عرفت مصر منذ أقدم العصور، ظهور واحدة من أهم الحضارات الإنسانية على الإطلاق، إذ تمكن المصريون الذين استقروا في الدّلتا ووادي النيل من إقامة دولة قوية، وانتشرت بينهم الكثير من مظاهر الفنون والآداب والقيم المجتمعية السامية، والتي عبّرت عن التفوق الكبير لتلك الحضارة.
أحد أهم العوامل التي أسهمت في تشكيل تلك الحضارة العظيمة، كان نهر النيل، ذلك الذي وفّر للمصريين الفرصة المواتية لممارسة الزراعة والريّ، مما هيأ لهم السّبلَ للاستقرار والازدهار في تلك الأرض الخصبة، الأمر الذي عبر عنه المؤرخ اليوناني هيرودوت بقوله الشهير "مصر هبة النيل".
أهمية نهر النيل ظهرت بشكل واضح في الميثولوجيا القديمة التي انتشرت داخل مصر وخارجها؛ فعلى سبيل المثال، أهتم اليونانيون القدامى بالنيل، فأدخلوه في حكاياتهم ونسجوا حوله القصص الأسطورية، كما ربطوه بآلهتهم المعظمة التي عبدوها في اليونان وفي مصر البطلمية.
مصر واليونان: اللقاء الأول
عرف الإغريق طريقهم إلى الحضارة المصرية منذ فترة موغلة في القدم، إذ سهل البحر المتوسط من عملية انتقال المؤثرات الحضارية بين سواحله الشمالية والجنوبية، وظهرت آثار ذلك الاتصال في الملاحم الشعرية الخالدة كالإلياذة والأوديسا، كما تبدّت بعض ملامحه في قصص أوديب وبجماليون وبريسيوس، وغيرها من الأدبيات الإغريقية ذائعة الصيت.
الكثير من الإغريق اتصلوا بمصر ووفدوا إليها في شكل جماعات فئوية في الألف الأول قبل الميلاد، ومنهم على سبيل المثال، المرتزقة، الذين يعود أول تواجد حقيقي لهم في مصر إلى عهدي إبسماتيك الأول ونخاو الثاني في القرن السابع قبل الميلاد، حينما لعبوا دوراً مهماً في دعم قوة الجيش المصري في عصر النهضة، فأسهموا في توسيع رقعة الإمبراطورية المصرية في آسيا، كما حاربوا بعدها بجانب المصريين إبان الغزو الفارسي لمصر في الربع الأول من القرن السادس قبل الميلاد.
اليونانيون قدموا أيضاً إلى مصر في صورة تجار وبحارة، فتمركزوا في مدينة نقراطيس التي تم تخصيصها لليونانيين، وتبادلوا مع المصريين العديد من السّلع والمصنوعات، ومنها على سبيل المثال، كلّ من الخزف والمنسوجات الكتانية وأوراق البردي والعاج والخزف. في السياق نفسه، استقبلت مصر الكثيرَ من طلبة العلم اليونانيين، والذين قدموا مصر للدراسة والتعلم، وكان على رأسهم كلٌّ من أورفيوس وهوميروس وليكورجوس وسولون وديموقريطس وفيثاغورس وأفلاطون.
النيل في المِخيال الإغريقي: النهر ذو القدرات السّحرية
بحسب ما يذكر الباحث المصري الدكتور أبو اليسر فرح في كتابه " النيل في المصادر الإغريقية"، فقد كان ثمة اعتقاد شائع بين اليونانيين في العصور القديمة بأن نهر النيل يحظى بقدر كبير من القداسة والاحترام والتبجيل، وبأن له مجموعة من المزايا والقدرات السحرية، للدرجة التي حدت ببعض المؤرخين اليونانيين، من أمثال بلوتارك، للقول بأن الفُرس عندما احتلوا مصر قد احتفظوا في خزائنهم ببعض القوارير التي احتوت على مياه النيل بجوار قوارير أخرى احتوت على مياه نهر الدانوب، وذلك للتأكيد على عظمة إمبراطوريتهم وعالميتها، إذ كان النيل وقتها يرمز للشرق، فيما كان الدانوب يرمز للغرب، بما يعني أن الفرس قد فرضوا سيطرتهم على العالم.
كان اعتقاد شائع بين اليونانيين في العصور القديمة بأن نهر النيل يحظى بقدر كبير من القداسة والاحترام والتبجيل، وله قدرات سِحرية
أيضاً ذهب بعض الشعراء اليونانيين للقول بأن لمياه النيل بعض القدرات السِّحرية المدهشة، فهي تشفي من الأمراض كما ذكر أسخيلوس في بعض مسرحياته، كما أنها تؤدي لزيادة وزن من يشرب منها كما ذكر بلوتارك في رسالته عن إيزيس وأوزيريس.
