبدا المسكين طيباً بريئاً وديعاً، وتبرأ من تنظيم الإخوان وعدوانه، وجرؤ على التنظير بأثر رجعي، فانتقد فلسفة الجماعة، وأرجع فشلها في الحكم إلى عجزها عن الرؤية. الجماعة "لم تستطع أن تنتقل من مرحلة فقه الجماعة إلى فقه الدولة، ولم تستطع أن تنتقل من مرحلة سياسة الجماعة ذات الطيف الواحد إلى حكم الدولة ذات الطيف المتعدد الألوان والمشارب.
ربما يطرب البعض لحسن أداء ساذج يجيده "دعاة" يغنمون من دعوة المسلمين إلى الإسلام، وتنفر عروق رقابهم بالصراخ، ليثبتوا للمسلمين أن الله موجود، وأن محمداً رسول الله
ولما حدث الصدام الحقيقي بين الجماعة وبين الدولة بكل مؤسساتها، جيشاً وشرطة وإعلاماً وقضاءً، رفعت الجماعة شعار "الشرعية أو الدماء"، ووددتُ وتمنيتُ ساعتها أن لو استهلمتْ الدرس من الحسن بن علي رضي الله عنهما، حين تنازل عن الخلافة ـ وهي حقّه ـ لمعاوية بن أبي سفيان، حقناً للدماء.
محمد حسان دخل المحكمة شاهداً. ولم ينس أن التاجر الشاطر يعنيه رواج تجارته. أغنياء الحرب يسوءهم وقف إطلاق النار، وأغنياء الحصار يحزنهم رفع الحصار، وأغنياء "الدعوة" يراهنون على ضعف الذاكرة، ويودّون استمرار الجهل العام، ويخافون استقواء الدولة، فيستغني بها الناس عن جيش من "الدعاة" يعدون المظلومين بالجنة، فتتأجل أحلامهم بالعدل.
هؤلاء التجار دينهم الشهرة والمال، ولا يضمن دوام هذين الأمرين إلا الاحتماء بالسلطة، أي سلطة كانت. في نهاية عام 2011 شكّل الإخوان "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح"، وبدأت أنشطتها بالطعن في عقيدة غيرهم، والإفتاء بعدم تهنئة المسيحيين بالسنة الجديدة؛ فالمسلمون "لا يعتقدون في صلب السيد المسيح عليه السلام". تلك الهيئة تزعمها خيرت الشاطر، وحازم أبو إسماعيل، ومحمد حسين يعقوب، ومحمد حسان، وياسر برهامي.
محمد حسان الذي يستأسد الآن على الإخوان ظلّ يراهن عليهم، حتى بعد عزل محمد مرسي، وبصحبة محمد حسين يعقوب اعتلى منصة مؤيدة للإخوان، وخطب يعقوب في أنصار الإخوان: "نحن بين أيديكم، ودماؤنا دون دمائكم، ونقول لمن يقول إنه سيفضّ الاعتصامات لن تفضّ الاعتصامات".
محمد حسان وضع بيضه في سلّة الإخوان، وما كان لقصير النظر محدود البصيرة أن يرى نهاية قريبة لحكم الإخوان بعد "الإعلان الدستوري". قال حسان في فضائيته: "نستطيع بفضل الله جلّ وعلا أن نخرج ملايين الشباب، ولا أبالغ إن قلت: عشرات الملايين. إن كنتَ تعارض الرئيس (محمد مرسي) فهناك من يؤيده. وقد أيّد الرئيسَ في قراراته... في معظم قرارات الإعلان الدستوري وبنوده كثيرٌ من أهل العلم". فما قصة الإعلان الدستوري؟
لا يملك "أثرياء الدعوة" إلا ألسنتهم، أما الحصائد المالية لهذه الألسنة فهي تراكُم الثروات
أصدر محمد مرسي، يوم الأربعاء 21 نوفمبر 2012، إعلاناً دستورياً أذيع في التلفزيون الرسمي مساء اليوم التالي. وبذلك الإعلان حصّن مرسي قراراته السابقة واللاحقة، ومجلس الشورى الإخواني، ولجنة كتابة الدستور، من الطّعن أمام القضاء، ومنح نفسه سلطات لم تجتمع لدكتاتور ولا لنبي مرسل؛ فلا رادّ لقرار، ولا طعن على قانون.
