مجاز الحميم، البيوت التي نسكنها فتسكننا
"أصبح لي أخيراً بيت أختبئ فيه لأكتب"، تقول مارغريت دوراس، بيت من 400 متر مربع في منطقة الإفلين، نوافذه مشرعة على شجرة برقوق وبركة متجمدة وأمامه طريق مؤدية إلى باريس، تلك التي تعبر منها كل نساء كتبِها. افتتنت دوراس بالبيت حين فُتح لها الباب للمرة الأولى ورأت الحديقة، فقررت شراءه وهي لا تزال واقفة على العتبة: "أريده أن يكون ملكي، مسجلاً باسمي... ستمهّد هذه الملكية لجنون الكتابة".
وقبلها كانت فيرجينيا وولف قد غيرت تاريخ النساء بجملة بسيطة ووضعت البيت كشرط أساسي للعمل الإبداعي: "إذا أرادت امرأة الكتابة فيجب أن تكون لها غرفة تنعزل فيها ودخل منتظم مهما كان ضئيلاً". الخيال أيضاً يرتبط بأشياء مادية ملموسة مثل الصحة والمال والبيوت التي نحيا فيها. ولو عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن جين أوستن لم تعش وحيدة طيلة حياتها وكانت تكتب في غرفة الجلوس المشتركة، عرضة لشتى أنواع المقاطعة.
"لا أحد منا يعلم ما يوجد خلف الأبواب المغلقة"، للفنانة إشراق بوزيدي
حرصت أيضاً ألا تلفت انتباه الخدم والزوار فكانت تكتب على قصاصات صغيرة يسهل إخفاؤها تحت مفرش الطاولة أو دفعها تحت ورقة تجفيف الحبر عند دخول أي غريب. كما رفضت إصلاح باب الصالون كي ينبهها صريره إلى حلول الضيوف.
لكن ماذا عن خصوصية المرأة العربية؟ هل نحن نساء اليوم أوفر حظاً من نساء القرن التاسع عشر؟ ألم نكتب جميعنا بضع صفحات سريعة في الخفاء، في عتمة القبو أو العليّة وحرصنا على مواراتها أو إتلافها خشية اللوم والتعنيف؟ ألم نلجأ مراراً في نصوصنا إلى أقنعة لغوية وتوريات ومداورة لا تُسمّي الأشياء بأسمائها؟
ماذا عن خصوصية المرأة العربية؟ هل نحن نساء اليوم أوفر حظاً من نساء القرن التاسع عشر؟ ألم نكتب جميعنا بضع صفحات سريعة في الخفاء، في عتمة القبو أو العليّة وحرصنا على مواراتها أو إتلافها خشية اللوم والتعنيف؟... مجاز في رصيف22
تقول صديقتي إن أهلها كانوا يصابون بالجنون حين تستخدم قفلاً لدرج في المكتب أو رُف خزانة خشبية، ولا ينتهي اللغو إلا بكسر القفل والاستيلاء على ما تخفيه من قصاصات هزيلة وأشعار ورسائل، لأن قِيَم الرجال هي التي تسود في النهاية. والقفل صورةٌ للشغب وإخلالٌ بالنظام.
"طال الانتظار"، للفنانة إشراق بوزيدي
هكذا يصبح البيت فخّاً يُطبق علينا أحياناً، فيه نؤدي فروض الطاعة ونمتثل للعُرف بحركات مفبركة منظمة مقننة، حيطانه البيضاء الملساء كفنٌ جاهز يهيئ لموت طبيعي وحتمي. ولكي نُحصي نقاط الرابح والخاسر لمَ لا نعود لتقرير الأمم المتحدة: "ليست الشوارع، ولا وسائل النقل أو أماكن العمل، بل البيت هو المكان الأخطر على النساء". قرأنا الإحصائيات وتظاهرنا باللامبالاة، فتحولت إلى قطرات تتسرب من شقوق خفية وتنقّط فوق الرؤوس وتستفز، وكان علينا باستمرار أن نتجاوز هذا الألم، أن نعتبر ما يحدث مجرد "حوادث"، شيئاً يمكننا أن نؤمِّن على حياتنا ضده.
نواجه "انتشار العنف" وندخل لنقطّع الباذنجان في المطبخ، نرتب الثياب والكتب ونثبت مصباحاً للنوم، لأن هذا "العادي" هو المُشتَهى. ولأننا نعرف جيداً أننا لا نجد الوحدة وإنما نصنعها. نغلق الباب، نستمع إلى رسائل صوتية لا نرد عليها... نسحب الستائر على أسباب تشتت الذهن في الخارج ونمتنع عن كل شيء، فكل خطوة نخطوها نحو الوحدة هي حركة نحو الكتابة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...