بدأت الصحف اليومية المصرية وبرامج التوك شو في حملة إعلامية واسعة، تستهدف مواجهة حالة الغضب والقلق الشعبي، وحفظ صورة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسى أمام شعبه، بعد فشل حكومته في التوصل إلى اتفاق ملزم مع أديس أبابا حول الملء الثاني لسد النهضة.
وبدأت أديس أبابا في الملء الاني للسد وأبلغت مصر والسودان بذلك عشية ذهابهما إلى مجلس الأمن في محاولة أخيرة يائسة لإعاقة الملء. وتعرضت القاهرة والخرطوم إلى خذلان من قبل الدول الأعضاء في مجلس الأمن الذين رفضوا إدانة الملء الثاني للسد، لتجد الحكومة نفسها في مأزق أمام الشعب، خاصة مع ارتفاع الأصوات المطالبة بالقيام بعمل عسكري ضد السد، كانت قيادات محسوبة على القوات المسلحة قد لوحت به في مناسبات عامة.
وبدأت الصحف وبرامج التوك شو التابعة لقنوات يمتلكها جهاز المخابرات العامة المصرية، في حملة دعائية عبر صفحات الجرائد والقنوات الفضائية، لتهدئة الرأي العام المطالب بتحرك عسكري، حذّرت مصر من القيام به في الأمم المتحدة، وراحت وسائل الإعلام تستدعي رجال دين من الأزهر والسلفيين وبرلمانيين وسياسيين موالين للرئيس، لحث الشعب على "الاصطفاف خلف القيادة السياسية في ملف سد النهضة"، والتحذير من عواقب قيام مصر بأي تحركات عسكرية على لسان كتاب ومقدمي برامج طالما روجوا أن صفقات الأسلحة المتعددة التي تجريها مصر إنما تمهيد لحماية حقوقها المائية، وأبرزهم أستاذ العلوم السياسية ومقدم البرامج المعتز بالله عبدالفتاح.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ بدأ التمهيد لمطالبة الشعب بالخروج في مظاهرات لتفويض رئيس الجمهورية في اتخاذ ما يراه مناسباً في أزمة السد، على غرار تفويض 26 يوليو/ تموز 2013 الذي دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسي حين كان نائباً لرئيس الجمهورية ووزيراً للدفاع، لمواجهة ما أسماه بـ "الإرهاب المحتمل" وهو التفويض الذي مهد لفض ميداني رابعة العدوية (هشام بركات حالياً) والنهضة.
وجوه قديمة لتفويض جديد... إعلاميون يتجاهلون الرد على التخوفات الشعبية ويحولون دفة المطالب نحو التأييد
نموت وتحيا مصر
على صفحات جريدة الجمهورية، الممولة حكومياً، في العدد الصادر 14 يوليو/ تموز، بدأت حملة وجدت طريقها للانتشار والسخرية على وسائل التواصل الاجتماعي. واستدعت الجريدة هتاف ثورة 1919 الشهير ضد الاحتلال الإنجليزي "نموت نموت وتحيا مصر"، ووضعته في سياق أزمة سد النهضة الإثيوبي، وقالت الجريدة إن "الاصطفاف خلف الرئيس واجب وطني وديني".
وفي معرض تقريرها زعمت الصحيفة إنها تلقت "رسائل من القراء تعبر عن تضامن الشعب وتلاحمه مع قيادته الوطنية... أكدوا ثقتهم المطلقة في جميع أجهزة الدولة التي تسعى علي كل المحاور لحل القضايا المصيرية". ونشرت الجريدة هذا الرسائل في صفحة كاملة.
وفي محاولة لتذكير الشعب بما قام به الجيش في منعطف 30 يونيو/حزيران 2013 المنقضي وما تلاه من أحداث، أكدت الجريدة أن "السيسي الذي أنقذ مصر من الإرهابيين لن يسمح بنقص قطرة مياه واحدة من حصتنا التاريخية".
وفي اليوم التالي واصلت الجمهورية نشر رسائل دعم - قالت إنها تلقتها من مواطنين- لموقف الرئيس، وقدمت للرسائل بعنوان "مصر مع السيسي في قضية السد الإثيوبي"، وقالت "في ظل تواجد إرادة المصريين من قيادتهم واتباع سياسة النفس الطويل بعزيمة وقوة لا تلين، ستبقى مصر بمشيئة الله هبة النيل إلى يوم الدين رغم أنف الحاقدين والمتربصين".
وغلبت نظرية المؤامرة ومحاولة تركيع مصر من القوى الخارجية على طبيعة الرسائل المنشورة، والتأكيد على الاصطفاف خلف الرئيس والقوات المسلحة، كما تمادت الرسائل في الإفتاء بأن الاصطفاف خلف القيادة واجب أو فرض عين أو أمر وطني، حسب ما اطلع عليه رصيف22.
البرلمان يفوض الرئيس
ولم يكن مشهد التفويض بعيداً عن البرلمان المصري، ففي جلسة 12 يوليو/ تموز الجاري، منحت الجلسة العامة لمجلس النواب تفويضاً لرئيس الجمهورية في اتخاذ ما يراه لحماية الأمن القومي المائي المصري، وفى مواجهة أزمة "سد النهضة" الإثيوبي، مؤكدة على الثقة الكاملة في القيادة السياسية في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. وفي نفس الجلسة وافق المجلس على تمديد حالة الطوارئ المعلنة بقرار رئيس الجمهورية رقم 174 لسنة 2021 في جميع أنحاء البلاد لمدة ثلاثة أشهر أخرى، تبدأ من الساعة الواحدة من صباح يوم السبت، الرابع والعشرين من يوليو/ تموز.
أما الغرفة الثانية للبرلمان وهي مجلس الشيوخ، فسارت على نفس النمط، وطالب العضو بالمجلس مصطفى الكحيلي بتفويض السيسي لاتخاذ ما يلزم في أزمة سد النهضة الإثيوبي. وقال الكحيلي في بيان إن "على الجميع مساندة الرئيس عبد الفتاح السيسى القائد الأعلى للقوات المسلحة وتفويضه شعبياً، لاتخاذ ما يراه مناسباً بشأن ما يجري في قضية سد النهضة تقديراً وثقة في الرئيس".
غلبت نظرية المؤامرة ومحاولة تركيع مصر من القوى الخارجية على طبيعة الرسائل المنشورة، والتأكيد على الاصطفاف خلف الرئيس والقوات المسلحة، كما تمادت الرسائل في الإفتاء بأن الاصطفاف خلف القيادة واجب أو فرض عين أو أمر وطن
التفويض على الفضائيات
لم تخل برامج التوك شو من الحديث عن تفويض السيسي في أزمة السد، وكان معتز عبد الفتاح مقدم البرامج على فضائية الشمس، من الداعين إلى التفويض، مطالباً المصريين بالثقة في قيادتهم الوطنية لأن هذه هي "الورقة الوحيدة الرابحة"، وأضاف "ولو نزل الملايين في كل ربوع مصر لإرسال رسالة للعالم أن إثيوبيا تلعب بالنار، فلا يعنينا لا الغرب ولا الشرق". واستضاف عبد الفتاح المذيع المقيم في الإمارات عماد الدين أديب، ليتحدث عن أضرار التحرك العسكري ضد السد.
ومن معتز عبد الفتاح إلى أحمد موسى مقدم البرامج على فضائية صدى البلد، الذي استضاف الكاتب والمحلل السياسي ورئيس مجلس إدارة صحيفة المصري اليوم عبد المنعم سعيد للحديث عن أزمة السد، وأكد سعيد على نفس المعنى السابق بأنه "يجب على المواطنين الاصطفاف خلف القيادة السياسية في جهودها لحماية مواردها المائية"، مشيراً إلى أنه ليس لديه شك في وجود هذا الاصطفاف إلا لدى "من ضل الطريق"، على حد تعبيره. وهو نفس الأمر الذي أكده اللواء محمد إبراهيم الدويري نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، الذي تحدث عن أهمية اصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية في قضية السد الإثيوبي، وترك لها المساحة والحرية لاتخاذ القرار المناسب.
رجال الدين في الخدمة
أما رجال الدين فكانوا حاضرين في المشهد الدعائي لرئيس الجمهورية، وعلى رأسهم وزير الأوقاف محمد مختار جمعة الذي أفتى في خطبة الجمعة الماضية بأن الاصطفاف خلف الرئيس والدولة "واجب شرعي". وأن "لا خلاف على ذلك". وعاود الوزير الحديث مرة أخرى عن سد النهضة خلال افتتاح مسجد بمحافظة الشرقية بدلتا مصر (شمال القاهرة)، ليؤكد أهمية الاصطفاف خلف الدولة الوطنية والقيادة السياسية "لمواجهة التحديات التي تُحاك بالبلاد، وتؤثر على استقرار المنطقة". وهي نفس الرسالة التي أكد عليها مفتي الجمهورية شوقي علام في أكثر من مناسبة.
لكن ما أثار الجدل هو تعليق الداعية السلفي محمد حسان على أزمة سد النهضة، فقد ارتبط اسم حسان بقضية "خلية داعش إمبابة" واستدعاء المحكمة له، كما كان ظهوره المفاجئ للتعليق في وقت اعتزل الكلام على مجريات الشأن العام منذ تراجع تياره في المشهد السياسي عقب عام 2013، مثاراً للتشكيك والسخرية.
اللافت أن الأساليب التي اتبعها الإعلاميون في حملتهم لتهيئة الرأي العام وتحويل دفة الغضب الشعبي إلى حملة لتأييد الرئيس، هي ذاتها القوالب التي تستخدمها وسائل الإعلام المصرية الرسمية منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من دون تغيير.
وتحدث حسان عن أزمة السد، مؤكداً وقوفه مع القيادة السياسية "نعم نحن مع مصر في أي قرار يتخذه ويراه المسؤولون مناسباً للحفاظ على حق مصر في مياه النيل... نؤيده وندعمه... ونسأل الله أن يحفظ مصر وشعبها وجيشها".
اللافت أن الأساليب التي اتبعها الإعلاميون والصحافيون في حملتهم لتهيئة الرأي العام وتحويل دفة الغضب الشعبي من فشل الحكومة إلى حملة لتأييد الرئيس، هي ذاتها القوالب والأساليب الإعلامية التي تستخدمها وسائل الإعلام المصرية الرسمية منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من دون تغيير. فأسلوب نشر رسائل القراء المؤيدة التي ترد بالمئات إلى الصحف "تلقائياً" لتأييد الرئيس، هو نفس الأسلوب الذي اتبعته الصحف القومية والمؤيدة خلال الدعوات التي سبقت ثورة 25 يناير.
ظهر ذلك في ما أعلنه علي الدين هلال أمين الإعلام في الحزب الوطني المنحل من رسائل دعم للرئيس الأسبق مبارك، وأنها حملت مطالبات شعبية بأن يكون حسني مبارك هو رئيس مصر القادم، وكان ذلك وسط تكهنات عن ترشيح نجله جمال مبارك للرئاسة في عام 2010، وحملات غامضة وملصقات كانت تطالب بالدفع بلواء المخابرات السابق عمر سليمان للترشح لرئاسة الجمهورية.
وتأتي حملة الإعلام المصري لحشد التأييد للرئيس وسط غموض حول مستقبل مصر المائي، ومحاولات من القاهرة لفتح باب جديد من المفاوضات مع إثيوبيا حول السد تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، حسب مخرجات جلسة مجلس الأمن السابقة، في حين يطالب قطاع كبير من الشعب بتوجيه ضربة عسكرية للسد، يقول خبراء ومحللون إن الوقت قد انتهى لتوجيه تلك الضربة العسكرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...