مجاز الحميم، البيوت التي نسكنها فتسكننا
إعداد أحلام الطاهر
يفرك الناس كلمة "بيت"، فيخرج منها معجم الطمأنينة والسّلام والاستقرار ببداهة، وتتوطّد العلاقة بين البيت وأصحابه لدرجة يذهب فيها مَثَلٌ أمازيغي قديم إلى أنّ كل صاحب البيت أدرى بما يحتاجه بيته، وأن هذا بالضبط ما كان يعلمه جيداً رجل كان يقذف منزله كل يوم بالحجر، في إشارة إلى أنه لا يجب التدخّل في شؤون المرء مع بيته.
أمسكَنا البرد من القلب
لكن ماذا يمكننا أن نفعل بفكرة شهيرة ترى أن للمرأة خَرْجتين: واحدة من "بيت أبيها" إلى "بيت زوجها"، والثانية من بيت زوجها إلى قبرها؟ وكيف يمكننا أن نشيح النظر عن الرّعب الذي زُرع لعقود طويلة في نفوس التلميذات الصغيرات الراغبات في متابعة دراستهن، لتجيء كلمة "بيت" مثل مسدّس محشوّ بالموت، يلمس القفا ويهدّدهنّ بملازمة "البيت" وتربيته، بدل الانطلاق إلى رحابة الإعدادية التي بُنيت في مدينة أخرى أو الجامعة البعيدة، لتربية أملهن في التخرّج وارتقاء مدارج العلم والعمل؟
كنّا امرأتين، أنا وبيتي. امرأتان أحبّتا الرجل نفسه. الرجل الذي كتبوا في دفتر حالته المدنية، هذا الاسم العائلي: شِعْر. أنا قصّة قصيرة وهو قصيدة نثر صوتها مبحوح. أنا نافذة تطلّ على حقل ندم، وهو البيت الذي كذب وادّعى أمام شرطيّ التذاكر بأنه كفيلي... مجاز في رصيف22
أنظر إلى هذه الأسئلة، فأفكر تلقائياً في عبارة "أثلج الصدر" المترجمة بالعربية في الغالب عن التعبير الفرنسي "réchauffer le coeur" الذي يعني حرفياً "أدفأ القلب"، ذلك أن ما يُفرح القلب هنا هو البرودة، لأن الغالب هو الحرّ والجفاف، بينما يحتاجون هناك للدفء وألسنة الشمس وتسمير البشرة بعد أشهر طويلة من عواصف المطر وتساقط الثلوج. أفكر بالضبط في كيف تُلزم البيئةُ اللغةَ على تغيير نفسها، وأن هذا هو تماماً ما ارتكبته ثقافة ذكورية عويصة ومتوغلة في الظلم، في حق حرمة كلمة "بيت"، عند كثير من النساء العربيات عامة والمغربيات خاصة. لتنتقل الكلمة الوديعة في ذاتها إلى نقيضها لغوياً ووجدانياً، وتفتح أفقا مربكاً قاتماً من الأسئلة.
نساء يربّين البيوت
مع أن البيت قد يغدو، في حالات ليست بالقليلة، سجناً لا يحق فيه للمرأة أن تفتح النافذة بدون مشورة الزوج أو الأب قبله، أو قبراً للشهادة الجامعية ومهنة الأحلام، تجد النساء في فضاء البيت عزاءً ما، ومسؤولية كالتي تفرضها مجالسة ابن أخت أو قريب، ومتعة غامرة ومحبة فطرية لواحد من مفردات الوجود التي يرمز إليه البيت، أو تسامحاً مع الجرح، وتصالحاً مع الواقع الذي يطيب له أن يصبغ جدران المنزل بطلاء أحمر قانٍ، ويشهره في وجه المرأة العربية كلما نضج جناحاها.
ماذا يمكننا أن نفعل بفكرة شهيرة ترى أن للمرأة خَرْجتين: واحدة من "بيت أبيها" إلى "بيت زوجها"، والثانية من بيت زوجها إلى قبرها؟... مجاز في رصيف22
وهكذا يزدهر البيت، تدخله أصص النباتات وتفوح منه رائحة العطور والطمث والطعام ومستحضرات التجميل ومساحيق تنظيف الأرضيات المختارة بعناية. لنقل إنها تؤنَّث فيعوَّل عليها، إذ تُعامِل النساء البيت بالحسنى في الغالب، يتعهّدنه بالنظافة ويتأكدن من أنه مرتاح وآمن، يتأكّدن من إغلاق مواقد الغاز ومن وصول المزلاج إلى أقصاه قبل النوم أو السفر، يغنّين في مطبخه صراحةً إن تسامح ربّه، أو كنّ ربّاتِه، وسرّاً إن حُكم عليهن فيه بالمؤبّد والأشغال الشاقة. تكون أغانيهن حينها نافذة إلى الداخل: صموتةً وجرساً ذهبياً كبيراً أبكم.
يكون أيضاً وِرَشاً للبكاء والتنهّد والاكتئاب، مكاناً يحفظ حرارة المشاعر، ويحمي من التلصّص على أجسادهن وأحزانهن. يتفاجأ الرجال بالرغبة في التبوّل فلا يتحرّج الكثير منهم من إطفائها في العراء، بينما لا يطمئن المرأة إلا البيت. في البيت، تنزع المنقّبة الحجاب وتتقشّر وترقص. في البيت تختبر المرأة العربية الطبيعةَ أخيراً، بعد خوض مباريات مضنية من المراوغات الثقافية خارجه.
أرني بيتكِ أقول لكِ من أنتِ
لا يهمّ أن يكون مكترى أو مملوك، شقة صغيرة، بيتاً من طابقين أو فيلا أو غرفة ملحقة بمرحاض، غرفة في إقامة جامعية مشتركة للبنات... تُعيب النساء العربيات على بعضهن ألا تكون كل أركان هذه الفضاءات، كيفما كانت، نظيفة في أقل تقدير، وتنتشر بينهن طقوس تجعل من حملات التنظيف الجامحة، قبيل الاحتفاء بالمناسبات الاجتماعية، كالأعراس والولادات الجديدة وقدوم الضيوف، عاداتٍ لا تموت، حتى كأن ما يُفتَرض أنه أبٌ وحامٍ للمرأة، ابنها ورضيعها.
دفعت الإيجار دائماً في الموعد، فقد كان ذلك موعد الدورة الشهرية للبيت، وأي تأخير كان يعني أن يعلم الجميع في الدوّار بأن بيتي قد جاءه الطمث... مجاز في رصيف22
"قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت"، في حالنا: أرني بيتَكِ، أخبرك من أنتِ. تنزع النساء إلى بصم كل بيت يدخلنه، مكرَهات أو راغبات أو عابرات، بالقول والفعل. وهكذا يحدث كثيراً أن يعلّقن هنا وهناك لوحة أو يصنعن مزهرية من السيراميك من أعمالهن اليدوية التي تعلّمنها في نادي الإبداع النسوي المدشّن مؤخراً في الجوار. يضعن صابونة صنعنها، في عشية قائظة، من مزيج عصير الليمون مع مكونات أخرى منزلية، على مغسلة دورة المياه، ويحمين أيدي أهل البيت من حرارة يد إبريق الشاي بقماشة قمن بحياكتها، لتشبه وجه زهرة فتحت ذراعيها للجميع ولم تندم. يتدبّرن عموماً الأمر دائماً.
أنا وبيتي القصير
من جهتي، اكتريت هذا البيت "القصير" جداً في أول سنوات عملي. حينها كان غرفتين ومطبخاً وردهة، الآن صار قصيدة. فيه قرأت حتّى شخت. كل أثاثه مقتطفٌ من حيوات هنا وهناك. فيه بكيت حتى أحبّني الأطفال في الجوار ثم هدأت. فيه خفت ولم أنج. الوسائد والسرير والأواني المحترقة وقطع الثوب والزربية والملاعق والثلاجة وكل ما فيه، أخذته من الأغراض التي اشتراها أبي وأمي في بداية زواجهما، أو من عند جدّتي، أو كاراج جدّي، أو من غرباء في سوق الخردة.
لم يكن أمراً حكيماً أن أنفق المال على بيت سأغادره في أقرب انتقال، لذلك استعنت بالتاريخ على الجغرافيا، في الحقيقة لم يكن هناك مالٌ كافٍ حينها لإنفاقه. لكني لم أتحمّل ألا تعلّق على الجدران لوحة، فرسمتها. إكرام البيوت "تلويحها". ألصقت قماشات على جدار غرفة الأكل لكي أعينها على البكاء إن هي شاءت، فتعرف من أين يجب أن تفور.
دفعت الإيجار دائماً في الموعد، فقد كان ذلك موعد الدورة الشهرية للبيت، وأي تأخير كان يعني أن يعلم الجميع في الدوّار بأن بيتي قد جاءه الطمث. كنّا امرأتين، أنا وبيتي. امرأتان أحبّتا الرجل نفسه. الرجل الذي كتبوا في دفتر حالته المدنية، هذا الاسم العائلي: شِعْر. أنا قصّة قصيرة وهو قصيدة نثر صوتها مبحوح. أنا نافذة تطلّ على حقل ندم، وهو البيت الذي كذب وادّعى أمام شرطيّ التذاكر بأنه كفيلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...