منذ انتفاضة تشرين 2019، لم تتوقف عمليات اغتيال الناشطين وأصحاب الرأي في العراق، وآخرهم الناشط إيهاب الوزني الذي أردَته رصاصات غادرة قتيلاً في مدينة كربلاء، ما دفع إلى تنظيم احتجاجات وحملات إلكترونية تطالب بالاقتصاص من الجناة وإيقاف استسهال إراقة دماء العراقيين.
كثيرون من مثقفي العراق دقّوا ناقوس الخطر، عبر منصات التواصل الاجتماعي، في وقت يشعر فيه الكتاب المقيمون داخل العراق والمعارضون للمنظومة الحاكمة بالخطر من المليشيات الشيعية الموالية لإيران، بعد أن كان مصدر الخطر قبل سنوات هو تنظيم داعش.
"تعددية مصادر الخطر"
"محنة أصحاب الرأي تكمن في كثرة الخصوم وتعددية مصادر الخطر"، يقول لرصيف22 الروائي العراقي نزار عبد الستار، "فلم تعد السلطة الوحيدة التي تقمع وتقتل، وإنما أصبح الاعتداء على الرأي ومصادرته بالتخويف وخنقه بالموت فضاء متخماً بالمآسي... وكثيرون يسقطون ضحايا للمجهول ويقدَّمون كقرابين ليخاف الجميع وتسكت الأصوات المعارضة".
ويوضح عبد الستار أن السياسيين في العراق يتعرّضون يومياً في الإعلام لخطاب ينال من مكانتهم، إلا أن هذا لا يعني الحرية، وإنما سببه هو تقاسم أوصال الدولة، "فلا أحد يمكنه إخضاع فوضى العراق للمنطق، وكل شيء غامض".
ويضيف أن المواطن العراقي "معرّض للفناء في أي لحظة ولأتفه الأسباب"، ويواجه الخطر من أمور بسيطة كالطعام والشراب والأدوية الفاسدة، بجانب ما يصفه بـ"الانفلات الغابي العام".
ويقول "إن ما نراه من ملاحقات تطال أصحاب الرأي الآخر هو جزء من فوضى الدولة ولا يشذّ عن التهديد المخيف الذي يتعرّض له الإنسان العراقي في غياب شروط الحياة السليمة".
ويعلّق: "الأمر يبدو في أحيان كثيرة غير متصل بالفكر وإنما بالحروب السياسية المفتعلة وبقدرية العراقي الذي بات يشبه لعبة إلكترونية: شخصيات يطلَق عليها النار لغرض المتعة والتسلية".
"سيستمر نزيف الدم ما دام..."
توضح الشاعرة والكاتبة العراقية رسمية محيبس أن موقف الوسط الثقافي العراقي متباين من الحراك الشعبي ومن قضية اغتيال النشطاء والمتظاهرين وخطفهم، فهناك مَن وقف مع التظاهرات منذ بدايتها، وكتب شعراء قصائد تدعم الانتفاضة وكُتبت مسرحيات وبرزت مواهب فنية في الرسم والتمثيل لدعم الثورة، ولكن الأغلبية صامتة.
تتهم محيبس "أحزاب السلطة التي لا تريد أن يشاركها أحد المنافسة في الانتخابات القادمة" بالمسؤولية عن الاغتيالات، ففي السابق كانت تدعو الناس لانتخابها بحجة الدين والطائفة، أما بعد ثورة تشرين وما أحدثته من تغيير في المزاج العام، "دفع السياسيون ممّن بيدهم السلطة بمرتزقتهم لقتل أي ناشط يكشف ممارساتهم"، لأنهم "متمسكون بمقاعدهم وامتيازاتهم"، مضيفة لرصيف22: "بإمكانك أن تسأل أي شخص في الشارع وسيرشدك إلى القَتَلة، أما الأسماء فمهمة الدولة كشفها".
وبرأيها، يحتاج العراقيون إلى ثورة شعبية كبيرة يشارك فيها الجميع ودعم دولي كبير وإلى تخلي الدول الداعمة للعراق عن هذه الطبقة السياسية الفاسدة المسنودة من الخارج، فـ"ذلك ما يحقق لثوار تشرين وللعراق وجهه الحقيقي ويوقف نزيف الدم العراقي".
"الشعوب الحرة ستحقق الحرية"
الكاتب محمد رشيد الشمسي يصف المشهد العراقي بأنه "مرعب ومخيف، ولا يتحمله إلا العراقي الذي عانى الحروب والحصار".
وعن المثقفين، يقول لرصيف22: "المثقف حاله كحال أي عراقي يعيش المأساة، ولكنه ربما المستهدف الأول من قتل وخطف، لأنه العنصر الفعال والذي يحاول أن يبني الإنسان الحقيقي، الإنسان الواعي، من خلال كتاب أو رسم أو لوحة أو أغنية أو مسرح".
ويرمي الشمسي بالمسؤولية ليس فقط على فاسدين وقَتَلة ينفّذون الاغتيالات بل أيضاً على ضعف الحكومة، ويعلّق: "نحن كمثقفين نعمل على تقوية الحكومة، ولكن نحن وحدنا لا نحقق شيئاً، فالأمر يتطلب تعاون الجميع".
"الأمر يبدو في أحيان كثيرة غير متصل بالفكر وإنما بالحروب السياسية المفتعلة وفي قدرية العراقي الذي بات يشبه لعبة إلكترونية: شخصيات يطلَق عليها النار لغرض المتعة والتسلية"
ويضيف: "مستقبل العراق في أعناق أبنائه الغيارى، وخصوصاً شباب تشرين الذين نرى فيهم البذرة الصالحة التي تضع الأساس الصلد لبناء العراق ومستقبله، وعلى كل مثقف أن يقدّم ما يخدم ذلك، فالشعوب المتحررة في معظم البلدان مرت بمراحل عصيبة من قتل ومجازر جماعية، والتاريخ يشهد بأن الشعوب الحرة ستحقق الحرية والعدالة المنشودة، والعراق يسير في الطريق الصحيح، والقتلة والفاسدون يشعرون بأن أيامهم قريبة وسوف يمثلون أمام العدالة، وينتصر المظلوم".
"العراق يعيش إرهاب الدولة"
كان ثمن التخلص من الدكتاتورية باهظاً في العراق، تقول الأكاديمية والباحثة لقاء موسى الساعدي لرصيف22، فبعد ما يقارب 18 عاماً من سقوط نظام صدام حسين لم يتغير في حياة العراقيين شيء، بل ضاعت مكتسبات العراقيين في الصحة والتعليم المجاني واختُرقت مؤسسات الدولة وتفككت.
تعتبر الساعدي أن العراق يعيش "إرهاب الدولة" وهو "نوع من دكتاتورية تعتمد تحويل الدولة ومؤسساتها إلى مغانم تتقاسمها مجموعة من مافيات الفساد وتنحصر في عوائل محدودة تمتلك المال والسلاح، وتتحالف مع مليشيات مسلحة لابتزاز الناس في أرزاقهم وحياتهم، وقتل المعارضين في كثير من الأحيان بسبب بوست على فيسبوك، أو تغريدة على تويتر، كما حدث مع الروائي علاء المشذوب، والمحلل السياسي هشام الهاشمي وآخرين".
واغتيل الكاتب والروائي والقاص العراقي علاء مشذوب، في الثاني من شباط/ فبراير 2021، أمام منزله في مدينة كربلاء بـ13 رصاصة أطلقها عليه مسلحون يستقلون دراجة نارية، هو الذي كان ينتقد سياسات الأحزاب الشيعية المهيمنة وميليشياتها. وفي السادس من تموز/ يوليو 2020، اغتال مسلحون، بنفس الأسلوب، الخبير الأمني العراقي والباحث في شؤون الجماعات المسلحة هشام الهاشمي، قرب منزله في منطقة زيونة، شرق بغداد.
تعتبر الساعدي أن "هناك مافيا تدير السرقات وتتقاسمها مع الأحزاب المسيطرة، والمتضرر من هذا هو العراقيون، فقد تحوّل الشعب إلى فريسة تتكالب عليها ضباع السطة المتوحشة".
وتعتبر أن "أصحاب الرأي في مأزق خطير بين واجب قيادة الوعي وفضح ممارسات الفساد السلطوي، وبين التصفيات والاغتيالات"، ولا تتوقع انفراجة في المستقبل القريب، "بل ستستمر الصدامات بين الدولة وإرهابها ضد المحتجين... وستظل كل المؤسسات الأمنية في العراق مدانة ما دامت عاجزة عن أداء دورها في كشف الجناة".
"تراجيديا كبيرة"
يصف الكاتب والسينمائي العراقي حسن بلاسم الاغتيالات في العراق بأنها "تراجيديا كبيرة". وبرأيه، لا يوجد موقف محدد للوسط الثقافي، فبعض المثقفين يعملون مع السلطة، والبعض أبواق للميليشيات، وآخرون نزيهون، "لكن أن تنطق في العراق فقد تخسر حياتك".
ويقول بلاسم لرصيف22 إن لا أدلّة واضحة على الجهة المسؤولة عن الاغتيالات، ولكن قطاعاً كبيراً من الوسط الثقافي يوجّه أصابع الاتهام إلى الأحزاب الإسلامية الفاسدة الحاكمة ومليشياتها المدعومة من إيران.
"لا أحد في أمان من كواتم الصوت والملثمين القتلة... كل صوت نبيل نقي هو مشروع شهيد، كلنا مهددون بالقتل لأننا نتعامل مع قوى مافياوية وليس أحزاب سياسية"
برأيه، "مشكلة حرية التعبير هي كارثة زمن صدام والنظام الحالي، وهي جوهر المشكلة في العراق والوطن العربي... والعراق يعاني العنف بسبب الفساد نتيجة الصمت ونفاق النخبة وانعدام حرية التعبير".
"لا أحد في أمان"
حين أسقطت أمريكا نظام صدام حسين أسقطت معه الدولة العراقية وسلمتها إلى قوى وأحزاب "رضعت حليب العمالة وهي تقود البلاد إلى الهاوية". هكذا يوصّف الشاعر العراقي علوان حسين المشهد في العراق، متهماً مَن يخطفون ويقتلون من الميليشيات بأنهم أنفسهم يقودون الدولة وبيدهم كل شيء: المال والنفوذ والسلاح.
ويقول حسين لرصيف22: "هؤلاء قوى رجعية بَنَت مجدها على عمالتها لدول الجوار، ومدججة بالسلاح وسلطة الدين، وباسم الطائفة وحماية المذهب ترهب الناس بأدوات وأساليب فاشية لتكميم الأفواه ونشر الرعب"، مضيفاً: "القتلة ملثمون يعرفهم الناس وذوو الضحايا بالأسماء، يرفعون راية الحسين زوراً ويتسمّون بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان".
ويعتبر أن "انتفاضة تشرين هي أمل العراق في التغيير والتخلص من هذه الطغمة التي نهبت البلاد وأفقرت الناس وعممت الجهل والخرافة وعاثت في الأرض فساداً".
ويضيف: "لا أحد في أمان من كواتم الصوت والملثمين القتلة... كل صوت نبيل نقي هو مشروع شهيد، كلنا مهددون بالقتل لأننا نتعامل مع قوى مافياوية وليس أحزاب سياسية".
"يصفّون صراعاتهم بدم الأبرياء"
من جانبه، يعتبر الأكاديمي والروائي العراقي لميس كاظم أن الاغتيالات جاءت كرد فعل على الاحتجاجات الشعبية العارمة ضد قادة العراق الذين أثبتوا فشلهم الذريع في توفير أبسط متطلبات الحياة المعيشية.
ويقول لرصيف22: "هذه الاحتجاجات عفوية، شعبية غير مؤدلجة، نظّمها شباب اكتووا من الوعود الزائفة، وأعلنت رفضها التعاون مع الأحزاب وأعضاء البرلمان والحكومة، ما شكّل بؤرة معاداة لهم وجعل قادتها مستهدفون، فصدرت توجيهات لفلول الميليشيات المسلحة، وعناصر من القوى الأمنية، بتصفيتهم. والمؤسف أن الاحتجاجات تفتقر إلى قيادة ميدانية ذات خبرة سياسية توحّد صفوفها في مواجهة حيتان الفساد".
ويتهم السياسيين بأنهم "يصفّون صراعاتهم السياسية بدم أبناء بلدهم الأبرياء، فكلما احتدّ الخلاف بينهم اشتدّ زحام التفجيرات وارتفع عدد القتلى، واغتيل المطالِبون بمحاسبة الفاسدين وسرّاق المال العام".
ويضيف: "سيستمر هذا النزيف طالما تتجاهل الحكومة مطالب المتظاهرين، ومن مصلحة أصحاب القرار أن تستمر الاغتيالات لإرهاب المحتجين، والتهديد بحرب طائفية"، ويتابع: "ما يزيد الوضع تعقيداً أن القوات المسلحة أصبح ولائها طائفياً، وأن الأحزاب جنّدت مئات الآلاف من الفقراء والجهلة".
وعن المستقبل، لا يبدي تفاؤلاً. يقول: "العراق ماضٍ نحو نفق مظلم من التخلف والصراعات والفوضى، وأطفئت فيه قناديل الأمل".
"كلما بزغ نور أو أمل اطفأوه بقوة"
"الاغتيالات دليل على هشاشة السلطة ونظامها المتخلخل، وهو ما ينعكس على المجتمع على شكل انتشار الجهل والفقر". هكذا ترى الكاتبة منتهى عمران الأمور في بلدها، مضيفة لرصيف22: "الوضع لا يحتمل وجود مثقفين ونشطاء ومحللين يكشفون عن مساوئ ما يجري وخلفياته لأنه يسبب للسلطة الإحراج ويثير العامة عليها وقد تفقد السيطرة وتخسر امتيازاتها".
وتتابع: "أشعر بالمرارة والحزن والغضب، وهذا حال معظم المثقفين العراقيين، ونقلق مما يمكن أن تؤول إليه الأمور لدرجة اليأس من حلول قريبة... قلقون على أبنائنا ومستقبلهم... الحياة الاجتماعية اليومية يسودها التوتر ولا يمكن ممارسة حياتنا بشكل سلس وطبيعي".
أما المستقبل، فهو برأيها مجهول: "لا ندري إلى أين يمضي العراق. هل سيستطيع جيل الشباب أن ينقذ العراق؟ لا نعلم. الأمور معقدة ومتشابكة، السياسة رعناء تقودها المصالح، وكلما بزغ نور أو أمل اطفأوه بقوة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه