عندما تطلّقت عائشة من زوجها عام 2017، بعد ثلاثة وعشرين عاماً من الزواج، لجأت إلى بيت والديها، وأقامت هناك مدة سنتين. لكنّ المشاكل التي واجهتها هناك مع أفراد العائلة الكثيرين، جعلتها تكتري بيتاً صغيراً على سطح إحدى البنايات، لتعيش فيه وحدها. شمّرت عن ساعديها، واشتغلت عاملة نظافة في البيوت، لتستطيع توفير خبزها اليوميّ.
الحب أهم من المال... هكذا تعتقد بعض النساء في أيام الزواج الأولى. لكن بعد الطلاق يحرمن من كل ما وفّرنه بكدّهن لبيت الأسرة
خلال الأعوام الثلاثة والعشرين التي كانت فيها عائشة متزوّجة، منحت ما تملكه كله من أجل بناء عشّها. صبرت، وتحمّلت الجوع، ليستطيع زوجها توفير المال لشراء شقة في عمارات "السَّكَن الاقتصادي" في الدار البيضاء. ولم تكتفِ بهذا، بل عملت على تعديل الشقة من الداخل بنفسها، فحملت قطع الزلّيج، وأكياس الإسمنت، وجهّزت المطبخ، والحمام، والصالون، على ذوقها. اشترت الأثاث من مالها الخاصّ، قطعة تلو الأخرى، طوال سنوات، وكانت تحلم بأن يكون البيت ملاذاً يحميها في سنوات الشيخوخة. لكن عندما استحال العيشُ بينها وبين زوجها، وأضحى جحيماً، وجدت نفسها في الشارع، من دون أي حقوق.
هكذا يحصل مع نساء مغربياتٍ كثيرات بعد الطلاق، أو وفاة الزوج، بعد أن ساهمن في تنمية ممتلكات الأسرة، ومكتسباتها طوال سنين من الكدّ. والسببُ أن دورهنّ هذا في بناء "ثروة" العائلة لا يُقدَّر، نظراً لأسبابٍ كثيرة مثل الصعوبات القانونية للإثبات، وعدم توفّر الوثائق التي تؤكد مساهمتهنّ في تنمية ما تكسبه الأسرة، فيضيع جهدهن سدى.
قصص مأساوية
أمضت سعاد ستة عشر عاماً من حياتها تعمل معلّمة لتساعد زوجها على تحمّل تكاليف احتياجات الأسرة، في الوقت الذي كان هو لا يصرف فلساً واحداً، بداعي التوفير لشراء شقة.
"عندما وصلنا إلى مرحلة الطلاق، خرجتُ من البيت خالية الوفاض، كأنني ما صرفتُ يوماً، وما ساعدتُ زوجي في بناء بيته، وما وفّرت له وسائل الراحة خلال سنوات الزواج"، تقول سعاد لرصيف22.
وتضيف بحسرة: "لديّ ولدان صغيران، حصلتُ على حضانتهما بعد الطلاق، وعائلتي رفضت استقبالي ما دام الطفلان معي، فاضطررت إلى اكتراء شقة صغيرة، وبدء حياتي من الصفر".
السببُ في عدم حصول سعاد على أي شيء مما بنته خلال حياتها الزوجية، هو صعوبة الإثبات القانوني. فهي لا تمتلك أيّ دليل واضح وملموس على كونها كانت تتحمل مصاريف البيت لوحدها، في الوقت الذي كان زوجها يوفّر المال لشراء شقة.
بعد أن جهزت البيت بيديّ ومالي طردت منه بلا رحمة حين طلّقني زوجي. ما عاشته عائشة وسعاد تعيشه آلاف النساء المغربيات
وبالإضافة إلى ذلك، عندما تزوّجت سعاد، لم تكن المادة 49 من قانون "مُدَوَّنَة الأسرة" الذي يجيز للزوجين توقيع وثيقة مستقلة عن عقد الزواج، من أجل الاتفاق على توزيع ممتلكات الأسرة في حالة الطلاق، قد دخلت حيّز التنفيذ بعد.
في دراسة لها، أكدت منظمة "منتدى الزهراء للمرأة المغربية"، الذي يضم جمعيات ومراكز استماع، أنّ كثيراً من النساء صرّحن أنهن غطين نفقات البيت بالكامل أثناء دراسة الزوج، أو في حالة فقدان العمل، سواء بشكل دائم، أو موقت، ولم تراعَ جهودهنّ أثناء الطلاق، أو تقاسم الميراث.
بالنسبة إلى ثورية تناني، مناضلة نسائية ومؤسسة وعضوة جمعية مبادرات لحماية حقوق النساء فإن "تقارير مراكز الاستماع المتعلقة خصوصاً بانتهاك حقوق النساء في الحصول على الأموال المكتسبة خلال فترة الزواج، تُظهر إلى أي حد تتعرض النساء للضياع بعد الطلاق، بعدما قضين، أحياناً، أربعين عاماً من حياتهنّ في العمل المنزلي الشاق".
وتضيف تناني في حديثها لرصيف22: "هذه التقارير تبيّن لنا أيضاً أنه ما من قاضٍ حكم لصالح امرأةٍ لا تملك الوثائق، على الرغم من مساهمتها في تنمية ممتلكات الأسرة، حتى تلك المرأة الموظفة التي ساهمت في بناء البيت، ومصاريفه، فلم تحصل على أي شيء من دون إثبات".
يُذكَر أن إحصائيات وزارة العدل لسنة 2015 كشفت أن 0.5 في المئة فقط من الأزواج، قد وقعوا على وثائق مستقلة عن عقد الزواج لتدبير ممتلكات الأسرة، منذ دخول القانون حيّز التطبيق.
لكن، لماذا يرفض الأزواج التوقيع على هذا العقد؟
"المال لا يساوي شيئاً أمام الحبّ"
رفضت مريم التوقيع على عقد تدبير الأموال المكتسبة خلال الزواج، لأنّ هذا الأخير "يجب أن يكون مبنياً على الثقة"، تقول مريم لرصيف22، مضيفةً: "الوضع لم يكن يسمح، وعددنا أن عقد الزواج كافٍ، وأننا سنبدأ حياةً ملؤها الثقة المتبادلة، لكنّ الوضع تغيّر، واكتشفت بعد الطلاق أنني ضيّعت كثيراً من وقتي، ومالي، هباءً".
ضبابية قانون الأسرة المغربي تحرم آلاف النساء من حقوقهن المادية بعد الطلاق. أمام القصص المأساوية تطالب المنظمات بتعديل القانون
في هذا السياق، أكدت دراسة منتدى الزهراء أنّ من أحد أسباب ضياع حقوق المرأة في حالة الطلاق، أو وفاة الزوج، هو أن "الزوجين لا يقبلان الاتفاق على كيفية تدبير الأموال المكتسبة خلال فترة الزواج، كما لا تطالب النساء بتوثيق مساهماتهن في تمويل الأسرة، وذلك تحت وطأة التقاليد، أو الحرج، أو خوفاً من تقويض استقرار الأسرة".
حتى النساء أنفسهنّ، تقول الدراسة، "يفضلن التغاضي عن توثيق المساهمة في مالية الأسرة، من أجل الحفاظ على الاستقرار الأسري"، ثمّ إنّ "الزواج عن حبّ، أو علاقة قرابة، أو جوار، يعزز الثقة، وحسن الظنّ بين الزوجين، مما يجعل الحديث عن الأمور المالية يتوارى إلى الخلف"، تؤكد الدراسة.
ربّات البيوت... ضياع وتشرّد
اشتغلت فتيحة طيلة ستة وعشرين عاماً من حياتها، لأجل توفير أجواء الراحة كلها لزوجها وأبنائها. سهِرت، وربّت، ونظّفت القمصان والجوارب، وغسلت جبالاً من الأواني، وأعدّت آلاف الوجبات، لكنّها اكتشفت أنها، بعد الطلاق، لن يكون من حقها أيّ شيء ممّا بناه زوجها خلال زواجهما، وأن كل شيء ملكه وحده.
"عندما استحالت الحياة الزوجية بيننا، عرفتُ أنني بعد الطلاق سأصبح في الشارع، لذلك تراجعت عن طلب أي شيء، خوفاً من التشرد"، تقول فتيحة لرصيف22، مضيفةً: "ما مصير أولادي الصغار الذين سأحصل على حضانتهم في نظر القانون؟ هل سيذهبون معي إلى الشارع؟".
يفسّر المحامي نوفل بوعمري، في حديثه لرصيف22، أن الإشكال الذي يُطرح في تقدير تحمّل الأعباء عند كلي الزوجين، بأنّ "الزوجة التي تكون مهنتها ربة بيت، لا يعترف المشرّع بمهنتها، إذ تُعد بلا مهنة، وهنا تُطرح إشكالات اجتماعية كبيرة، خاصةً عندما يحصل الطلاق، وتكون الزوجة غير قادرة على إثبات مساهمتها المادية في تنمية أموال الأسرة، إذ إن العمل الذي تقوم به في تربية الأبناء، والعناية بالأسرة، يخضع للسلطة التقديرية للقضاة، وأحياناً لا يتم تقدير ذلك بالشكل الذي يحقق الإنصاف للزوجات، فيجدن أنفسهن عرضة للضياع والتشرد".
ولتجاوز هذه المعضلة، يرى بوعمري أن "على المشرّع أن يدخل تعديلاً على المادة 49 من مدوّنة الأسرة، ينص صراحة على أنه في حال غياب اتفاقٍ مكتوب، يتم عد الزوجة التي تعمل ربّة بيت، وما تقوم به من تحمّل لأعباء الأسرة، مساهمةً كاملة في تنمية أموال الزوجين".
ويسترسل المحامي المغربي: "يجب أن يتم تقدير هذه المرأة بشكل يحقق الإنصاف لها، تُراعى فيه وضعية الزوج المادية أثناء الزواج، وما راكمه من ثروة، ويتم تقديرها على هذا الأساس، لأن ما قامت به هو مساهمة كاملة في تنمية أموال الأسرة".
وتتفق الفاعلة عبر الجمعيات ثورية تناني، مع هذا الطرح مؤكدةً أن "العمل المنزلي لا يُعتدّ به أبداً، وذلك بسبب التأويل الذكوري، وعدم التعاطف مع النساء".
الحل بالنسبة إلى تناني، هو تعديل جذري مع "مُدَوَّنة أسرة عصرية وحداثية قوامها المساواة، لأن القانون الحالي، ولو كان متقدماً جداً بالمقارنة مع سابقه، إلا أن فيه مجموعة من الثغرات، ولذلك نطالب بفتحه، وإعادة مراجعته".
مطلب إن تحقق قد يحفظ للنساء جزءاً من كرامتهن، بعد طلاق يكون دوماً خياراً مرّاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...