لا يخفى على أحد أن التقارب السوداني المصري في أحسن حالاته في الآونة الأخيرة، ولكن هل مبعث ذلك أن البلدين عادا معاً إلى منصة التأسيس في شأن وحدة مصير وادي النيل، أم أن أزمة سد النهضة الإثيوبي أحيت مقولات المصير المشترك من مدخل "إن المصائب يجمعن المُصابينا".
قبل الغوص في تحليل هذا الوضع، تلزمنا الإشارة إلى أحد مظاهر هذا التقارب البائن، متمثلاً في مشاركة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مؤتمر باريس لدعم السودان، وتدشين وصوله إلى العاصمة الفرنسية بعقد لقاء مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان.
خلفية مهمة
منذ تسعينيات القرن المنصرم، شهدت علاقات السودان ومصر تجاذبات حادة أزكاها وصول نظام عمر البشير ذي التوجهات الإسلامية المتشددة إلى الحكم في السودان عام 1989، ما جعله في حالة عداء مع نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي يقف موقفاً معادياً للإخوان المسلمين.
وبناءً على الشهوة التي تصيب النظم الراديكالية والأصولية لتغيير الكون، جرت محاولة سودانية فاشلة لاغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995، تلاها بسط القوات المصرية نفوذها في مثلث (حلايب-شلاتين-أبو رماد)، وإيواء المعارضة السودانية المسلحة، ليتخذ الصراع بين البلدين منحى شديد التوتر.
وبعد سنوات من القطيعة، ومع الوصول إلى اتفاقات بين الخرطوم والمعارضة عام 2005، نحت علاقات البلدين نحو حالة من التهدئة، وجرى توقيع كثير من التفاهمات المشتركة التي لم تتطرّق جميعها إلى سد النهضة.
"تفعيل خيار العمل العسكري ضد سد النهضة، وإن كان مستبعداً حالياً، إلا أنه خيار مطروح على الطاولة، ويحتاج إلى تحضيرات مكثفة، يمكن أن تحوله من كارت تفاوضي إلى أمر واقع متى استدعت الأحوال"
وعاد السودان إلى المواقف المتشددة، بدعمه لكل ما هو مناوئ لمصر في حقبة مبارك، من الحراك الشعبي الذي أطاح بالرئيس المصري، إلى تأييده قيام سد النهضة نكاية بمصر، وبدعمه المطلق لنظام الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي.
وبعد وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي، صنّف كثير من الإسلاميين الحاكمين ما جرى في الجارة الشمالية على أنه انقلاب، وإن لم يُقل هذا بشكل رسمي، ما أعاد حقبة الحرب والجمود والتكلس التي تصيب مفاصل العلاقة بين البلدين.
ولم تبدِ مصر حماساً كبيراً للتغيير الذي جرى في السودان في شهر نيسان/ أبريل 2019، على الأقل إلى حين تكشُّف اتجاهات الحكومة الجديدة في الخرطوم، ولكن ذلك انتفى كلّياً تقريباً بعد تطابق مواقف الخرطوم والقاهرة بشأن السد الإثيوبي، المصنّف على أنه تهديد مباشر للأمن القومي للبلدين، ووطأ السيسي التراب السوداني للمرة الأولى بعد مرور قرابة العامين على الإطاحة بالبشير.
السد الإثيوبي
الحضور المصري الأبرز في السودان حالياً، يلي دعم السودان في قضيته ضد إثيوبيا، ويشمل في حالتنا هذه مدّ يد العون في ملفّي سد النهضة والتوتر الحدودي عند منطقة الفشقة شديدة الخصوبة.
يقول المحلل السياسي محمد عبد المجيد لرصيف22 إن تحركات السودان ومصر في شأن السد الإثيوبي، تنبئ عن تفاهمٍ وتناغمٍ كبيرين.
مضيفاً أن الموقف متطابق في توصيف السد على أنه تهديد لأمن البلدين، لا سيما إن استمرأت إثيوبيا خطواتها الآحادية بشأن عمليتي الملء والتشغيل.
ولفت عبد المجيد إلى تطابق الموقف الفني حول السد، وتناغم التحركات بشأن التصعيد وصولاً إلى تقديم شكاوى ضد إثيوبيا في مجلس الأمن، والعمل الدبلوماسي لحشد المواقف الدولية ضد التحركات الإثيوبية الهادفة على ما يبدو للسيطرة على منابع النيل الأزرق وهو الرافد الرئيسي للنيل.
تقارب عسكري
يعتقد الخبير العسكري المتقاعد، العقيد أمن أبو عبيدة الوالي، أن أكبر مظهر للتقارب السوداني المصري، عسكري بامتياز.
يقول الوالي لرصيف22، إن تفعيل خيار العمل العسكري ضد سد النهضة، وإن كان مستبعداً حالياً، إلا أنه خيار مطروح على الطاولة، ويحتاج إلى تحضيرات مكثفة، يمكن أن تحوله من كارت تفاوضي إلى أمر واقع متى استدعت الأحوال.
ويحتاج تفعيل ضرب السد -بحسب الوالي- إلى تعاون كبير، سواء في فتح المجال السوداني أمام الطيران المصري، أو انطلاق الطائرات في رحلتها لضرب السد من المدارج السودانية، هذا مع التحسب لكافة سيناريوهات اشتعال حرب إقليمية في المنطقة عبر عمل عسكري مشترك، للحد من التأثير على مصالح البلدين.
ولا يرى الوالي بدّاً من استخدام كافة الكروت قبل استخدام الحل العسكري، بما في ذلك الضغط لفرض عقوبات على إثيوبيا لزيادة السخط الشعبي، والتحركات الرافضة لنظام آبي أحمد لا سيما في إقليم تيغراي، مع أهمية تحييد إريتريا من مشهد الصراع القائم، في الحدود الدنيا.
"فرص التكامل الاقتصادي بين البلدين كبيرة جداً، ففي حين تشهد مصر انفجاراً سكانياً، فإن حجم الأراضي الزراعية غير المستغلة في السودان كبير جداً، وتالياً فإن الإفادة من المقدرات الزراعية في شمال الوادي، وإقامة المصانع الضخمة في محالّ الإنتاج، سيكون له أثر كبير"
وفي الصدد، طالب الوالي بحصول السودان على كامل الدعم المصري في ما يلي ملف الصراع في الفشقة، باعتبار أن القوة المتمركزة على الحدود الإثيوبية، ستكون في خط المواجهة الأول حال اتخاذ قرارٍ بضرب السد القريب من الحدود السودانية.
وفي منحى ذي صلة، قال الوالي إن التعاون العسكري بين السودان ومصر، وإن بدا موجهاً ناحية الشرق، إلا أننا نجد له تقاطعات بشأن مكافحة الإرهاب والهجرات غير الشرعية، وضمان استقرار الأوضاع في الجوار الليبي، من خلال نشر قوات مشتركة على طول منطقة المثلث الحدودي عند جبل العوينات.
وجود اقتصادي
يشدد المحلل الاقتصادي جمعة عبد الوهاب، على أن الاقتصاد وحده هو القادر على ترميم التشققات في جدار علاقات السودان ومصر.
يقول جمعة لرصيف22 إن فرص التكامل الاقتصادي بين البلدين كبيرة جداً، ففي حين تشهد مصر انفجاراً سكانياً، فإن حجم الأراضي الزراعية غير المستغلة في السودان كبير جداً، وتالياً فإن الإفادة من المقدرات الزراعية في شمال الوادي، وإقامة المصانع الضخمة في محالّ الإنتاج، سيكون له أثر كبير في خفض فاتورة استيراد المنتجات الغذائية في مصر، وفي زيادة المداخيل للخزينة السودانية.
وحثَّ جمعة الجانب المصري على المسارعة في إقامة مشروعات الربط الكهربائي، وإمداد السودان بالطاقة بما يمكّنه من إنهاء معاناة القطوعات، وتعزيز القطاعين الزراعي والصناعي، وزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى أكثر من 699 مليون دولار.
ويراهن جمعة على أن التدخلات المصرية لتطوير الموانئ السودانية، سيكون له بالغ الأثر في إحكام البلدين قبضتيهما على الحركة الملاحية في البحر الأحمر، والطريق المؤدّية إلى قناة السويس.
مصر في المخيّلة الشعبية
بعيداً عن وقائع السياسة والاقتصاد، كيف ينظر السودانيون إلى مصر في مخيّلتهم الشعبية؟ وأين وصل المجتمع المحلي من تبايناته حول هذه القضية المستمرة، هذا وإن بدأت من قبل استقلال السودان بشعارين: الاتحاد مع مصر، وأن يكون السودان للسودانيين.
يقول الناشط عثمان حموري، لرصيف22، باستحالة طي ملف الخلاف بين السودان ومصر، في وقت قريب، لوجود تضارب كبير بشأن تقاطعات تخص الأمن القومي.
وتابع: "نعتقد بأن مصر تدعم تحركات الجيش السوداني في الفشقة، لتحويل الأنظار عن حقيقة احتلالها لمثلث حلايب".