تقول المادة الثانية من الإعلان: "الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات السابقة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة في 30 يونيو 2012 وحتى نفاذ الدستور وانتخاب مجلس شعب جديد تكون نهائية ونافذة بذاتها غير قابلة للطعن عليها بأى طريق وأمام أية جهة، كما لا يجوز التعرض بقراراته بوقف التنفيذ أو الإلغاء، وتنقضي جميع الدعاوى المتعلقة بها والمنظورة أمام أية جهة قضائية".وقبل أن يقرأ المتحدث الرئاسي نص الإعلان، تمّ شحن الإخوان وأنصارهم أمام دار القضاء العالي بالقاهرة. أتوا في حافلات من ضواحي القاهرة والأقاليم، لكي يتظاهروا بالأمر، ثم ينصرفوا. يُسأل أيّ منهم عن سبب حضوره في حشد لم يعلن عنه، فيجيب: "لنؤيد قرارات الرئيس"، ولم يكن الرئيس قد قرّر شيئاً ليؤيده من يريد أن يؤيد. نسأل: "أيّ قرارات؟"، فلا نحظى بإجابة سوى أنها قرارات سوف تذاع، وهم في الانتظار. جاء المساكين تأييداً لقرارات لا يعرفها أحد، ولكن منهج السّمع والطاعة يفرض عليهم نصرة الإخواني أياً كان موقعه، وأيّاً كانت قراراته.
وتقول المادة الخامسة: "لا يجوز لأية جهة قضائية حلّ مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور".
يمكن فهم الصمت الأمريكي على تغوّل مرسي، في ضوء ضمانه أمن إسرائيل بوقف إطلاق الصواريخ من غزة مقابل إنهاء الاغتيالات. ففي 21 نوفمبر 2012 نصَّ اتفاق الهدنة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية على أن توقف إسرائيل "كلّ الأعمال العدائية في قطاع غزة برّاً وجوّاً. وتقوم الفصائل الفلسطينية بوقف كلّ الأعمال العدائية من قطاع غزة تجاه إسرائيل بما في ذلك إطلاق الصواريخ والهجمات عبر الحدود". سرى الاتفاق بداية من الساعة 19:00 بتوقيت غرينتش. اعترفت "حماس" بأن المقاومة "أعمال عدائية". أما اليوم التالي، الخميس 22 نوفمبر، حين كان أنصار مرسي يهتفون لقرارات لم يعلن عنها، أعلنته "حماس" عطلة رسمية تحت عنوان "يوم النصر".
أغنياء الحرب يسوءهم وقف إطلاق النار، وأغنياء الحصار يحزنهم رفع الحصار، وأغنياء الدعوة يراهنون على ضعف الذاكرة، ويودون استمرار الجهل العام
بدت الصفقة، في أحد وجوهها وتأويلاتها، رشوةً غير دستورية تغاضت عنها أمريكا، ومكافأة بداية الخدمة لمرسي.
محمد حسان ذو لسانين. الأول أرضى به الشيطان، والثاني ادّخره للشهادة في المحكمة، وظل وفيّاً لنزوعه السّلفي، ومخلصاً لمفاهيم فقهية تنتمي إلى ما قبل الدولة التي لا تفرق بين دماء مواطنيها، أيّاً كانت اعتقاداتهم ودياناتهم ومذاهبهم. ففي زنقة المحكمة، تمسك حسان بخطاب مرهونٍ بعصرِه، ويصنف المواطنين إلى فئات لا تكافؤ بين أرواحها.
هذا الخطاب يحكم معظم المشتغلين بالدعوة، من خريجي الأزهر ومن هواة أصابهم هوس الشهرة والمال، أمثال حسان الذي انتقد، في 8 أغسطس 2021، أيّ "جماعة منحرفة عن كتاب الله"، لأنها "تستحلّ الدماء المحرمة للمسلمين، والدماء المعصومة للذميين والمعاهدين والمستأمَنين". ولم يستوقفه القاضي لسؤاله عن الأساس القانوني والدستوري والوطني لتصنيف الناس بين "مسلمين" و"ذميين" و"معاهدين"، و"مستأمَنين". لعلّ القاضي لا تساعده أدواته، فلم ينتبه.
قبل أكثر من عشر سنوات أفتى محمد حسان بالاتجار بالآثار، "إن كانت هذه الآثار في أرض تملكها أو في بيت لك، فهذا حقك ورزق ساقه الله إليك، ولا إثم عليك في ذلك ولا حرج. وليس من حق دولة ولا مجلس ولا أيّ أحد أن يسلبك هذا الحقَّ، وأن يسلبك هذا الرزق. وإن كانت هذه الآثار ظاهرة التجسيم لأشخاص فعليك أن تطمسها". فتوى تطارده، وسينكرها اليوم، خشية أن يدخل المحكمة متهماً لا شاهداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...