شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"اكتشفت زوجي في الأتوبيس"... حين تكون الرواية منقبة والروائية وصية على الأخلاق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 10 أغسطس 202111:13 ص

ولأنه بعد كل شيء، ما هو الإنسان في الطبيعة بدون أفكاره عنها؟ بدون تساؤلاته عن "الشرط الإنساني" والاهتمام بمعنى الوجود؟ الحجج التي يبني عليها الكتّاب كتبهم، شعرهم و"قولهم" وسيلة مميزة لاستكشاف الأسئلة العميقة المتعلقة بالحالة الإنسانية، وللجميع، أي من يؤمن بجدوى الكتابة، طرقهم الخاصّة، أشكال التعبير والمقولات الأساسية التي يعتمدون عليها في ذلك.

ومن الفضاء العام للحرية، نظنّ أن للجميع الحق في كتابة ما يريدون كيفما يرونه، حتى لو اختلفنا عنها في منظومة التفكير، لكن ما هي هذه الحرية المزعومة؟ وما هو شرطها إذا نصّب الكاتب نفسه وصيّاً على الأخلاق وما يجب الكتابة عنه؟ هل يتحول البحث في "معنى الوجود" إلى بحث في "معنى الحجاب" وكيفية "هداية النساء إلى الله"؟

اتحجبتي... برافو عليكي، ايوة كدة ربنا يهديكي

مع بداية افتتاح معرض الكتاب الدولي في مصر لهذا العام، تداول بعض رواد التواصل الاجتماعي المهتمّين بالأدب والقراءة، صورة لفتاة ترتدي الزي الإسلامي الشرعي "الخمار"، وبيدها رواية تضمّها لصدرها، عنوانها "اكتشفت زوجي في الأوتوبيس"، للكاتبة دعاء عبد الرحمن، وتحت قدمها حاوية مهملات، يبدو أنها ألقت داخلها جينزاً ضيقاً ورواية "لاسكالا" ورواية "أنا شهيرة" للكاتبة نور عبد المجيد.

من الفضاء العام للحرية، نظن أن للجميع الحق في كتابة ما يريدون كيفما يرونه، حتى لو اختلفنا عنها في منظومة التفكير، لكن ما هي هذه الحرية المزعومة؟ وما هو شرطها إذا نصّب الكاتب نفسه وصيّاً على الأخلاق وما يجب الكتابة عنه؟

في البداية، تم تداول الصورة للترويج لفكرة أن الفتاة المسلمة الملتزمة التي تحب القراءة يجب ان تختار ما تقرأ مثلما تختار ما تلبس، ويجب أن يكون اختيارها شرعياً، بالأخص في حضرة كتب تقدم أدباً ملتزماً محتشماً، مثل ما جاءت به رواية دعاء "اكتشفت زوجي في الأوتوبيس"، ولكن سذاجة الفكرة سريعاً أخذتها نحو منحنى آخر وهو "التريقة والإسفاف".

فتحوّلت فكرة الصورة الأصلية الى "ميم" ساخر، لبست فيه رواية دعاء عبد الرحمن الخمار الإسلامي، وكُتب فوقها مقطع من أغنية قديمة لحسام الحاج "اتحجبتي برافو عليكي، أيوة كدة ربنا يهديكي"، أما روايات نور عبد المجيد فقد لبست البكيني، وكُتب على "أنا شهيرة" مطلع أغنية تامر حسني "كل مرة بشوفك فيها بيبقى نفسي أه"، وكتب على "لاسكالا" مقطع وقح من أغنية قديمة لريكو "هزيها بشويش بشويش خلي الشعب يعيش" .

بروحي رواية بالعفاف تجمّلت

صدرت رواية "اكتشفت زوجي في الأوتوبيس" لدعاء عبد الرحمن عام 2011، وأخذت مرتبة بين كتب الأكثر مبيعاً لوقت طويل جداً، ومنها انطلقت شهرة دعاء وشهرة نوع الأدب التي تكتبه وعرفت به، وهو الأدب الملتزم دينياً الذي يطرح أفكاراً دينية لتعريف الفتيات دينهم وما يجب اتباعه وما يجب تركه.

ورغم سذاجة وسطحية اسم الرواية، واستخدامها أغلب الوقت للغة العامية والإطالة والمط والنهاية المكللة بالسعادة والرومانسية غير المنطقية، وغيرها من الأسباب التي تضعف العمل، إلا أنها قامت بتأسيس قاعدة جديدة، وفتحت باباً لهذا النوع من الكتب والذي اشتهر بين القراء بالرواية "المنقبة" أو الرواية "السلفية أم دقن".

طرحت الكاتبة دعاء عبد الرحمن أفكارها الشخصية في روايتها، وهذا أمر طبيعي لكتابة الرواية، فالتجربة والأفكار الشخصية هما سيدا الموقف، ولكن ما أثار الجدل نحو هذه الرواية، وبالأخص بعد انتشارها بين المراهقات كونها موجهة إليهن بشكل خاص، التعميم...

صدرت رواية "اكتشفت زوجي في الأوتوبيس" لدعاء عبد الرحمن عام 2011، وأخذت مرتبة بين كتب الأكثر مبيعاً لوقت طويل جداً، ومنها انطلقت شهرة دعاء وشهرة نوع الأدب التي تكتبه وعرفت به، وهو الأدب الملتزم دينياً

التعميم والبعد عن كون الطرح حكاية أو تجربة شخصية، وتعامل الكاتبة مع ما تكتبه على أنه قاعدة ثابتة عامة، مجتزأة مدلولاتها من النصوص الدينية الإسلامية وبتفسير المتشدّدين، وبعيداً عن المجرى الدرامي للقصة.

رسخت الرواية عبر صفحاتها التي لا تعتبر قليلة، فكرة أن الحب قبل الزواج خطيئة وزنا يعاقب الله مرتكبها/تها أشد العقاب، وأن الفتاة غير المحجبة، أو المحجبة بحجاب غير شرعي، هي فتاة بلا أخلاق، وبكل الطرق ستنجرّ إلى الحرام وتفعله، بالإضافة إلى حملها لبعض الأفكار والجمل المتشدّدة، مثل التحريم، الصريح ودون أي استثناء، للأفلام والمسلسلات، والإساءة الى الكنائس والعقائد الأخرى، ووجوب إطلاق الرجال اللحية، والكثير الكثير من الأحكام الدينية التي تصيبك بالحيرة من فرط صرامتها وتعميمها، والتأكيد بأن الرجل الملتحي "السلفي" الملتزم هو الأفضل والأبقى والأصدق .

وفي رواية أخرى لنفس الكاتبة اسمها "اغتصاب ولكن تحت سقف واحد"، قامت بإعادة ترسيخ أفكارها وطرحها ولكن في سياق درامي مختلف، وبعيداً عن قصة روايتها الطويلة جداً، ظلت أفكارها المتشددة تنسكب والتي أخذت منحى آخر من التشدّد، وهو العنصرية نحو غير المحجبات.

فقامت بتبرير اغتصاب إحدى شخصيات روايتها من ابن عمها، بسبب عدم التزامها دينياً وتبرّجها، حسب وصفها، ووصم غير المحجبات من جديد، بانعدام الوازع الأخلاقي والديني، وتبرير أي ضرر يلحق بهن، والتأكيد على أن الاغتصاب والضرر أو "الوقوع في المحظور" هو مصيرهن الحتمي، ثم الانطلاق نحو النقيض بالبطلة وصلاح تام لحياتها بعدما التزمت وتحجّبت، فتجمّع سطحية تفكير المتشدّدين وشعورهم بالتفوّق مع وافتقار ملكات الكتابة، وأظن من هذا المنطق ابتدع المتشددون دينياً جملة "سوف ينتهي الغلاء حين تتحجب النساء"، التي اصبحت تستخدم كنكتة.

وظلت الأحداث تتصاعد بناء على الالتزام الديني وعدمه، وغابت من الرواية كل المعايير التي تساهم في بناء الشخصيات بشكل منطقي وصحيح، وأصبحت فكرة الكاتبة التي تريد ترسيخها هي التي تسوق الشخصيات والأحداث.

رسخت رواية "اكتشفت زوجي في الأوتوبيس" فكرة أن الحب قبل الزواج خطيئة وزنا يعاقب الله مرتكبها/تها أشد العقاب، وأن الفتاة غير المحجبة، أو المحجبة بحجاب غير شرعي، هي فتاة بلا أخلاق، وبكل الطرق ستنجرّ إلى الحرام وتفعله

أما رواية "مع وقف التنفيذ" والتي تبنت فيها فكرة عرض حياة الملتزمين من الرجال والنساء، وإبراز فكرة أنها حياة عادية، سلسة وغير معقدة كما هو شائع، وكعادتها طرحت فيها المعلومات والنصائح الدينية، مع تعمد الإساءة بشكل غير مباشر لغير الملتزمين، حسب مقياسها، ومع منح الملتزمين أجنحة الملائكة، منحت الآخرين قرون الشيطان.

وغاب عن الرواية كل عناصر بناء الشخصيات، لنشعر أنها واقعية وحقيقة، وأن هذا ملاك أو شيطان لأسباب واضحة، أسباب تتمحور حول أساس النفس البشرية وتطول كل جوانبها النفسية والاجتماعية، فحجّة الالتزام الديني لتصاعد الأحداث وتكوين الشخصيات حجة واهية غير واقعية وساذجة، تذكر بجملة "أصل المخرج عايز كده"، لتبرير فشل حبكة بعض الأفلام .

حاولت دعاء عبد الرحمن فيما بعد التملص من تهمة العنصرية والتشدد والتوجيه والتنظير والإساءة المتعمدة للغير بشكل غير مباشر، فقامت بكتابة عدة روايات اجتماعية أخرى، تبتعد عن فكرة الأدب الملتزم دينياً والحب الحلال، وكان أشهرها رواية "إيماجو" ورواية "ولو بعد حين"، لكنهم لم يحققوا نصف نجاح ما سبقهم، فـ"بروحي رواية بالعفاف تجملت".

العنصرية الوسطية الجميلة

وُجهت تهمة العنصرية للكاتبة التونسية الدكتورة خولة حمدي، بعد أن لاقت روايتها "في قلبي أنثى عبرية" شهرة واسعة ونجاحاً كبيراً في الأوساط الشبابية والثقافية، والتي تعتبر واحدة من أشهر روايات خولة ومن أشهر روايات الأدب الملتزم دينياً "الأدب الاسلامي".

وتعتبر الأكثر مبيعاً من بين أعمالها حتى يومنا هذا، تناولت الكاتبة من خلالها قصة فتاة مسلمة فقدت أبيها وأمها، فكبرت في أحضان عائلة يهودية، استعرضت الكاتبة ببراعة بداية الظروف التي تمر بها حياة الفتاة، والتي تكون أغلبها تصادم بين دينها الأساسي وهو الأسلام، وبين ما تراه في أسرتها اليهودية التي تكفلت بها.

أحداث الرواية، بحسب الكاتبة، تنقل بحيادية قصة حقيقية لأبطال حقيقيين أرسلت لهم إهداءها عبر صفحات الرواية الأولى، ثم أخذت تطرح شخصيات الحكاية بسلاسة وقوة، بداية من ريما المسلمة، جاكوب اليهودي الذي تبنّاها بعد وفاة والدتها، زوجته تانيا وولداهما سارا وباسكال، وكذلك ندى اليهودية وأخوها المسيحي وبقية عائلتها، وأحمد المسلم المقاوم اللبناني وأخته سماح، وصديقه حسان، وغيرهم كثر.

في رواية أخرى لدعاء عبد الرحمن بعنوان "اغتصاب ولكن تحت سقف واحد"، بررت الكاتبة اغتصاب إحدى شخصيات روايتها من قبل ابن عمها، بسبب عدم التزامها دينياً وتبرّجها

أخذت الرواية تجري بشكل شيق وجيد، ولكن ما لبثت أن تخلّت الكاتبة عن حيادها، وبدأت تعرض أدلة لإقناع القارئ بدينها، حتى لو كانت قصصاً لإسلام أشخاص على أيدي أبطال روايتها، فأسلم الأبطال جميعاً وأسلمت معهم دار النشر وأسلم جميع القراء بالتأكيد.

عادت أصابع الاتهام تشير لخولة حمدي بتهمة العنصرية والتحيز للمسلمين مرة أخرى بعد إصدار رواية "غربة الياسمين" والتي لاقت أيضاً نجاحاً كبيراً وشهرة واسعة جداً، لا تقل عن رواية "في قلبي أنثى عبرية"، طرحت خولة، من خلال ثلاث شخصيات عربية، المعاناة التي يتعرَّض لها المسلمون في أوروبا، وبشكل خاص النساء المسلمات المحجبات.

تميزت الرواية بالسرد الهادئ وسهولة الكلمات والتناغم بين الأهداف والحدث والاثارة، ولكن ظلت خولة تستخدم أسلوب فرض الرأي على القارئ، بالإضافة لكثافة وكثرة عناصر المبالغة التي قامت على الصدف لتحويل مجريات الرواية.

أما في روايتها الثالثة التي نشرت عام 2016 باسم "إن تبقى"، فركزت خولة في مُجريات أحداثها على الإرهاب والعنف الديني الذي يتعرض له المسلمون على وجه الخصوص في أوروبا، وبأسلوبها المعتاد طرحت أزمة هجرة العرب إلى الغرب التي يعتبرونها حلم أو جنة، وواقعية أوروبا التي قابلت أحلامهم بالتعصب والعنصرية.

لم تتبع الدكتورة خولة حمدي منهج الإساءة المتعمدة لغيرها والهجوم الصريح، ولكنها، بشكل صارم وقطعي، كانت تنصر المسلمين ظالمين أو مظلومين، وتبيض راياتهم طول الوقت وتبيح لهم ما لا تبيح لغيرهم لأنهم مسلمون.

الأدب المعقم وروايات مكارم الأخلاق

هل يمكن أن يواجه هذا النوع من الأدب مصير غيره بأن يكون جميلاً في كل زمان ومكان، كونه قادراً على التعبير عن مجمل عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره وهواجسه، دون نسبه لمرجعية معينة وقولبته فيها والانطلاق به عبرها، أم سيظل ظاهرة تصل عنان السماء ثم تتلاشى وتنتهي عندما تعود الى الأرض مرة أخرى، كمرآة صغيرة ضيقة لا تعكس سوى صورة صاحبها.

 تُعقب الشاعرة والناقدة الأدبية علياء أبو النجا، على هذا الطرح، من خلال استشهادها بالكاتبة نور عبد المجيد، كونها من أشهر الأقلام النسائية المعاصرة، وأكثرها تأثيراً وتنوّعاً وتبنّياً لقضايا المرأة، وأيضاً لأن رواد حملة الترويج لكتب دعاء عبد الرحمن، وضعوا اثنتين من رواياتها في حملة المقارنة ليمثلوا بهما الطرف الآخر، الطرف غير الملتزم، المتبرج، فألقوا بهما في حاوية المهملات، مع الجينز الضيق والسترات القصيرة.

تناولت علياء بشكل سريع رواية نور عبد المجيد "أنا شهيرة"، والتي تدور أحداثها على لسان شهيرة التي تحكي من خلالها وجهة نظرها في الحكاية، ولها جزء آخر باسم "أنا الخائن" تسرد أحداثها أيضاً على لسان رؤوف، ليحكي من خلالها وجهة نظره هو الآخر في الحكاية، وتحولت الروايتان لمسلسل تلفزيوني من جزئين، قامت ببطولته الممثلة ياسمين الرئيس، والمغني والممثل أحمد فهمي.

ترى علياء أن الرواية جاءت لتفصل ببساطة وواقعية وسهولة معقدة النفس البشرية وغضبها وضعفها وعنفوانها، وتختم بالتساؤل: إن كانت رواية نور عبد المجيد عيباً أو حراماً أو منكراً، فحياة الإنسان نفسها عيب وحرام ومنكر.

الأمر محسوم تماماً، فهؤلاء الكتّاب، صانعو الأدب الشرعي الملتزم، والمروجون له، ليسوا ضد نور عبد المجيد أو غيرها، بل هم ضد أنفسهم، وضد الإنسان، وضد طبيعته، وفي النهاية يعيش العمل الحر الخالي من القوالب والقولبة لأنه يتماشى مع حقيقة الإنسان وطبيعته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image