لطالما كانت اللغة هي المفتاح الأول لاكتشاف طبائع الشعوب. فلغة أي شعب، وأسلوب تعاطيه مع المفردات، والألفاظ اليومية، تحكي الكثير عمّا مر به اجتماعياً. واللغة المحكية للشعوب، وأمثالها الشعبية، تحكي عن طريقة تعاطيها مع الأزمات، والمنعطفات، وتكشف عن العلاقات بين فئاتها الاجتماعية.
"يا متعلمين يا بتوع المدراس"، هي عبارة شائعة شعبياً، ومستخدمة كثيراً عند الرغبة في الاستهزاء والسخرية من الأشخاص الذين يغالطون مفهوماً مجتمعيّاً عاماً، أو متفقاً عليه، وغالباً تُستخدم للسخرية من حذلقة الآخر، أو تذاكيه.
استخدم هذه العبارة الفنان سعيد صالح في مسرحية "مدرسة المشاغبين" الكوميدية، ومنذ ذلك الوقت أصبحت شائعة للغاية. ولكن بالتأكيد ليس صالح من اخترعها. يُشاع، ولا يمكن التأكد من الأمر، بأن أول استخدام للجملة من باب السخرية جاء على ألسنة السكان البسيطين الذين كان المتعلمون يغالطونهم في أفكارهم المتوارثة، في مرحلة الانفتاح على العالم الغربي.
ثقافة السخرية من المختلف لا تتوقف على حالة واحدة، بل هي عامة. لدينا في سوريا مصطلحات جديدة أنتجها المجتمع المغلوب على أمره، فيها من المزايدة والعنصرية ما يكفي كي تعيش لأجيال على ألسنة الناس. فالشباب السوريون الموالون تشكلت لديهم نظرة فوقية تجاه المغتربين. الأوضاع السيئة في سوريا، وظروف الشباب المأساوية، وانعدام فرص المستقبل في البلد الممزق، جعلت رد الفعل الوحيد، أو المواساة الوحيدة، لدى فئة كبيرة ممن بقوا، هو شعورهم بالتفوق والأصالة، لأنهم لم يتركوا بلدهم.
في كل حديث سياسي، ولاحقاً اجتماعي، أو ثقافي، يستخدمون عبارة: "إنتو المغتربين"، أو حتى "إنتو جماعة الحرية"... واللفظان يُستخدمان كوصمة عار يرغب قائلهما بإلصاقها بالمخاطَب.
نرجسية فارغة
هذه النزعة تجاه المغتربين السوريين، أصبحت مفهوماً وطنيّاً عند البعض، فهم يرون أنهم بقوا في البلد، لذا هم الأكثر وطنية، وتعلّقاً، وصموداً. هي نرجسية فارغة ليست شعبية فحسب، بل رسمية أيضاً، ولا تميّز حتى بين مَن هاجر بمحض إرادته، وبين مَن اضطر إلى الخروج من بلده لاجئاً، بسبب الحرب، أو القمع.
في حوار ثقافي على كلاب هاوس في شهر نيسان/ أبريل 2021، حول مستقبل التعليم في سوريا، ذكر الدكتور والباحث السوري الفرنسي مهند ملك أنه في إحدى سنوات الحرب حاول التواصل مع وزارة التعليم السورية، واستطاع جمع عشرات الباحثين السوريين حول العالم، ليرسلوا رسالة إلى الحكومة السورية بأنهم مستعدون للنهوض بالقطاع التعليمي السوري المتهالك، شرط أن يُسمح لهم بالعمل من دون تسويف، وبيروقراطية، ومحسوبيات.
"النزعة العدائية تجاه ‘المغتربين’ السوريين، أصبحت مفهوماً وطنيّاً عند البعض، فهم يرون أنهم بقوا في البلد، لذا هم الأكثر وطنية، وتعلّقاً، وصموداً. هي نرجسية فارغة ليست شعبية فحسب، بل رسمية أيضاً"
بعد شهور من محاولته، استطاع الوصول إلى مديرة مكتب الوزير. وبينما هي تعطي الهاتف للوزير، سمعه يقول: "هلأ هدول المغتربين بدّن يحسّنوا التعليم، روسهم كلها أفكار صهيونية أمريكية جايين يخربوا البلد... ألو ألو دكتور مهند منشوف حالنا فيكم وبمبادرتكم، بتمنى تبلشوا من موضوع رفع العقوبات، وما يتعرض له الشعب السوري من مؤامرات".
لم يلتفت الوصي على التعليم الجامعي، والبحث العلمي في سوريا، إلى شهادات ملك، أو إنجازاته، هو وبقية المبادرين، بل لم يستطع رؤيته الا "مغترباً"، وعليه فهو خائن!
"التلقين العقائدي"
في كلمة ألقاها في 12 آب/ أغسطس 2020، ميّز الرئيس السوري بشار الأسد بين السوريين، وأجرى مقارنة في الوطنية، حسب وجهة نظره التي تحكم البلد؛ فرّق بين مَن في عائلته مقاتلان في الجيش، وبين من في عائلته مقاتل واحد فقط، وبين من هم في البلد يقاتلون مع الجيش السوري، وبين "الفارين" كما وصفهم، ورأى أن الأكثر وطنية هم من بقوا، وقاتلوا مع الجيش، والأكثر وطنية من الكل هم الذين في عائلاتهم أعداد أكبر من المقاتلين في الجيش.
"إنتو جماعة حقوق الحيوان"، "إنتو يلي بدكن مثلية"، "إنتو يلي بتنتقدوا الدين"، "إنتو يلي صارعينا بحقوق المرأة"... عن السخرية ممّن يفكّرون بطريقة مغايرة للتيارات الاجتماعية والسياسية والدينية في مجتمعاتنا
في الدخول قليلاً، وبعاطفية شديدة، في نقاشات مع الشبان الموالين المفتخرين ببقائهم في البلد، سرعان ما تجدهم يسقطون في فخ الحقيقة والواقعية، فيبدأون في شتم الرئيس السوري على ما أوصلهم اليه، وانتقاد الوعود الكاذبة، أو انتقاد الدولة والفاسدين، وعدم الجرأة على الخوض في مسؤولية الرئيس. هؤلاء الذين يكيلون الشتائم، هم أنفسهم من كانوا أول من احتفل بـ"انتصار" الأسد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأول من نشر له منشوراتٍ وصوراً، بدءاً من مداخل منازلهم، وصولاً إلى صفحاتهم على وسائل التواصل.
الإنسان هو منتج لنظامه الديني والاجتماعي والسياسي، وقلة من الناس قادرون على أن يكونوا موضوعيين في خضم عاصفة "غسيل الدماغ" التي يقودها النظام والدين، متّحدَين. قلة من الناس قادرون على التفكير بتجرد، وإعادة تشكيل أنفسهم، وأفكارهم، بعيداً عن "غسيل الدماغ" هذا، لإحداث فارق ما.
في حديث عن هذه المفارقة الرهيبة، التي قد تبدو فصاماً في تصرفات هذه المجموعة من الناس، مع الدكتورة النفسية والباحثة وفاء سلطان، قالت إنها نتيجة طبيعية لما يسمى بـ"التلقين العقائدي".
إن المزايدة والسخرية هاتين، في الحقيقة، لا تتوقفان على الفئات السياسية. ففي جولة على صفحات التواصل الاجتماعي العربية، سترى العديد من أشكال المزايدة: "إنتو جماعة حقوق الحيوان"، "إنتو يلي بدكن مثلية"، "إنتو يلي بتنتقدوا الدين"، حتى أن الأمر وصل إلى درجة "إنتو يلي صارعينا بحقوق المرأة".
التفكير بطريقة مغايرة للتيارات الاجتماعية والسياسية والدينية في مجتمعاتنا، ليس مهمة سهلة، بل مشقّة، وعليك أن تتحمل وزر تجاوز الأطر التفكيرية التي وُضعت لك. عليك أن تتجاوزها لتكتسب قيماً ثقافية جديدة ومغايرة، وهو أمر صعب في الأنظمة الديكتاتورية، ومجتمعاتها المستسلمة لها، والمتماهية معها، والتي ستنبذك، وتقصيك، وتؤذيك... أو حتى تقتلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...