هذا الأمر ليس جديداً، وتشير المراجع التاريخية إلى أنه تشكلت لدى الإثيوبيين عقيدة من قديم الزمان، مفادها أن لديهم القدرة على تحويل مياه النيل، ومنعه عن مصر والسودان.
قضية مياه النيل أداة ضغط
يقول محمد سلمان طايع في مؤلفه "مصر وأزمة مياه النيل: آفاق الصراع والتعاون"، إن "متابعة المواقف الإثيوبية في شأن مياه نهر النيل، تكشف أنها تتسم دائماً بالريبة والتشكيك تجاه مصر والسودان، وتنظر إليهما بحذر شديد، كما أنها كانت تتقدم، باستمرار، بالمذكرات والمطالبات التي تطالب فيها بحقها من مياه النيل".
وبالطبع، لهذا الوضع أسباب أدت إليه، يوضحها طايع بقوله: "كان ذلك نتيجة مفاهيم سادت في أذهان الإثيوبيين منذ عصر أباطرتهم القدماء"، مشيراً إلى أنه "منذ قرون عدة، دارت الأساطير حول قدرة أباطرة الحبشة على تحويل مياه النيل عن مصر، وفي العصور الوسطى ازداد الاعتقاد بين حكام الإمبراطورية المسيحية في إثيوبيا، وبين حكام العالم الإسلامي، والعالم المسيحي الغربي، بقدرة حكام الحبشة على تحويل مياه النيل".
وكان لهذه الاعتقادات أثر سلبي على العلاقات بين مصر وإثيوبيا. يقول: "ألقى هذا التراث التاريخي بظلاله السلبية على العلاقات بين مصر وإثيوبيا، كون الأولى تمثل أحد رموز العالم العربي والإسلامي أيضاً".
ويؤكد المؤلف أن المراجع التاريخية تشير إلى أن "حكام الحبشة كانوا دائماً يستخدمون قضية مياه النيل كأداة ضغط في مواجهة مصر، ولا سيما في ما يتعلق بحسن معاملة الأقباط".
"في النيل وسيلة تكفي لعقابكم"
لم تقف إثيوبيا عند حد التهديد بتحويل مياه النيل الأزرق، بل تعدى الأمر إلى شن أحد ملوك الحبشة هجوماً على جنوب مصر، وتحديداً على أسوان.
يروي فتحي علي حسين في مؤلفه "المياه وأوراق اللعبة السياسية في الشرق الأوسط"، أن ملك الحبشة داود بن يوسف (1381 - 1411)، "لم يكتفِ بالتهديد بتحويل مياه النيل الأزرق، بل شن هجوماً على حدود مصر، وبلغ أسوان (تقع في جنوب مصر)، مستغلاً بذلك حالة الفوضى التي كانت تعانيها البلاد في عهد السلطان برقوق المملوكي".
ورسخ في عقيدة الإثيوبيين، أن لديهم القدرة على التصرف بمياه النيل، خاصةً أن منبع المياه في بلاد الحبشة، حتى أن ذلك أصبح أداة ضغط على مصر.
ويشير إلى ذلك محمد فؤاد شكري، في مؤلفه "مصر والسودان تاريخ وحدة النيل السياسية في القرن التاسع عشر (1820 -1899)"، بقوله: "كشفت بعض الوثائق التاريخية أن ملك الحبشة في أوائل القرن الثامن عشر، وجه رسالة تهديد إلى حاكم مصر العثماني، جاء فيها: ‘في النيل وحده الوسيلة التي تكفي لعقابكم’".
وأرجع ملك الحبشة ذلك إلى أن "الله جعل منبع هذا النهر، وفيضانه، تحت سلطاننا، وفي وسعنا التصرف بمياه هذا النهر بالكيفية التي تُلحق الأذى البليغ بكم".آثار سلبية خطيرة نجمت عن الأحوال جرّاء ذلك، كما يقول طايع: "أدى ذلك إلى إثارة قضايا في حالات كثيرة بين الشرق الأدنى، وعلى رأسه مصر، وبين الإمبراطوريات المسيحية في الغرب".
النيل واللعبة السياسية
العقائد التي رسخت في وجدان الإثيوبيين منذ القدم، أكدتها بعض المخطوطات أيضاً. أشار إلى ذلك طايع، والمؤلف شعبان عبد الرحمن في كتابه "حرب العطش ضد مصر".
"منذ قرون عدة، دارت الأساطير حول قدرة أباطرة الحبشة على تحويل مياه النيل عن مصر، وفي العصور الوسطى ازداد هذا الاعتقاد بين حكام الإمبراطورية المسيحية في إثيوبيا، وبين حكام العالم الإسلامي، والعالم المسيحي الغربي"
فـ"في عام 1268، كانت هناك مخطوطات عديدة تشير إلى أن الأباطرة لهم القدرة على مقابلة مصر بمنع مياه النيل، وذلك عن طريق قوتهم البدنية والروحية، وكانوا يستغلون فترات الجفاف، ونقص مياه الفيضان، لينسبوها إلى قواهم، وقدرتهم على معاقبة مصر"، مؤكداً أن "إثيوبيا استمدت قوة سياسية من هذه الفكرة القديمة قدم مياه النيل"، يروي طايع.
في السياق ذاته، يقول الدكتور عمر فضل الله في مؤلفه "حرب المياه"، إنه "يمكن وصف حالة نهر النيل بأنها حالة مساومة وتهديد، فدائماً تُستخدم ورقة المياه من جانب إثيوبيا، أو الدول الكبرى، للضغط على مصر والسودان، لتليين مواقفهما السياسية إزاء مشكلة ما".
ويدلل فضل الله على ما ذكر بقوله: "على سبيل المثال، وفي الماضي البعيد، كثيراً ما كان الأحباش يلوّحون بإبادة مسلمي الحبشة، وتحويل مجرى النيل عن مصر، حتى يموت أهلها جوعاً، وقد كان حكام الحبشة يسوغون مواقفهم تلك بأنها نوع من الانتقام إزاء ما يزعمون أنه سوء معاملة الأقباط المصريين، وقياداتهم الدينية".
ويشير المؤلف إلى أن حوالي 86% من مياه نهر النيل، تأتي من الهضبة الإثيوبية (59% من النيل الأزرق، و14% من السوباط، و13% من نهر عطبرة)، بينما تسهم البحيرات الاستوائية بنحو 14% فقط من مياهه.
تقارير خاطئة عن تحويل مياه النيل
في مؤلفه "مستقبل المياه في العالم العربي"، نقل الدكتور حمدي الطاهري عن مؤرخ يُدعى هرست، ذكره أن ثمة تقارير خاطئة قديمة، تحدثت عن تحويل مياه النيل الأزرق إلى البحر الأحمر، وبذلك تنقلب مصر إلى صحراء قاحلة.
ووصف هرست في مؤلفه "موجز عن حوض النيل"، ما ذكر بـ"الهراء"، قائلاً: "هذا الهراء يعيد إلى أذهاننا الفكرة التي سادت في العصور الوسطى، عندما اجتاحت المجاعة مصر، فقد تسرب إلى عقول المصريين أن الأحباش قاموا بتحويل اتجاه النيل الأزرق، وبعث والي مصر إلى ملك الحبشة بسفير مزود بالهدايا الكثيرة، يلتمس منه إعادة النهر إلى مجراه الأصلي، وهذا كله حديث لغو وهراء، فضلاً عن أن تحويل النيل الأزرق يتطلب من الأعمال والمشاق، الكثير...".
ما ذكره هرست، نقله أيضاً محمد سلمان طايع في مؤلفه السابق ذكره.
القوى الأوروبية على وقع الأزمة
بيئة الخلافات والأزمات دائماً ما تكون خصبة بالنسبة إلى دول الاستعمار، فهذه هي عاداتها منذ الأزل، وفي خضم هذه الأحداث كان لا بد أن يكون لها دور.
يتحدث طايع عن ذلك بقوله: "اهتمت القوى الأوروبية بهذه الفكرة، واستغلتها، خاصةً بعد هزيمة القوات المملوكية في عام 1443 ميلادية... وكان الغرض هو إنشاء قوة مسيحية كبيرة في إثيوبيا تواجه القوى الكبرى الإسلامية في مصر".
"هناك مخطوطات عديدة تشير إلى ادعاء أباطرة إثيوبيا بأن لهم القدرة على مقابلة مصر بمنع مياه النيل، وذلك عن طريق قوتهم البدنية والروحية، وكانوا يستغلون فترات الجفاف، ونقص مياه الفيضان، لينسبوها إلى قواهم"
ويبرهن على هذا الطرح، ما ذكره الدكتور حمدي الطاهري في كتابه المذكور: "كان الإيطاليون أول من فكروا في إقامة سد على بحيرة تانا (منبع النيل الأزرق، وأكبر بحيرة في إثيوبيا)، عندما غزوا الحبشة سنة 1935، ليرووا بمياهها السهول الخصبة الممتدة غرب البحيرة، وعن طريق نفق يمتد لثلاثين كيلومتراً، لكنهم طُردوا من الحبشة سنة 1941، فلم ينفذوا شيئاً، وظلت الشائعات تتردد بعد ذلك عن إقامة الخزانات على النيل الأزرق، أو تسميم مياهه، في وقت معاصر للعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956".
البرتغاليون أيضاً، كان لهم دور في أزمة المياه، وجعل ورقة المياه أداة ضغط على مصر. يكشف ذلك الكاتب غسان دمشقية في مؤلفه "أزمة المياه والصراع في المنطقة العربية"، إذ يقول: "لعبت القوى الكبرى من قديم الزمن دورها في هذا المضمار، ولم يتردد البرتغاليون في الاتصال بملك الحبشة لإقناعه بشق مجرى يمتد من منابع النيل الأزرق، الذي هو الرافد الرئيسي لنهر النيل، حتى البحر الأحمر، وذلك لحرمان مصر من المياه، وجعلها من الواحات المفقودة".
أداة ضغط وانتقام
الفكر القائم على هذه الأسس، جعل مسألة النيل سياسية بحتة. أراد الاستعمار أن يجعلها ورقة ضغط لحل أي مشكلات قد تُثار في المنطقة. يقول الدكتور عمر فضل الله في كتابه "حرب المياه": "اتخذ الاستعمار البريطاني من مياه النيل أداة للضغط، والمساومة، والانتقام، ضد مصر والسودان".
ونقل المؤلف عن باحث إنكليزي يُدعى تشيرول قوله: "كانت خطط تخزين مياه النيل الأزرق والأبيض في السودان توضع تحت تصرف وإشراف اللورد كتشنر، الحاكم العام للسودان، شخصياً، وكان يوجه إليها اهتمامه كله، لا لأنها ستفتح إمكانيات لا حد لها تقريباً من الماء لمصر والسودان، ولكنها ستكون ورقة سياسية تحل بها أي مسألة سياسية تُثار في هذا البلد".
هذا القول نقله أيضاً الكاتب عادل حمودة في مؤلفه "ثرثرة أخرى فوق النيل"، مؤكداً أنه "ما إن دخل الاستعمار البريطاني حوض النيل حتى سارع، غير مدعوٍ، إلى الحصول على أكثر من تعهد، وأكثر من تأكيد، من إمبراطور الحبشة، بعدم التدخل، أو التصرف في مياه النيل، دون الرجوع إليه، والاتفاق معه".
فتح عيون الحبشة
بالطبع لم تكن نوايا الاستعمار طيبة، وإنما كان يسعى إلى زيادة المشكلات والأزمات بين دول المنطقة. يقول حمودة إن هذه الأمور لم يكن لها داعٍ "سوى فتح عيون الحبشة على إمكانية التدخل، أو القيام بالتصرف عينه الذي طلب الابتعاد عنه، ومن ناحية أخرى، تهديد مصر بطريقة ملتوية، وغير مباشرة، حتى تواصل الخضوع لوجوده وسيطرته".
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما حسب حمودة، "اتخذت بريطانيا من مياه النيل في السودان أداة ضغط سياسي على مصر، لتؤلب الشقيق على الشقيق، وتدمر وحدة وادي النيل التي كانت تهدد بقاءه غير المرغوب فيه".
وأدى هذا الفكر إلى أن "أصبح هناك تراث فكري ديني وثقافي، يجعل من إثيوبيا مصدراً لتهديد مصر عن طريق مياه النيل، وقد رسخت هذه الفكرة في ذهن الإثيوبيين والمصريين أنفسهم، وانعكست بعد ذلك على سياسة كل من الطرفين تجاه الآخر، واستمدت إثيوبيا قوة سياسية من هذه الفكرة القديمة قدم مياه النيل"، وفقاً لكتاب "سياسة مصر الخارجية في عالم متغير: أعمال المؤتمر السنوي الثاني للبحوث السياسية"، الصادر عن مركز البحوث والدراسات السياسية، التابع لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة.
وهنا يؤكد مؤلف كتاب "حرب العطش ضد مصر"، أن "هذه الفكرة استمرت في العلاقات الدولية الحديثة، وأصبحت هناك عقيدة في نفوس المصريين بأن إثيوبيا تستطيع أن تمنع تدفق مياه النيل إلى مصر".
كيف اهتمت إثيوبيا بمياه النيل؟
الجذور الفكرية، والاعتقادات الراسخة لدى الإثيوبيين تجاه النيل، دفعتهم إلى الاهتمام الكبير بموضوع المياه، بشكل يفوق البلدان الأخرى كلها، إلى حد وضع هذا الأمر تحت سلطة الإمبراطور شخصياً، من دون الالتفات إلى وزارة الموارد المائية.
يؤكد هذا الطرح محمد سلمان طايع في مؤلفه المذكور، وعمر كامل حسن في كتابه "النظام الشرق أوسطي وتأثيره على الأمن المائي العربي: دراسة في الجغرافية"، إذ ذكرا أن الدولة الإثيوبية تولي اهتماماً كبيراً بموضوع المياه بشكل يكاد يكون مختلفاً عن أي بلد آخر، فقد ظلت مياه المنابع الإثيوبية اختصاصاً ينفرد فيه الإمبراطور هيلا سيلاسي (1892 - 1975)، ومن بعده الرئيس منغستو هيلا ميريام.
وأشارا إلى أنه، وعلى الرغم من وجود وزارة للموارد المائية في الحكومة الإثيوبية، يكون فيها للوزير وأجهزته الكلمة في المسائل الفنية، إلا أن الكلمة السياسية هي اختصاص ينفرد به رأس الدولة.
والأبعد من هذا، أن الرئيس منغستو جعل على رأس وزارة الموارد المائية مجرد مفوض يختص بالشؤون المحلية للمياه فحسب، أما شؤونها الخارجية فيحتفظ بها رئيس الوزراء تحت إشراف رئيس الدولة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...