يبدو أن منسوب الشعور بالمسؤولية لدى الطبقة السياسية في تونس بات معدوماً، أو أنها وصلت إلى أدنى درجاتها على الإطلاق. يظهر هذا جلياً، اليوم، في ظل الانفصال الكبير بين مشاغل النخب الحاكمة المنصبّة على معاركها، من أجل الاستمرار في السلطة، وهموم الناس ومشاغلهم المتفاقمة يوماً بعد آخر، في مشهد درامي وساخر يبعث على الاعتقاد، وربما الإقرار، بأننا إزاء فضاءين منفصلين في الزمان والمكان، وأن فرضية انتماء الطرفين إلى بلد واحد، مخيفة ومخجلة. مخيفة لأنها تعكس حقيقة الهوة السحيقة بين النخب الحاكمة وعموم الشعب في تونس، والتي بلغت حد استهتارهم، بلا حياء، بمآسي الناس، وأوجاعهم، وإزهاق أرواحهم وأحلامهم، وما تبقى لهم من أمل في غدهم. ومخجلة لأنها تعصف بالجزء السليم المتبقي من صورة البلاد المتآكلة والمهزوزة، سواء أمام أبنائها، أو أمام العالم من حولها.
لقد كشفت الأزمة الصحية الراهنة في تونس، أن بوصلة الحكام معدلة لتشير إلى الحكم، وضمانات البقاء في السلطة، لا غير. أما الشعب، فهو مجرد مطية للوصول إلى هذه السلطة
إن سرد محطات هذه النخب الحاكمة ومساراتها، ولا مسؤوليتها، والعبث بمصير مواطنيها، يحتاج إلى وقت وفضاء بسعة السماء، ليُحتمل هول المواقف والأفعال المفجعة التي يقترفونها بشكل يكاد يكون يومياً. لهذا، ولأن فضاءنا محدود، سنتوقف عند آخر الفواجع التي تعيش على وقعها البلاد حالياً. ففيما تستمر صراعات الساسة، تأتي الصور والشهادات من محافظات القيروان، وسليانة، وباجة، وزغوان، وقد تلتحق محافظات أخرى بالركب، لتروي مأساة هذه المناطق مع فيروس كورونا. أناس يموتون لأنهم لا يستطيعون تأمين جرعة من الأوكسجين، وآخرون يقضون لعدم وجود سيارات إسعاف تنقلهم، وآخرون يبقون على عتبات مستشفيات تفتقر إلى أبسط المعدات، ليموتوا تحت أشعة الشمس الحارقة في انتظار دور لن يأتي أبداً، وطرق أخرى مشابهة في الموت جعلت أعداد الموتى في هذه المحافظات تتجاوز المئة حالة وفاة يومياً. في محافظة القيروان المنكوبة، فاقت أعداد الوفيات المساحة المخصصة لاستقبال الجثث في المستشفى الأكبر في المدينة، مما أدى إلى بقائها في فضاءات لا تهيئ البرودة اللازمة لحمايتها، وتالياً تعفن بعضها. وعلى الرغم من فداحة ما يجري في هذه المحافظات المنسية أساساً، وهوله، وعلى الرغم من بشاعة الأخبار القادمة من هذه المناطق، وفظاعة الصور والشهادات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر الإعلام بمختلف وسائله، إلا أن ذلك لم يكن كافياً حتى يتخلى الساسة عن صراعاتهم، ويتحملوا مسؤوليتهم الأخلاقية تجاه شعب يباد داخل المحافظات الفقيرة التي باتت عاجزة تماماً عن المقاومة، بعد أن استنفدت طاقتها المحدودة.
لقد كشفت الأزمة الصحية الراهنة في تونس، أن بوصلة الحكام معدلة لتشير إلى الحكم، وضمانات البقاء في السلطة، لا غير. أما الشعب، فهو مجرد مطية للوصول إلى هذه السلطة عن طريق التصويت في الانتخابات. تنتهي مهامه وأهميته عند هذا الحد. كيف لا، ونحن إزاء برلمان وحكومة ورئاسة ترى مواطنيها وهم يتساقطون يومياً بسبب الإهمال، وضعف الخدمات الصحية، وانعدامها، من دون أن تبالي بهم، بل وتسلط اهتمامها بعيداً عنهم. فهي من جهة منشغلة بصراعاتها الداخلية من أجل المزيد من النفوذ، والتغلغل أكثر في السلطة، وليست على استعداد للتنازل، أو الالتفات إلى قضية أخرى قد تحيد بها، ولو جزئياً، عن هذا الهدف الأهم بالنسبة إليها. ومن جهة أخرى، هي منشغلة بالحوار السياسي المنتظر، والشروط التي ستوضع للانخراط فيه، والمكاسب التي ستجنيها من ورائه. هذه هي الأولويات التي تشغل الطبقة السياسية في تونس اليوم. وما عدا ذلك ثانوي، وربما بلا قيمة، حتى وإن كانت حياة الشعب وسلامته على المحك.
لا أحد بين هؤلاء الساسة التفت التفاتة صدق، وأدرك أن المعركة التي يخوضها التونسيون بمفردهم، هي معركة من أجل البقاء على قيد الحياة
لا أحد بين هؤلاء الساسة التفت التفاتة صدق، وأدرك أن المعركة التي يخوضها التونسيون بمفردهم، هي معركة من أجل البقاء على قيد الحياة، وأن ذلك يعني أن المصاب جلل، وخطير، وأكبر من مهاتراتهم، ومن صراعاتهم، وأهم. لا أحد بينهم يبالي، أو يشعر بالحياء بسبب تقصيره، أو بالأسف على حياة المئات الذين يموتون لمجرد أنهم لم يقوموا بأدوارهم الموكلة إليهم تجاه شعبهم. واقع يضعنا أمام وجهين لتونس؛ وجه ضاحك، وبطون منتفخة من فرط الشبع، والراحة، وغيرها من صنوف الانتعاش. وهي عبارة عن مجموعة حملتها الصدف إلى سدة الحكم على الرغم من انعدام الرؤية، وغياب البرامج. مجموعة تملك ترف الوقت، والإمكانات، لتخوض نقاشات حول شكل النظام السياسي وغيره، في خضم وضع صحي كارثي تمر به البلاد، ولا تتردد في الدفاع عن كرسي الصدفة هذا بالسبل كلها، حفاظاً على امتيازات كبيرة، ربما لم يخطر ببالها يوماً أنها ستحظى بها. ووجه آخر حزين، وقوى خارت بعد أن أنهكتها شدة المقاومة، وهي تحصي أبناءها الذين قضوا، أو ما زالوا يتساقطون يومياً على مسمع طبقة سياسية فاشلة هي أشد فتكاً، بسقوطها الأخلاقي، من المرض، وعلى مرأى منها.
وفي انتظار صحوة هذه الطبقة السياسية التي قادت البلاد، وما زالت، إلى الخراب، تواصل محافظات القيروان، وسليانة، وزغوان، وباجة، مقاومتها موت أبنائها، فرادى، من دون بنية تحتية صحية تستطيع مجاراة عدد المصابين بالفيروس، ومن دون حس بالمسؤولية من قبل الجالسين على كراسيهم المريحة، والذين يسمَّون، كذباً وبهتاناً، حكاماً، وُجدوا لخدمة شعوبهم، وحمايتها. إنه من المؤسف أن يموت الناس بالوباء، وبالشكل الذي يحدث في هذه المحافظات. إنها مأساة حقيقية. لكن موت الدولة، وانعدام الشعور بالمسؤولية لدى الطبقة السياسية الحاكمة تجاه حياة الناس، ومصائرهم، هي النكبة الكبرى، والسقوط المدوي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...