شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"الله يفَرِّج"... العبارة التي أنقذت آلاف السوريين وأغاظت النظام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 26 أغسطس 202101:13 م

لكل مرحلة زمنية عباراتها، وألفاظها التاريخية التي تعبر عنها. وهي إما تنتشر، تلقائياً، بين الناس، أو تُنشر، وتُعمّم، عبر أدوات الأنظمة.

للحرب السورية مجموعة كبيرة من الألفاظ التي رافقتها، على شفاه الناس، منها ما فيه المديح، والذم، والشتم، ولعن الحال، ومنها ما كان رمادياً، وعلى قولة المثل الشامي: "يبقي صاحبه الحيط الحيط... يا رب السترة".

في العام 2011، كنت في قهوة شعبية في حيّنا المختلط طائفياً، في مدينتي جبلة. في ذلك الوقت، كان الانقسام حاداً بين أهالي المدينة. كان العلويون شرسين في وقوفهم مع النظام، والسنة شرسين في وقوفهم ضده، وكانت الشوارع التي تفصل الأحياء السنية والعلوية، عن بعضها، شبه خالية طوال الوقت، لنعرف لاحقاً أن الشائعات التي تصلنا، كعلويين، بأن جيراننا السنة "سيأتون لقطع رؤوسنا"، تصلهم هي نفسها، ومفادها أيضاً أن العلويين ذاهبون "لقتلكم واعتقالكم"، فدخل المجتمع في حالة من عدم الثقة، واضطر إلى أن يعيش مع الترقب.

في المقهى الشعبي، وفي الأثناء التي كان خلالها العامل يقلب محطات الشاشة، توقف عند قناة الجزيرة، وهي تنقل صور تظاهرات من حي الصليبة، في مدينة اللاذقية، وتتحدث عن قتلى وجرحى. لم يأتِ أحد منا بأي تصرف، لا علويين، ولا سنة، خوفاً من تحول المقهى إلى ساحة قتال، وراح الجميع يتمتمون: "الله يفرج".

"الله يفرج"، هي من أكثر الكلمات ترديداً على ألسنة السوريين في الحرب السورية، وكأنك تقول لسائلك: "ما لي علاقة"، أو "غيّر الموضوع"، بطريقة لبقة.

وهي العبارة التي عدّتها المستشارة السورية الرئاسية لونا الشبل قلة وطنية ورمادية، لأنها لا تعبّر، بطريقة تقطع الشك باليقين، عن وقوف قائلها إلى جانب النظام، بل تحاول أن تعطي موقفاً رمادياً.

لونا لم تنزل يوماً بين الناس، لا هي، ولا رئيسها، ولو نزلا، وأكلا الشاورما، وشاركا في الأعراس، فلن يعيشا تفاصيل حياة الناس، ولن يعرفا ماذا يعني أن تضطر إلى أخذ "تاكسي" في العاصمة دمشق، في منتصف الحرب السورية، وصوت القذائف والصواريخ يضج في أذنيك، فينهال عليك السائق بأسئلته السياسية المحرجة، ويطلب وجهة نظرك من كل حدث في مدينة قد تقتلك فيها كلمة، وتحييك أخرى!

"سمعت عبارة ‘الله يفرج’ في السنوات العشر الأخيرة، أكثر مما سمعت اسمي، واسم بشار الأسد. لقد مر وقت، استخدمها الجميع فيه، كعبارة سحرية، وكسخرية من الأوضاع. لقد كانت ‘آبرا كادابرا’ السوريين الذين يخافون أن يخسروا حياتهم"

كنت في "تاكسي" إلى جرمانا، في الثانية من بعد منتصف الليل، في شتاء العام 2020، أي بعد أن خفّ عنف الحرب السورية. قرر السائق إيصالنا عبر طريق المطار الطويل، وبدأ بفتح الأحاديث السياسية: "شايف يا زلمة هالغلا، ما عم يخلونا نعرف نعيش". كمواطن سوري، لا تتمكن من إبداء أي ردة فعل في حديث كهذا. عليك أيضاً أن تضبط لغة جسدك، فنظراتك يجب ألا توحي بالامتعاض، ولا بالقبول، أو الشماتة، أو السعادة. عليك أن تتحلى بموهبة فريدة، كي تكون رمادياً قدر المستطاع، خصوصاً مع الأشخاص الذين تفرض عليهم مهنهم أن يثرثروا، كسائق "التاكسي"، والحلاق. فهما إن كانا من فصائل المعارضة، قد يخطفانك، أو يقتلانك إذا خالفتهما. وإن كانا عنصرين أمنيين، وهذا الخيار الأكثر ترجيحاً لسائق "تاكسي" في العاصمة، يسأل كثيراً. فهو قد يسوقك إلى المعتقل إذا ما خالفته، بإصراره الشديد على أن تجيبه، وستنقذك عبارة: "الله يفرج لك عمي".

