سيبدو كلاماً زائداً عن الحاجة، إن شرحنا أهمية التعليم، ودوره، في بناء الدول وتقدمها، وتمكين مفهوم الوطن والمواطنة. كما يُعد الحديث عن أهمية دور المعلم/ ة في العملية التعليمة، أمراً لا يحتاج إلى إثباتات وبراهين. فعلى الرغم من تطور وسائل التكنولوجيا، وتنوع أساليب التعليم، وخروج الأصوات التي تشير إلى انتهاء دور المعلم/ ة، أو في الأقل تخفيض مهامه، وتبسيط دوره في العملية التعليمية، إلا أن السنوات الأخيرة أثبتت أنه ليس من الممكن إتمام أي عمل تعليمي بلا كادر مدرّب، ومتمكن.
لن نتناول هنا المشكلات التي تخص المناهج، وحشوها بما يخدم العقلية القمعية بأشكالها كلها، أو الطريقة التلقينية وأساليب الاختبارات التي ترى المتعلم مجرد "كاسيت"، أو "فلاشة" للحفظ، ولا البنية التحتية التي يتم التغني بها كإنجاز وطني، مع أنها مجرد أبنية لا تمتّ إلى الاستعمال البشري بصلة. إنه بحث بسيط يقول لك بوضوح ماذا حصل لمكانة المعلم/ ة، وتالياً للتعليم كعملية، ولماذا نحن هنا في هذه المقتلة. لست هنا في صدد بحث علمي وأكاديمي، ولو اشتغلت عليه بحصافة علمية حقيقية، وقدمته إلى أي جامعة في سوريا، فسوف يُرفض، ويُقزّم. إذ تستطيع أن تكتب في هذا الشأن، لكن شرط ألا تغوص في البنية العميقة للأسباب، كحال الأبحاث جميعها، بل يجب أن تبقى على السطح تعوم مع النتائج، وتتخبط في ترهات الأسباب الواهية التي تفرضها الحصافة العلمية الأكاديمية المدّعاة.
في سوريا لم تغب الطوابير يوماً. حتى أولئك الواهمون بأننا قبل عام 2011 كنا نعيش في بحبوحة، ولم تكن هناك طوابير، نقول لهم ببساطة: كنتم تقفون في طابور لا تلمحونه من الذل والخوف، حتى وأنتم تشربون الشاي في بيوتكم
في مجتمعات الخوف والتجهيل، عادة ما يتم الصراخ في وجه النتائج، بدلاً من البحث في الأسباب. عادة ما يتم اتهام النتائج على أنها الأسباب. تصرخ زميلتي المعلمة الناعمة بأعلى صوتها محتجة على إلغاء مادة التربية العسكرية، وتعلل الفوضى، والتسيب، وقلة التهذيب والأدب، وحتى الالتزام العلمي لدى التلاميذ، بغياب الضبط الذي كانت تحدثه تلك المادة، التي كان يقوم بها كادر متخصص بالقسوة، والنظام العسكري، إذ يتابع تفاصيل التلاميذ كلها، من لون الحذاء الأسود، إلى لون اللباس الموحد (الكاكي)، ويقض مضجعه أن يرى شعراً لصبية متروكاً على أكتافها، أو لون بلوزة حمراء تلوح من تحت الجاكيت الكاكية، أو حتى بقايا "مناكير" على الأظفار منسية من سهرة الأهل. ببساطة، تذمر هذه المعلمة من أن التعليم قد فشل بسبب غياب هذا الكادر المعني بالانضباط، ما هو إلا مثال على أوهام الأسباب التي دمرت التعليم، بل ما يجب قوله هنا أن ذلك الكادر هو أحد أهم أسباب خراب التعليم.
مثال آخر يدل على انحراف الفهم؛ يكتب أحد الأصدقاء على صفحته في فيسبوك منشوراً مفاده أن العملية التعليمية في سوريا دُمرت نتيجة غياب الضمير والأخلاق عند الكادر التعليمي، ويرى أن المعلم/ ة، إن كان يمتلك ضميراً صاحياً، فإن الجوع والفقر والعري والذل والظروف التي يعيشها، سواء قبل عام 2011، أم بعده، لا يمكنها أن تؤثر على رسالته.
الحقيقة تكمن في أن خراب النظام التعليمي قد بدأ مع بداية استلام العسكر للسلطة في سوريا، وتحكم هؤلاء في مفاصل الدولة جميعها، وفي المؤسسات كلها، وتطبيعها مع الفكر العسكري/ الديكتاتوري، وبما يخدم بقاء هذا الحكم، ومن على رأسه، واستمراره، بتراتبية تعتمد الولاء حصراً كورقة اعتماد يجب أن يملكها كل شخص في هذه البنية. وليست المقدرة والكفاءة إلا شرطين متممين لا معنى لهما، وقد تمت عملية ممنهجة ومدروسة أدت إلى إفقار المعلم، وإذلاله، لينعكس هذا كله على العملية التعليمية/ التربوية.
هناك نكتة شهيرة وبسيطة انتشرت في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي في سوريا، للوهلة الأولى تبدو مضحكة، وقد ضحك كثيرون لدى سماعها، ثم لاحقاً بكوا من دون أن يدركوا أن بكاءهم كان بسبب تلك النكتة ذاتها. تقول النكتة: "سأل العم ابنة أخيه: شو بيشتغل خطيبك؟ ردت الصبية: أستاذ مدرسة. صمت العم قليلاً ثم قال: إي شو عليه الشغل مو عيب".
الحقيقة تكمن في أن خراب النظام التعليمي قد بدأ مع بداية استلام العسكر للسلطة في سوريا، وتحكم هؤلاء في مفاصل الدولة جميعها، وفي المؤسسات كلها، وتطبيعها مع الفكر العسكري/ الديكتاتوري
في علم الاجتماع، وبشكل خاص في علم النفس الاجتماعي، نعرف أنه ما من نكتة، أو مثل شعبي، أو حتى عبارة تنتشر، إلا وتُعد انعكاساً لواقع، أو مرحلة، أو تجربة ما. الأمر ليس بريئاً أو عابراً، بل يحمل دلالات عميقة. نلاحظ في تلك النكتة أن انتشارها تزامن مع مرحلة تعويم كبيرة لشريحة أمراء القوة الخارجين بنصر ساحق من معارك الثمانينيات، ولشريحة القابضين على مفاصل الاقتصاد في البلد، وجعل قوى الإنتاج جميعها ملكاً شخصياً. في النهاية، يشكل هؤلاء الشريحة نفسها مع بعض الاتساع، والتشعب الملموس والمفهوم، والتحالفات الفاسدة. هؤلاء هم أصحاب "الفلل"، والبيوت الضخمة، وشاليهات النسق الأول، والعمارات العالية، والسيارات الفارهة، وأصحاب المطاعم الأكثر شهرة، ورواد المطاعم الشهيرة، وأزواج الجميلات، وما ملكت أيمانهم من الجاريات. هم القادرون على فك حبال المشنقة من حول الأعناق، أو يضعوها عليها، ومن يتبعهم ضمن تدرج طويل يصل إلى أن كلب الأمير، أمير. في المقابل، يقف المجتمع، ومن ضمنه المعلمون، يلهثون وراء حاجاتهم الأساسية، وينتظرون في طوابير طويلة من الذل والحرمان والتعب. ينتظرون كل شيء. (لا بد من التنويه أننا نتكلم عن مرحلة الثمانينيات. فلا تدعوا كلمة طوابير تجعل الأمر يشتبه عليكم. ففي سوريا لم تغب الطوابير يوماً. حتى أولئك الواهمون بأننا قبل عام 2011 كنا نعيش في بحبوحة، ولم تكن هناك طوابير، نقول لهم ببساطة: كنتم تقفون في طابور لا تلمحونه من الذل والخوف، حتى وأنتم تشربون الشاي في بيوتكم).
كان قد تم تفقير المعلم/ ة، وتشويه صورته اجتماعياً. صار من الطبيعي أن يبحث المعلم عن دخل إضافي. فبدأ يعمل في أعمال لا تناسب مهنته الأصلية، صار سائق سرفيس، أو تاكسي، وصار نادلاً في المقاهي والمطاعم، أو بائعاً متجولاً، وفي أحسن الأحوال صار بائعاً يملك متجراً صغيراً، مع الاحترام للمهن كلها، وأصحابها. لكننا هنا نتكلم عن خروج المعلم من دوره الاجتماعي الأصلي، ما جعل صورته تهتز اجتماعياً. كما أن هذه الأعباء المعيشية المقلقة والمرهقة، ستنعكس، بالضرورة، سلباً على ممارسة دوره كمعلم، وجودة هذه الممارسة، ثم تبدأ لاحقاً ظاهرة الدروس الخصوصية كحل ذي نجاعة اقتصادية ليتمكن هذا المعلم من إتمام مهامه كربّ أسرة، وتأمين معيشة أسرته. هذه الظاهرة بدأت على يد الأمراء أنفسهم، وكلابهم، ثم انتشرت بشكل واسع بلا أي ضابط لها، ما أدى إلى خلط الأوراق، لتصرخ معلمة أخرى أن سبب خراب التعليم هو الدروس الخصوصية. كالعادة، ثمة عمى دائم أمام الأسباب الأولى والجوهرية لهذا الخراب كله.
القوانين الاجتماعية لا تعوّل على الضمير والأخلاق. ليس هناك شعب جيد، وآخر سيء. هناك ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية تجعل هذا الشعب رائعاً، أو تجعله فاسداً. ببساطة، عندما لا تحترم المعلم الذي لا يزال يُعد أساس العملية التعليمية، ولا تعطيه دخلاً يحميه من الذل، ستصل بالتعليم إلى درجة من الخراب، وتصير لدينا حلقة مفرغة من الأسباب والنتائج التي يلتبس فهمها على المراقب العادي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون