شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
صور الرئيس والأنظمة في تونس وصناعة الديكتاتور

صور الرئيس والأنظمة في تونس وصناعة الديكتاتور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 8 أغسطس 202103:06 م

تونس هو البلد العربي الوحيد الذي لا تجد في شوارعه صورة لرئيسه ولا صورة له في أي مؤسسة رسمية، فقد استبدلت المؤسسات العامة صورة الرئيس بالعلم منذ انتفاضة 2011. ومازالت تلك آخر علامات الديمقراطية في تونس بعد أن أكلتها الأحزاب وأعلامها. غياب صورة الرئيس المفدى كان مبعث أمل دائم أنه بإمكان الشعب أن يسترد حلمه في بناء ديمقراطية حقيقية.

صور الرئيس في المزبلة

كان أول ما قام به التونسيون في انتفاضتهم عام 2011 هو التخلص من صور الرئيس ورميها في القمامة. بعض المسؤولين كان حذراً، فذهب إلى إخفائها تخوفاً من عودته. جُمعت كل صور الرئيس والكتب الحزبية والأعلام لكي تُدفن في مخازن المؤسسات.

وعندما ظهرت صور الوجوه السياسية على الجدران، كصور الغرافيك للباجي قايد السبسي، التي رافقتها عبارة "لا يمكن أن أحلم مع جدي"، ظهرت معها عبارات تحذّر من إعادة صناعة الدكتاتور. مثّلت هذه الظاهرة الفنية خاصة جماعة "أهل الكهف"، واستبدل الفنانون في تونس صور السياسيين بصور الكتّاب في الشوارع: إدوارد سعيد، محمد شكري، صامويل بيكيت وجيل دولوز...

كان أول ما قام به التونسيون في انتفاضتهم عام 2011 هو التخلص من صور الرئيس ورميها في القمامة. بعض المسؤولين كان حذراً، فذهب إلى إخفائها تخوفاً من عودته. جمعت كل صور الرئيس والكتب الحزبية والأعلام لكي تدفن في مخازن المؤسسات

وشيئاً فشيئاً غابت حتى صور محمد البوعزيزي، لكي يُسقط الشارع أي مقدس أيقوني سياسي. أجابت السلطة بعد ذلك بمحو صور الكتّاب، وبعضها أسقطه تقلّب الطقس، وطورد فنانو الغرافيك، حتى مجموعة "زواولة" ذات الطابع الاجتماعي، واستبدلت تلك الأعمال التنويرية والنقدية بأعمال أخرى ساذجة، تؤمنها وزارة الثقافة والمندوبيات ومراكز الولاية، اكتسحت الجدران والجسور بلا أي رؤية فنية ولا قول شيء.

فقط كانت صور الشهداء، وخاصة الشهيد شكري بلعيد، ما كان يرسمه فنانو الغرافيتي، بعد اغتياله تحول إلى أيقونة مفصلة، عبر الشارب والخال وعبر الصورة الكاملة. لم يكن رسم شكري بلعيد إلا اصراراً على مواصلة الثورة من أجل الديمقراطية، وضرورة الكشف عن الذين دبّروا اغتياله واغتيال الديمقراطية في تونس.

الصورة-الرجّة، بن علي من جديد

بعيد الثورة التونسية، أقدم بعض الشباب على حركة رمزية، فأطلقوا صورة عملاقة للرئيس زين العابدين بن علي على واجهة المسرح الصيفي المسمى بـ"الكراكة" بضاحية حلق الوادي، فقام التونسيون مرعوبين ظانين أن الدكتاتور قد عاد. كانت رجّة سيميائية ذكرتهم أنه ليس أسهل من العودة إلى الديكتاتورية إن تخلوا عن الدفاع عن الديمقراطية، وعندما هجم عليها التوانسة يمزقونها وجدوا تحتها عبارة "الديكتاتورية يمكن أن تعود".

وكانت حركة دعائية لتحفيز التونسيين على الذهاب إلى الانتخاب. لم يتعلم من تلك الحركة بعض السياسيين، ومنهم محمد نجيب الشابي، الذي قام بحملة دعائية لترشحه بصور عملاقة، فكانت هزيمته مدوية أوصلته اليوم إلى الخروج من المشهد السياسي بلا أي انجاز منذ 2011، وفقد حتى وزنه القديم ما قبل الثورة التونسية. كل ذلك أصله صورة. صورة عملاقة في الشارع.

صورة واحد بدل واحد

صورة لمواطن تونسي ينزع صورة الزعيم بورقيبة ويضع صورة بن علي، إثر انقلاب 7 نوفمبر 1987. لم يقع التعرف على الشخص الذي كان يقوم بعملية التبديل، فهو مواطن من عامة الشعب، وفي أقصى الأمر سيكون عاملاً بسيطاً في مؤسسة قيل إنها جريدة. غير أن المتأمل في هذا التفصيل أيضاً سيجعلنا نتساءل هل يعيد المواطن البسيط الديكتاتور الذي ثار عليه في صورة جديدة؟ هل يملك المواطن البسيط دائماً نفسه، أم تقوده الحاجة أيضاً لكي ينتخب أو يعلن الانتماء؟

منذ سنوات وعدد كبير من التونسيين يرفعون صور بن علي في صفحات التواصل الاجتماعي، ويظهرون في التلفزيونات يتحسرون على سنوات بن علي ويرجعون ذلك التحسر إلى غلاء المعيشة.

السلطة ومأزق صاموئيل بيكيت

أطلق الفنان التونسي- الفرنسي مهدي بن شيخ، بمساعدة غاليري Itinerrance الباريسي ورعاية السلطة، تظاهرة جربة- هود Djerbahood سنة 2015، ساهم فيها 150 فناناً متخصّصاً في فنّ الجرافيتي، ينتمون إلى 30 بلداً، في جزيرة جربة، وكان العمل على جدران قرية "الرياض".

كانت الأعمال كلها ذات طابع جمالي هادئ وغير مستفز في الغالب، إلا صورة لبوكوفسكي وأخرى للكاتب الإيرلندي الكبير صامويل بيكيت، للثنائي الإيطالي OrtieNouilles، على باب حديدي قديم يوحي بأنه باب لشيء مهمل، ويختفي وراءه عالم من القمامة. كانت الصورة ذكية ومؤلمة لكن لم تجد من يحللها ومن يضعها في موقعها الصحيح، في ظل إعلام هزيل عاد إلى الترويج للرداءة والسطحية. فصورة بيكيت مؤذنة بالعدم والخراب والانتظار التراجيدي لغودو المنقذ، والصمت المطبق الذي يتهدد الجميع وحاوية القمامة التي تنتظر الكثير من الأحلام.

صورة الرئيس أم نجمة الفريق

إثر انتخابات 2019 وفوز الرئيس قيس سعيد فوزاً ساحقاً على منافسه نبيل القروي، ظهرت من جديد صورة للرئيس لمدة ساعات في الفضاء العام. كانت هذه المرة صورة مرعبة وبشكل راديكالي، فقد أقدمت فتاة من أنصار قيس سعيد على محو نجمة من على صخرة رمزية على شاطئ بو جعفر بسوسة، ورسم صورة للرئيس المنتخب قيس سعيد. النجمة رمز لفريق كرة القدم في الساحل "النجم الرياضي الساحلي"، فانتفضت الجماهير رعباً، ليس من هذا الإنذار السياسي بالتنميط وإعادة صورة الزعيم المفدى، بل من اغتصاب حق الشعب في الاحتفاء بفريقه المفضل ورموزه التي وضعها.

بعيد الثورة التونسية، أقدم بعض الشباب على حركة رمزية، فأطلقوا صورة عملاقة للرئيس زين العابدين بن علي على واجهة المسرح الصيفي المسمى بـ"الكراكة" بضاحية حلق الوادي، فقام التونسيون مرعوبين ظانين أن الدكتاتور قد عاد

ولأن جماهير كرة القدم أكثر عصبية من جماهير السياسة التي مازالت هشة، فقد وقع محو الصورة في ظرف ساعات، وعادت النجمة على الصخرة، وتعرضت الفتاة لهجمة شرسة، ما اضطرها للاعتذار في مرة أولى، وتصريحها أنها كانت حركة عفوية، ثم قامت في مرة ثانية برسم نجمة الفريق مع جماهيره على جدار كبير.

صورة الرئيس من جديد

منذ أحداث 25 كانون الثاني/جويلية 2021، بدأت تعود صورة الرئيس تدريجياً إلى الفضاء العام، من حوانيت بيع المواد الغذائية إلى الساحات العامة بداية من سوسة، كحركة رمزية تذكر بواقعة صورة الصخرة، وآخرها الصورة العملاقة التي رفعها الأنصار أمام قصر ولاية صفاقس، إثر أعفاء والي الجهة. وضع الأنصار الصورة العملاقة لقيس سعيد، وراحوا يقدمون لها التحية ويلتقطون معها الصور.

ما يعنينا في هذا التاريخ للصور المتحركة في الفضاء العام هو أنها ليست عفوية على الأطلاق، وأن الصورة أخطر من أن تقرأ كمجرد صورة. إننا نسيطر على العالم ونتحكم فيه بالصور، الصور الحقيقية والصور المزورة، لذلك نشطت خلال هذه العشرية فبركة الصور، بما في ذلك فبركة الفيديوهات، حتى في البرامج الحوارية السياسية، للتحكم في الجماهير.

مازال صوت الناقد السينمائي الهادي خليل صارخاً "أن بورقيبة سقط" بسبب إسرافه في استهلاك صورته. وغياب صورة الرئيس في الفضاء العام وعلى الأوراق المالية في تونس كان مؤشراً من المؤشرات السيميائية على إمكانية الديمقراطية، وبفقدان هذه الرمزية سنعلن نهاية الحلم بالحرية واستعادة ثقافة الاستبداد. إن الخوف ليس من الرئيس قيس سعيد بقدر ما هو خوف من شعب أصبح خبيراً في صناعة المستبد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image