لم يكن المؤيدون يستخدمون هذه العبارة أبداً، وأذكر أنهم، في بداية الحرب، علمونا في المدارس أنها عبارة الخونة، لأنهم لا يتجرؤون على البوح بكرههم للأسد، والبلد. وكان مدرسو مادة القومية يحكون لنا كيف أنه علينا أن نقف بفخر لنقول إننا مع القائد بشار، رافعين رؤوسنا، وكانوا يوصوننا، أحياناً، كيف نتوجه إلى أساتذة الآخرين بأسئلة ذكية، ونختبرهم، كي نعلم مدى صدق وقوفهم مع الأسد. كان مدرس القومية يعلمنا كيف نلتف على عبارة "الله يفرج"، ونخنق المدرسين بالأسئلة، فقامت مجموعة من الطلاب الذكور بمحاصرة مدرّسة الديانة التي تُكثر من قول: "الله يفرج"، ووضعوا صوراً لبشار، وشقيقه ماهر، أمامها على الطاولة، بعد فشلهم في دفعها للتعبير عن موقفها الحقيقي، وسألوها: "شو بيعنولك هيدول؟"، فهربت من السؤال بقولها: "هم بيقيّمونا، ما أنا بقيّمهم".

"كمواطن سوري، عليك أيضاً أن تضبط لغة جسدك، فنظراتك يجب ألا توحي بالامتعاض، ولا بالقبول، أو الشماتة، أو السعادة. عليك أن تتحلى بموهبة فريدة، كي تكون رمادياً قدر المستطاع، خصوصاً مع الأشخاص الذين تفرض عليهم مهنهم أن يثرثروا، كسائق التاكسي، والحلاق"

تصور أن تكون مدرسة حاملاً، تأتي إلى دوامك الغليظ، كي تشرح لطلاب الثانوي في المدارس السورية، المتفلتة عادةً، في هذه المرحلة الدراسية، ومن ثم عليك أن تثبت براءتك أمام مراهقين من عمر أولادك، وأن تكظم غيظك، وتضطر إلى أن تبرر رماديتك، أو آراءك، أو حتى أن تدعي عكسها!

إذاً، كانت عبارة "الله يفرج" عنوان المعارضة لفترة ما!

لم أجرؤ على قولها، عندما بدأ رجل، يبدو أربعينياً في السرفيس، في الطريق إلى طرطوس، يتحدث معي عن مصاعب الحياة من دون كهرباء، وكيف أن السوريين أصبحوا بلا مقومات حياة. صمتت كثيراً، وإذ براكب آخر يوافقه الرأي، وراحا يتبادلان أطراف الحديث بصوت عالٍ، حول صعوبة الوضع، وقساوة الحياة، وفساد المسؤولين. ظلّا ينتقدان الوضع حتى قلت إن مظاهرةً ستخرج من بين الركاب. وكلما كانا يسألاني عن رأيي، كنت أفكر في قول "الله يفرج"، ثم أخشى أن تُعد معارضةً!

انتهى الحديث بعبارة تعريفية من أحدهما:

"أنا الملازم سيف من الأمن السياسي". "ومحسوبك أحمد، أمن دولة".

صلّيت لكل إله في الكون أعرف اسمه، لأنني لم أستخدم ورقة السوريين الدائمة: "الله يفرج".

لكن، وبعد انحسار سيطرة النظام، وانتشار مسلحي الفصائل حول المدن كلها تقريباً، وامتلاء الأخيرة بخلايا نائمة، ومخبرين، بدأت عمليات خطف مؤيديه، وقتلهم، خصوصاً من كانوا شديدي التحريض منهم، فتراجعوا عن آرائهم، واستعاروا من ألد أعدائهم عبارة "الله يفرج". لقد شعروا للمرة الأولى بما تعنيه فكرة أن يقتلك لسانك، وأن تجد ما يحميك فيه، وانتُزعت منهم الفوقية والسخرية والإحراج، التي كانوا يمارسونها في حق المعارضين لهم بالرأي... لقد أنقذت الجملة المؤيدين، بقدر ما أنقذت معارضيهم، وتحولت إلى عبارة تقال في طوابير الغاز، والخبز، وفي الجامعات، والمؤسسات الحكومية.

لقد سمعت عبارة "الله يفرج" في العشر سنوات الأخيرة، أكثر مما سمعت اسمي، واسم بشار الأسد. لقد مر وقت، استخدمها الجميع فيه، كعبارة سحرية، وكسخرية من الأوضاع. لقد كانت "آبرا كادابرا" السوريين الذين يخافون أن يخسروا حياتهم.

هي عبارة سحرية نفعتنا أكثر من كثيرين من المسؤولين، ولكن، وكما يقول المثل السوري: "كل شي عالمرتكي هيّن".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard