شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في حيّنا

في حيّنا "مجنون" نحسده

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 18 يونيو 202110:43 ص

أرسَلَت إليّ أمي اليوم ست رسائل صوتية على واتساب، وكتبت تقول: "اسمع، ربيع عامل حفلة اليوم". كانت الرسائل كلها عبارة عن تسجيلات صوتية لجارنا ربيع الذي يطلق عليه الجميع وصف "المجنون".

ربيع شاب ثلاثيني مقيم في مدينة جبلة السورية، يحاول التودد إلى الجميع، وكسب التعاطف والاحترام. وجهه مشوّه لكثرة المشاكل التي انخرط فيها. يعمل معاوناً لسائق آلية نقل عام، ويعتبر قسم كبير من أهل المدينة أنه مجنون، وسريع الانفعال، وهو أصلاً يحمل بطاقة "غير مسؤول عن أفعاله"، تنقذه دائماً من المحاكمة، لكنها لا تنقذه غالباً من ضربات رجال الأمن.

بين الفينة والفينة، يقف ربيع على شرفة منزله صارخاً بأعلى صوته، مفصحاً عمّا يجول في باله، ويضايقه، متفوّهاً علناً بعبارات يعدّها الجميع مجنونة، ويتناول فيها الدين، والسياسة، والطائفة... يشتم، ويضرب، ويكسر السيارات برميه ما في متناول يديه عليها، من الأعلى.

القصة الأولى التي شهدتها لربيع كانت عام 2008: وقف على شرفة منزله بعد مشكلة بين شباب في حارتنا، سرعان ما تحوّلت إلى مشكلة طائفية. وقف يشتم السنّة عادّاً إياهم متآمرين علينا نحن العلويين. راح يصرخ، ويرمي السيارات بالطوب والحجارة التي يجمعها لمناسبات كهذه، عن سابق إصرار وتحضير، ما يشكك في رواية أمه المسكينة التي تقول إنه يفقد أعصابه عندما تنقطع المهدئات وأدوية الأعصاب من الصيدليات.

بعد شتمه السنّة، راح "المجنون" يُخرج ما في داخله، ويصرخ: "لاقوا شغل، هنن ما بدن ياكن تشتغلوا لتظلوا تضربو بعض، تقتلو بعض، يا ولاد الشرمو*ة"، ثم انتقل إلى الفقرة المُعادة عند كل ظهور نوبة عصبية عليه: "أنا أخوي انقتل، وما حدا جبلو حقو. الله يلعنك يا حافظ الأسد عبشار الأسد عباسل الأسد. تاركينّا نعلق ببعضنا، وراكدين ورا المصاري والحكم".

يذكّر ربيع دائماً بأخيه المقتول، وبأن الأمن الجنائي لم يكن متعاوناً في القضية ولم يكشف قتلته. لم يكمل في أي مرة القصة للنهاية كي نعرفها. فمتى يبدأ بشتم آل الأسد، تصل سيارات الأمن من الفرع الموجود في حيّنا، وينزلونه من بيته، ويضربونه أمام الناس، ويركلونه، ويجرّونه في الشارع وهم يضربون رأسه بطرف "الروسية"، وتبقى دماؤه في الشارع يومين، ليعود في اليوم التالي إلى بيته مضرجاً بدمائه، ويهدأ لأسابيع.

المرة الثانيه كانت عام 2013، حين خرج يعطينا درساً دينياً كما يحبّ، واستطاع أن يقطع الكهرباء والهاتف عن الحي بطريقه تخريبية، وبدأ يشتم المعارضة الإسلامية التي تريد قتل العلويين، ويحيّي الرئيس الأسد. لم يتدخل أي عنصر أمن من المفرزة القريبة هذه المرة فوراً. ولكن، كالعادة بعد دقائق، خرج "المجنون" فيه ليشتم آل الأسد، ويحمّلهم المسؤولية: "آخدينا نقاتل لنجوع، ونفقر، ونموت، وتظلوا عالكراسي يا عرصات، عشو باسل الأسد شهيد وأخوي مانو شهيد؟ عشو صور باسل الأسد معباية الدنيا. أخوي صرمايتو بكل بيت الأسد..."، ثم راح يرمي ما يقع في متناول يديه. رمى جرّة غاز، بعد إشعالها، على سيارة الأمن المتوقفة تحت منزله، ورماها بالطوب والحجارة، وبـ"فرن الصاج" الوحيد الذي في بيتهم المتواضع. خاض معركة كاملة ولكن غير متكافئة في وجه سيارة الأمن، ورجالها.

"‘المجنون’ قال ما لم يستطع الكثيرون قوله. قال للناس إنهم يتركوننا بلا عمل كي نقتل بعضنا، وسألهم لماذا يقاتلون في حروب على الكرسي؟ ولماذا نرى صورهم في الشوارع؟ والكثير الكثير"

وقتها قبضوا عليه بالتأكيد، ولم يتجرأ أحد منّا على أن ينظر إلى مشاهد الضرب والتعذيب التي تعرض لها ربيع في الشارع، أو يتعاطف معه علناً. جرّوه على الزجاج الذي كسره في الطريق، وهو يصرخ قبل أن يُغمى عليه: "أنا شعب... حاج تقتلو الشعب، حرام عليكم"، وسحبوا منه بطاقته التي تثبت أنه غير مسؤول عن أعماله كعقاب له، فعاد مواطناً عادياً مسؤولاً عن أعماله مثلنا، بعد أن كان "الجنون" يمنحه الحرية ويسمح له بأن يقول ما يريد، وكيفما يريد.