وأضاف: "دعمُنا للتحركات الهادفة إلى استعادة الفشقة من قبضة القوات الإثيوبية، يقابله دعمُنا لأي تحركات لاستعادة مثلث حلايب".
في المقابل، يقرّ حموري بصعوبة استعادة المثلث في الوقت الحالي، لمشكلات تتصل بانشغالات الجيش السوداني في معركتي الحدود وسد النهضة مع إثيوبيا.
وتابع: "ومما زاد صعوبة الملف، هو تحويله إلى قضية أمن قومي في مصر، ما جعل التنازل عنه أحد مسببات الإطاحة بمحمد مرسي، ولذا لا حل لهذه القضية خلافاً للآلة العسكرية، بحساب أن إعادة المثلث إلى السودان، يوصَف بالخيانة لدى الشارع المصري".
ويستطرد حموري: "زد على ذلك أن القاهرة تعلم بأن التخلي عن المثلث يعني التخلي عن كميات كبيرة من المناطق الغنية بالنفط والمعادن، وساحل طويل على البحر الأحمر الإستراتيجي".
النموذج المخيف
يظن حموري بأن مصر التي يسيطر الجيش على مقاليد الحكم فيها، ترتعد من فكرة إقامة دولة مدنية ديموقراطية في السودان، خشية انتقال هذا النموذج إليها.
وأضاف: "يمكن تفسير ذلك الأمر بدعم القاهرة المستمر للشق العسكري على حساب المكوّن المدني في الحكومة الانتقالية".
وأشار إلى ما يسميه تعزيز مصر لسلطة العسكريين في السودان، من خلال الزيارات والقمم المتبادلة، والعمل على تقوية الجيش، وإجراء المناورات المشتركة، والدخول في أحلاف عسكرية إقليمية، وحشد الرأي العام السوداني للوقوف مع الجيش في خياره في استخدام القوة لحسم التوترات مع إثيوبيا.
قضايا أخرى
يحمل حموري على مصر في تعاطيها مع السودان بعددٍ من القضايا، مثل استيراد أهم منتجاته (اللحوم، الإبل، والمنتجات الزراعية) في مقابل تصدير (السيراميك، والملبوسات، وغيرها من المنتجات ذات الطابع الاستهلاكي)، على حد تعبيره.
ويضيف حموري إلى قائمة انتقاداته لمصر، وجود ميول لدى النخبة والعامة -على حد سواء- للتعالي على السودانيين، إن لم يكن ما يجري هو العنصرية والسخرية والتنمّر، وتكفي جولة سريعة على وسائل الإعلام ومنصات التواصل لترى أن السوداني هو صاحب البشرة السوداء، واللهجة الغريبة، والبوّاب، ومصدر الإرهاب والسلاح إلى أم الدنيا.
ويقطع حموري بأن أي تقارب بين السودان ومصر محكوم بالفشل ما لم يخاطب المسكوت عنه في علاقاتهما.
مصير مشترك
يذهب صاحب مكتبة الرونق في الخرطوم توفيق إبراهيم، إلى منحى مغاير، هو أن وحدة شعبي السودان ومصر أكبر من الحكومات، وتقلبات السياسة.
وقال لرصيف22 إن التاريخ المشترك، والنيل العظيم، والأزهر الشريف، والبعثات التعليمية، وتحركات الأهالي جنوباً وشمالاً، وخوض الحروب المشتركة ضد العدو الإسرائيلي، وفرص التكامل الاقتصادي، كفيلة بإنهاء أية تباينات ناجمة عن نزاعات القادة والسياسيين.
ونادى إبراهيم باتخاذ سانحة التقارب السياسي الحالي، لبناء مشروعات اقتصادية تزيد من عرى الترابط بين البلدين، مع تفعيل الدبلوماسية الشعبية واتفاقية الحرّيات الأربع، هذا إلى جانب عكوف الساسة على وقف التراشق الإعلامي، وتدعيم فرص التقارب، والعمل -أثناءها- على حل نقاط خلافات البلدين بصورة ودّية.
وأشار إلى أن أزمة مثلث حلايب التي يراها كثيرون بأنها "كعب أخيل" علاقة البلدين، يمكن علاجها من خلال الحوار، وربما بتحويلها إلى منطقة تعايش وتبادل للمصالح بين البلدين، بدلاً من محطة مستمرة لبث العداء.
آن الأوان
في المقولة الذائعة إن "السودان ومصر... مرة حبايب، ومرة حلايب"، باتفاق معظمنا، نحن اليوم في منطقة "الحبايب"، فهل نتحرك منها "لتحرير أزمة حلايب"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون