ما زالت تتوالى القراءات لموقف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، بعدم المشاركة في انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر المقبلة. وتكمن الغرابة في موقفه في أنه أطلق منذ أشهر شعاراته الانتخابية في محاولة لتحشيد جمهوره، من خلال إعلانه أن رئاسة الوزراء ستكون للتيار الصدري.
قبل موقفه الأخير، كان الحديث جارياً عن أن شرط الترشيح على القائمة المدعومة من مقتدى الصدر هو أن يكون المرشح صدرياً قحاً، أي أن يكون قد عاصر مراحل نشوء التيار الصدري الأولى، وخاض المعارك ضد الاحتلال الأمريكي. ومن هنا جاء اسم القائمة، "الكتلة الصدرية"، ليؤشر على أن الهدف هو التحشيد العاطفي للقاعدة الشعبية الصدرية.
عنصر المفاجأة في قرار الصدر أنه لم يخطر في مخلية رواد الصالونات السياسية، ولم يكن مطروحاً حتى في السيناريوهات المستبعدة، لكن الصدر خرج بخطاب واضعاً خلفه أعلام تشكيلاته العسكرية المجمدة والفعالة (جيش المهدي، لواء اليوم الموعود، سرايا السلام)، وأعلن في 15 تموز/ يوليو الانسحاب من الانتخابات المقبلة ورفع الدعم عن كل المنتمين إلى الحكومة الحالية أو المقبلة.
تكتيك مكرر
أولى القراءات لموقف الصدر استذكرت مواقف مشابهة له في السنوات السابقة، إذ سبق وأعلن انسحابه من العملية السياسية عام 2013، وكرر الأمر في عاميْ 2014 و2018، لذلك يعتبر كُثر أن الانسحاب الأخير هو مجرد تكتيك يتبعه الصدر، بهدف مباغتة الخصوم، والخروج بشيء جديد، لإسقاط غبار الفشل الذي يلتصق به في وزارتي الصحة والكهرباء، والانطلاق من جديد بشعاراته المعهودة.
ولكن فريقاً آخر يرى أن مجسات تيار الصدر استشعرت تخلخلاً في قاعدته الشعبية سيؤدي إلى الفشل في تحقيق المقاعد المطلوبة للظفر برئاسة الوزراء، فيما ذهب فريق ثالث إلى أبعد من ذلك، وقال إن التيار الصدري سيفشل في الحفاظ على عدد مقاعده في الدورة البرلمانية الحالية والبالغة 52 مقعداً.
يقول الفريق الأخير إن قيادة التيار الصدري أجرت تحليلاً للقواعد الشعبية من خلال إجراءات عديدة، ومنها تقسيم المربعات المعروف داخل الأوساط الصدرية، إذ تُقسَّم كل محافظة إلى مربعات، وكل مربّع إلى حلقات كل منها تحت إشراف مسؤول يتراوح أفرادها من 50 إلى 200 فرد، بالإضافة إلى مشروع البنيان المرصوص الذي أطلقه التيار الصدري منذ أشهر، عبر صالح محمد العراقي المعروف بـ"وزير الصدر".
وكان العراقي قد قال في منشور على حسابه على فيسبوك: "بسمه تعالى، بفضل الله وعونه، وجهود المخلصين وانطلاقاً من حب الوطن والدين والعقيدة وتحت شعار: لا إله إلا الله.. محمد رسول الله.. علي وليّ الله.. العراق بلد الأنبياء والمقدسات، ينطلق مشروع ‘البنيان المرصوص’، لوحدة الصف الصدري لأتباع آل الصدر الكرام وإحصائهم وتثقيفهم والعناية بهم، على ألا يكون لأجل الانتخابات فقط بل مشروعاً دائماً، والله وليّ التوفيق".
يرى البعض أن مجسات تيار الصدر استشعرت تخلخلاً في قاعدته الشعبية سيؤدي إلى الفشل في تحقيق المقاعد المطلوبة للظفر برئاسة الوزراء، لا بل ذهب البعض إلى أن التيار الصدري سيفشل في الحفاظ على عدد مقاعده الحالية في البرلمان
بعدها بخمسة أشهر، رفض الصدر تمديد التسجيل في مشروع "البنيان المرصوص"، وقال: "نرفض تمديد التسجيل، ومَن أقبل على التسجيل أولاً لهم منّا كامل الأولوية والأفضلية، ومَن لم يشكك (يسجّل؟) له منّا كل الاحترام والتقدير".
لكن مسؤولاً رفيعاً في الماكينة الانتخابية للتيار الصدري، والتي تُصنّف من أكبر الماكينات الانتخابية، إذ يتجاوز عدد موظفيها 40 ألفاً، يستغرب هذه القراءة، ويقول لرصيف22: "لدينا أكثر من 90 مرشحاً في الانتخابات المقبلة، ونراهن على فوز أكثر 70 منهم، وكحد أدنى 65، وهذا الرقم لا تستطيع أي قوة منفردة تحقيقه، وهذا ما تمخض عن تحليل واستبيانات قمنا بها في جميع الدوائر".
ويضيف المسؤول أن "تحديدنا لاستحقاقنا في الانتخابات المقبلة ليس تنجيماً، وإنما بمعادلة بسيطة، وهي تقسيم عدد الأصوات التي حصلنا عليها في انتخابات 2018 والبالغة نحو مليون ونصف المليون صوت، مع طعن بنتائج 28 محطة انتخابية مطروح منها أصوات القوى المتحالفة معنا وقتها، ونقسم الناتج على عدد الدوائر الانتخابية فنحصل على ما لا يقل عن 65 مقعداً بمعدل 12 ألف صوت لكل مرشح، عدا كوتا النساء".
ويتابع: "أُجريت انتخابات افتراضية لحظت وجود متغيرات جديدة، مثل مشاركة التيار اليميني الصدري في الانتخابات المقبلة، والذي كان قد قاطع بعضه الانتخابات السابقة، أو شارك بدون عائلته، بسبب تحالفنا مع العلمانيين، ما يعتقدون أنه مخالفة شرعية، بالإضافة إلى القوى الناخبة الصاعدة من المواليد المسموح لهم قانونياً المشاركة في انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وهم مواليد 2001، 2002، 2003، وكانت النتائج إيجابية".
حاكمية الشيعة بخطر!
السيناريو الأكثر تماسكاً في الحكاية هو أن الصدر حاول الرد على المنافسين الشيعة المقرّبين من إيران، وإرسال رسائل مشفرة وحدهم يستطيعون تفكيكها، وأن موقفه هو ردّ على حرب غير معلنة شُنّت عليه من خلال الوزارات التي تصنف على أنها حصته، وفقاً لأعراف المحاصصة، وبالتحديد وزارتي الكهرباء والصحة.
وشهدت الأشهر الأخيرة أعمال تخريب متكررة لأبراج نقل الطاقة الكهربائية في البلاد، تسببت بانخفاض ساعات تزويد الكهرباء، ما خلف تذمراً شعبياً كبيراً دفع وزير الصدر إلى المطالبة بإقالة وزير الكهرباء.
أحد السيناريوهات هو أن الصدر حاول الرد على المنافسين الشيعة المقرّبين من إيران، وإرسال رسائل مشفرة وحدهم يستطيعون تفكيكها، وأن موقفه هو ردّ على حرب غير معلنة شُنّت عليه من خلال الوزارات التي تصنف على أنها حصته
وسرعان ما استجاب الوزير ماجد الأمارة وقدّم استقالته. ثم انتشرت رسالة نُسبت إليه وقيل إنه وجهها للصدر، حمّل فيها قياديين في تياره مسؤولية الفشل، لسيطرتهم على العقود والمناقصات في الوزارة. بعد ساعات نفى الوزير علاقته بالرسالة، لكن محتواها انتشر كالنار في الهشيم.
ويرى مختصون في وزارة الكهرباء أن الهجمات نوعية وتتجاوز إمكانيات تنظيم داعش، ومَن يقوم بها ذو اختصاص ويستهدف الأبراج الفعالة وذات التأثير الكبير.
وشهدت المنظومة الكهربائية ليلة الجمعة، في الثاني من تموز/ يوليو، انقطاعاً تاماً في عموم البلاد، وهذا ما لم يحدث منذ حرب تحرير الكويت.
أيضاً، شهدت الفترة الماضية تغطية إعلامية كبيرة لمشاكل قطاع الصحة من خلال المؤسسات الإعلامية التابعة للفصائل المقربة من إيران، كان آخرها احتراق مركز عزل مصابي فيروس كورونا في مستشفى الحسين في مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، والذي خلّف أكثر من 100 قتيل، فيما تشي المؤشرات بأن الحريق حدث بفعل فاعل.
يعتقد قيادي سابق في التيار الصدري أن الصدر نجح في قلب الهجوم ضده، وأحرج القوى الشيعية من خلال إعلان انسحابه، معللاً رأيه لرصيف22 بأن "الشيعة سيفقدون رئاسة الوزراء بدون مشاركة الصدر، وهذا خطر كبير فيه جنبة عقائدية، وهي ضرورة استمرار حاكمية الشيعة".
ويعضد القيادي رأيه بتهافت الزعامات الشيعية على مقتدى الصدر لإقناعه بالعدول عن قراراه، معلقاً بأن "انعكاس انسحاب الصدر على معادلة الأرقام الانتخابية يمثل مصلحة سياسية لهذه القوى، وإفراغ للساحة من منافس قوي، وانخفاض عتبة الفوز خاصة بوجود دعوات جمهور تشرين لمقاطعة الانتخابات، لكنهم يدركون أن هذا الخطر استراتيجي على منصب رئاسة الوزراء".
وحول وجود أعلام التشكيلات العسكرية خلف الصدر خلال إعلانه بيان عدم المشاركة، يرى القيادي أن "الصدر أراد إيصال رسالة بأن التيار الصدري ليس فصيلاً مقاوماً فحسب، وإنما مؤسس للمقاومة، إذ استحضر الرمزية التاريخية لجيش المهدي، والذي خرجت من عباءته معظم الفصائل الموالية لإيران، ولواء اليوم الموعد الذي يعتبر أكثر تنظيماً وقدرة في العمل العسكري، ثم سرايا السلام، وهي تشكيلات منفصلة".
حرب شيعية؟
الحديث عن الحرب الشيعية متواتر منذ اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس مطلع عام 2020. كان وجودهما يمثل أداةً لضبط الإيقاع، وكان دورهما في الحوارات بين الفصائل بصفة الآمر لا المفاوض، وكثيراً ما كانت أغلب الخلافات تُحَلّ برسالة مذيلة بتوقيع أحدهما.
لكن غيابهما عقّد المشهد الفصائلي، وبدأت المزايدات في التضحية والقوة تطغى على شكل العلاقة بين الفصائل المسلحة، وهذا ما تكرر في كثير من المواجهات المحدودة والتي سرعان ما تم حلها، لكنها عملياً تنذر بخطورة الوضع وهشاشة المشتركات بين الخصوم.
ويبدو أن الصدر يعي هذه المسألة، فاستحضر في خطابه أوضاع سوريا وأفغانستان، كمصاديق للسيناريوهات التي من الممكن أن تصل إليها البلاد، وجميعها تهدد الوجود العقائدي للقوى الشيعية، والتي من الممكن أن تنهي حقبة حكم الشيعة بعد 2003.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...