في كل مرة يتهامس أهالي الحي بكلام ربيع، يقولون: "والله هالحكي ما بيطلع من مجنون". يبتسمون، ويقهقهون تشفيّاً برجال الأمن الذين سمعوا شتيمة معلّمهم على الملأ. فربيع ينفّس غضب كل مَن يحضر هبّاته، ويتكلم بدقة ومنطق لا يجرؤ أحد منّا عليهما، ويتحمّل، وحيداً، وحشية رجال الأمن الذين يعمدون إلى "تربيته" أمام أعيننا.

عودة ربيع مواطناً عادياً غير "مجنون" سمحت له بالتطوع في قوات سهيل الحسن، وبحمل السلاح. في إجازته الأولى بعد ذلك، عاد ليفتح النار على مفرزة للأمن العسكري في حارتنا، وبدأ يصرخ مطالباً بحق أخيه، وشاتماً آل الأسد، فاعتقلوه بعد مناورة معقدة غاب على أثرها طويلاً، حتى عاد إلينا مجرداً من سلاحيه اللذين يحتاج إليهما أي سوريّ في الداخل، للتعبير عن رأيه: "الروسية"، وبطاقة "المجنون".

تسجيل ربيع الذي أرسلته إليّ أمي عبر واتساب كان كله عن أخيه. أخبرتني أنه كسّر سيارات الحارة كلها، وشتم رجال الحارة كلهم، ورمى أثاث المنزل من الشرفة. جُنّ جنونه "على الآخر". وأثبت جرأته مجدداً بلا سلاح، وبلا بطاقة مجنون، ورفع سقف التحدي لنا جميعاً. تكلّم عن أخيه طوال الوقت. وتحدث عن الانتخابات: "كلكن عرصات. كل الطوائف عرصات. معو وضدو. كلكن رايحين تنتخبوه، وصورو معبايه البلد بكل الشوارع، وأنا حق أخوي وين؟".

"نحن نعلم أن تعذيب ‘المجنون’ في الشارع، وعلى الملأ، ليس لتربيته هو، بل لتربيتنا نحن إذا ما ترددنا يوماً في إخفاء المجنون الذي في داخل كل واحد منّا!"

في كل مرة يقول لنا ربيع فيها لن أيأس، أو أخاف، ينظر إليه الجميع علناً على أنه مجنون الحارة الذي يعيبونه، ويتحاشونه، مع أن الكل يشمتون بالدولة إثر كلامه عنها، سرّاً. ربيع المجنون قال ما لم يستطع الكثيرون قوله. قال للناس إنهم يتركوننا بلا عمل كي نقتل بعضنا، وسألهم لماذا يقاتلون في حروب على الكرسي؟ ولماذا نرى صورهم في الشوارع؟ والكثير الكثير.

شتم الله، والإمام علي، والرئيس، والعائلة كلها. كسر التابوهات كلها في مجتمعنا. مجنون ربيع هو لاوعينا الصادق جميعنا. أحسده على جرأته، وعلى تحمّله. تصوّروا لو أن هناك مكاناً في هذا البلد نستطيع دخوله لنصرخ بآلامنا حتى يختفي صوتنا كربيع، لنشتم ونلعن مَن مسخ حياتنا، لنعيش حريتنا وفوضويتنا بعيداً عن التكلف والخوف. ربيع لم ينتظر المكان الحر هذا، بل صنعه على شرفة منزله. أي طاقة هذه!

لو أن في كلّ حيّ شخصاً يخرج منه مجنون كربيع، عند كل مناسبة، لشكّلوا رأياً عاماً كافياً، في مجتمع علوي عاد لا يتجرأ على الخوض في الأحاديث السياسية بعد عشر سنوات من الحرب، كما لو أنه في ثمانينيات القرن الماضي.

يتهامس الناس بالنقد سرّاً، ويضعون صور آل الأسد على شرفات منازلهم، وعلى صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، خوفاً. الجانب المجنون في ربيع، موجود فينا جميعاً نحن السوريين، ونخشى أن يخرج في لحظة غضب، في المكان الخطأ، فينهي مستقبلنا بحقيقيته. تجبرنا السلامة على أن نكبته ونئده مئات المرات يومياً: في طوابير الخبز، والسكر، والأرزّ، والغاز. نكبحه على الحواجز، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. نخفيه أمام صور آل الأسد الكبيرة التي تغطي معالم مدننا. نخرسه أمام عبارات المديح والغزل المستفزّة بعيون القائد، وحتمية ألوهيته. نقتل مجنوننا البريء، كي يعيش مجنون يقضي على مستقبلنا.

نحن نعلم أن تعذيب ربيع في الشارع، وعلى الملأ، ليس لتربيته هو، بل لتربيتنا نحن إذا ما ترددنا يوماً في إخفاء المجنون الذي في داخل كل واحد منّا!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image