المؤرخ اليوناني الأشهر هيرودوت بالغ في وصف خيرية ونفع النيل وذلك عندما أكّد أن مصر كلّها ما هي إلا هبة من هبات هذا النهر العظيم؛ إذ ذكر في مشاهداته أن مصر -بالأساس- لم تكن إلا جزءاً من البحر المتوسط، وأن النيل الذي جلب معه الكميات الهائلة من الطمي الأسود الخصب من أثيوبيا، قد تسبب في ظهور وتشكيل تلك الأرض على مدار القرون.
النيل في الأساطير اليونانية
دخل نهر النيل في البناء القصصي للعديد من الأساطير القديمة، ومن ذلك ما ذكره المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي في القرن الأول قبل الميلاد، عندما ربط بين نهر النيل من جهة والتاريخ والجغرافيا المصرية من جهة أخرى، وذلك أثناء تناوله لقصة تأسيس مدينة منف -أول عواصم الدولة المصرية بعد التوحيد- إذ يذكر أن "منف" هو اسم ابنة الملك الذي بنى تلك المدينة، وأن إله النيل قد أحبّ تلك الفتاة وتمثل لها في شكل ثور، وأنجب منها إيجيبتوس الذي اشتهر بالفضيلة والخير فارتقى العرش وتولى الحكم، ومن ثم أطلق الناس اسمه على جميع البلاد. وهكذا تعبر تلك القصة الأسطورية عن دور النيل في إحياء مصر، ولكن من خلال حكاية رمزية ااستُخدمت فيها مفردات السلطة والحكم كعادة الشعوب القديمة في التعبير عما يدور في وجدانها الجمعي.
قداسة النيل تعدت حدود الحياة التقليدية، فنجدها وقد ألقت بظلالها على الموت كذلك؛ فعلى سبيل المثال، يذكر هيرودوت أن من يموت غريقاً في النيل يكتسب نوعاً مخصوصاً من التكريم، فإذا اختطف تمساح أحد المصريين أو الأجانب على حد سواء، أو جرفه النهر نفسه ثم طفت جثته، تحتم قطعاً على سكان المدينة التي وصلت عندها الجثة أن يحنطوها وأن يعتنوا بها كل العناية، وأن يدفنوها في مقبرة مقدسة.
من الأمور المهمة التي تجب ملاحظتها هنا أن تأليه النيل كان أمراً معروفاً وشائعاً في التراث اليوناني منذ فترة قديمة؛ فإن كان المصريون قد عبدوا النيل في صورة الإله حابي، فإن اليونانيين القدماء قاموا بتقديسه على نحو مشابه، وذلك عندما عملوا على الرّبط بين النيل والإله زيوس، أكبر آلهة اليونان، وكان السبب في ذلك أن زيوس هو إله المطر والماء في عقيدة اليونانيين. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما نُسب للشاعر اليوناني يوربيديس من قوله: "إن النيل يروي أرض مصر بدلاً من أمطار زيوس".
يذكر هيرودوت أن من يموت غريقاً في النيل يكتسب نوعاً مخصوصاً من التكريم
أما في العصر البطلمي، فقد استمرت عبادة النيل شائعة بين اليونانيين المقيمين بمصر، وذلك عندما تمّ الربط بين كلٍّ من الإله اليوناني سيرابيس والإله المصري أوزيريس والنيل. ولذلك نجد أن النيل في الثقافة اليونانية -والبطلمية- قد ظهر مشابهاً لسيرابيس، إذ جرى تصويره على هيئة عجوز ملتحٍ يبدو عليه الوقار، وسمي باسم نيلوس، وهو الاسم الذي اشتقت منه فيما بعد كلمة "النيل".
ولئن كان فيضان النيل واحداً من بين الظواهر الطبيعية المهمة التي اعتاد القدماء أن يعملوا على تفسيرها في سياق ميثولوجي أسطوري، فإن اليونانيين قد ربطوا بين ظاهرة فيضان النيل من جهة، وأسطورة أوزيريس وإيزيس وست من جهة أخرى؛ إذ قالوا إن الفيضان هو سيل أوزيريس، وأن الأرض هي إيزيس، وعلى هذا يكون غمر المياه للأرض نوعاً من أنواع المعاشرة الزوجية التي تهدف للإخصاب والنماء. أما الرياح القوية التي تدفع الفيضان بالاتجاه المضاد وتمنع نزول الأمطار فهي قوة ست الشرير التي تبغي القحط والجدب.
مما هو جدير بالملاحظة أيضاً، أن القيمة الاقتصادية للفيضان قد دخلت في تشكيل الصورة الفنية للإله نيلوس؛ ذلك أن الدولة خلال العصر البطلمي والعصر الروماني كانت قد اعتادت أن تحدّد الضرائب المفروضة على الأفراد بناءً على ما يحدّده مقياس النيل، وكان من المعتاد أن يُنظر للفيضان الذي يسجل ارتفاع 16 ذراعاً، على كونه فيضاناً طيباً وينشر الخير والنماء؛ ومن هنا لم يكن من الغريب أن نجد أن الإله نيلوس في الفن اليوناني والروماني قد أحاط به 16 ابناً من أبنائه، في إشارة لدرجات المقياس.
النيل أيضاً ارتبط ببعض الأساطير التي تفسّر كرهَ بعض الحيوانات أو تكريمها؛ فعلى سبيل المثال، فسر بلوتارك السبب في أن المصريين لا يحبون بعض أنواع السمك التي تعيش في النيل، وربط ذلك بأسطورة إيزيس وأوزيريس، والتي ورد فيها أن الزوجة الطيبة الوفية إيزيس، قامت بجمع جميع أعضاء جثمان زوجها المتوفى إلا عضو التذكير، فلم تجده لأن سمك المرجان واللبيس والكراكي قد أكلوه. الأمر الذي حدا بالمصري القديم لرفض تناول تلك الأنواع من الأسماك.
ربط اليونانيون بين النيل والإله زيوس، أكبر آلهة اليونان، وكان السبب في ذلك أن زيوس هو إله المطر والماء في عقيدتهم؛ ومن هنا نفهم ما نُسب للشاعر اليوناني يوربيديس من قوله: "إن النيل يروي أرض مصر بدلاً من أمطار زيوس"
أيضاً ذكر بلوتارك سبب تكريم التمساح في الثقافة المصرية الشعبية القديمة رغم خطورته الشديدة على حياة الإنسان، إذ يقول إن المصري القديم قد نظر إلى ذلك الحيوان المفترس الذي يسكن النيل على كونه صورة للإله، وذلك لأن التمساح هو الحيوان الوحيد الذي لا لسان له، وهو الحيوان المائي الوحيد الذي يغطي عينيه غشاء رقيق يتدلى من جبهته، ولكنه رغم ذلك يستطيع أن يرى من خلاله؛ وهي الصفات التي اعتقد المصريون إنها صفات إله، وذلك لأن العقل الإلهي يستطيع أن يوصل كلمته بلا لسان، كما يستطيع أن يرى ويطلع على جميع الأشياء رغم كلّ الحجب.
من أين ينبع النيل؟
كان السؤال حول مصدر مياه النيل، أحد أهمّ الأسئلة التي أثيرت في كتابات المؤرخين والفلاسفة اليونانيين القدماء، وقد حملت معظم الإجابات التي خُصصت للردّ على هذا السؤال بعداً ميتافيزيقياً غامضاً يتصل بالتصور السائد لجغرافية العالم في تلك الفترة القديمة؛ على سبيل المثال، كان هوميروس أول من أدلى بدلوه في تلك المسألة، عندما ذكر أن مياه النيل تأتي من السماء، فقال إن النيل "يأتي من زيوس، يأتي من أمطار السماء".
أما ديودور الصقلي فقد أشار لآراء بعض العلماء والفلاسفة الذين قالوا إن النيل يستمد مياهه من الأوقيانوس، وهو البحر العظيم المحيط بالكرة الأرضية بحسب التصورات اليونانية الأسطورية.
وبحسب ما يذكر الدكتور أبو اليسر فرح في كتابه سابق الذكر، فإن تلك المسألة قد شغلت بال الفيلسوف اليوناني الأشهر أرسطو، الذي اعتقد أن النيل ينبع من منطقة مجهولة تُعرف باسم جبال الفضة، ويبدو أن تلك المسألة قد استحوذت على قدر كبير من اهتمام أرسطو للدرجة التي حدت به لأن يوصي تلميذه الإسكندر المقدوني بضرورة العمل على استكشاف منابع النيل عقب غزوِه لمصر.
المؤرخ الروماني بلينيوس الأكبر، شارك أيضاً في ذلك الجدل في القرن الأول الميلادي، وذلك عندما عرض لبعض التصورات التي قال بها بعض القدامى، ومن أبرزها ما ذكره يويا الثاني حاكم موريتانيا من أن النيل ينبع في أرض موريتانيا في أقصى الغرب الأفريقي، بالقرب من شاطئ المحيط الأطلنطي عند سفوح جبال الأطلس، حيث توجد بحيرة تغذيها الثلوج التي تذوب عند قمم هذه الجبال، ثم تنتقل المياه في أنفاق طبيعية تحت الأرض إلى أن تصل لأثيوبيا في أقصى الشرق الأفريقي، وتأخذ بعدها طريقها لمصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون