"نحن أقلية الأرض". كثيراً ما كان يردد هذه الجملية صديقي الشاعر المغدور علي اللامي، والذي اغتيل إثر مشاركته في احتجاجات في كانون الأول/ ديسمبر 2019.
اللامي كان يسكن ناحية صغيرة تابعة لمحافظة واسط، 180 كيلومتراً عن بغداد، ويقسمها نهر صغير يسمى "الدجيلي"، وهو من أبناء نهر دجلة. الناحية ذات طابع عشائري، ولا يميّزها تبني أبنائها هوية فكرية محددة. معظم سكانها كانوا مع السلطة، منذ سيطرة حزب البعث، ثم التحقوا بركب الأحزاب الإسلامية بعد 2003.
واللامي شيوعي منذ الثمانينيات من القرن الماضي. كان صديقاً لعائلتنا، وكثيراً ما كنّا نسمع اللوم على رفقته لنا، فهو ملحد وزنديق وعميل، بنظر المجتمع. كان يدرك ذلك، وهذا هو جذر مقولته "نحن أقلية الأرض". لا أعرف بالتحديد مَن "نحن"، لكن أعتقد أنه يقصد المتشابهين في إثارة الشك والسؤال عن كل شيء، غير المستهلكين للأجوبة الجاهزة، والذين يسيرون عكس التيار.
أنت مختلف إذن أنت متّهم
يبتسم جواد مزعل، بيأس، وهو خمسيني ويسكن في ذات منطقة اللامي، حين يستذكر سلسلة التهم الاجتماعية التي تعرّض لها. يقول: "التهمة والتسقيط الاجتماعي تطالك عندما تكون ذا لون مختلف، تخالف السائد".
ويشرح: "معظم أبناء جيلنا ورثوا توجهاتهم الفكرية من العائلة، مثلما ورثوا النَسَب والدين والعادات، لكن نزراً قليلاً تمردوا بعد أن اشتد عود وعيهم، خاصة وأنه في مرحلتنا كانت ينابيع المعرفة والوعي متعددة، وهذا ساعد في نضج مبكر لأبناء ذلك الجيل، وكان من الطبيعي أن تجد شاباً في الإعدادية يعتنق فكراً محظوراً".
وهو يشعل سيجارة تلو الأخرى، والدخان يكوّن سحابة فوقنا، سرد مزعل مسيرته الفكرية، وقال لرصيف22: "في منتصف السبعينيات، كان المد البعثي في قوته، وكان وقتها حزبا الدعوة والشيوعي يتصدران هرم المعارضة. كان المجتمع يصم الشيوعي بالزندقة والكفر، وهذه الصورة النمطية لغاية الآن، وجذرها ديني إذ أصدر المرجع الديني محسن الحكيم، جد الزعيم السياسي عمار الحكيم، فتوى بأن الشيوعية كفرٌ وإلحاد، حتى وصل الحال إلى أن يستنجس البعض من الشيوعي، فيما رسخت السلطة البعثية فكرة العمالة والغوغاء على المنتمين إلى حزب الدعوة".
"أنا كُنت زنديقاً وكافراً". هكذا يصف مزعل نظرة المجتمع إليه وقتها، متابعاً: "بالرغم من خروجي من الحزب الشيوعي إلا أن هذه النظرة بقيت ترافقني، حتى بعد 2003، ولأنّي ما زلت أقف في دائرة معارضة السلطة ذاتها، تحوّلتُ بنظر المجتمع إلى بعثي، ولم تشفع لي سنوات سجني والمطاردات التي تعرضت لها قبل الاحتلال".
تهم مجتمعية
سلام، الابن البكر لجواد مزعل، وهو من مواليد بداية التسعينيات، يتفق مع والده بأن الوعي تشكله العائلة غالباً، ويقول لرصيف22: "ساهمَت بشكل كبير مكتبة والدي في وضع أساساتي المعرفية، وفي فترة الإعدادية كان أقراني يغرقون في هتافات المرحلة الجديدة بعد 2003، أي في خطاب طائفي وشعبوي، وكنت أخالفهم الرأي".
ويتابع: "وقتها، كنت أهتم بالقراءة عن نقد التراث الديني وعلم الاجتماع، حتى طلب منّي أحد الأستاذة، وأنا في الصف السادس الإعدادي، ترك الإلحاد، وعدم استنساخ تجربة والدي. استغربت من طريقة كلامه. لم أكن ملحداً. لكن هذه النظرة أخذت تتعاظم، حتى أصبحت كنيتي ‘سلام الملحد’ ورافقتني بعد الانتقال إلى مركز المحافظة وفي كليتي، بفضل زملائي في الإعدادية".
ويشير سلام إلى أن "تهمة الإلحاد بدأت تتلاشى منذ أن بدأ تنظيم داعش يظهر وخاصةً بعد تعاظم سطوته، وقيامه بتوظيف النصوص الدينية، لكن سوق التهم انتعش مجدداً بعد احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، مثل: عميل للسفارة، جوكري، دواعش الشيعة، ووصف الشيعة هنا مرتبط بكون معظم المحتجين هم من محافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية".
"السلطات، منذ نشوء الدولة العراقية، وظّفت المكارثية في مواجهة معارضيها عبر الاغتيال المعنوي ومن خلال اتهامات بالجملة تطعن في شرفهم ووطنيتهم، ثم التنكيل بهم وإقصائهم"
في السياق نفسه، يقول الناشط السياسي مهتدى أبو الجود لرصيف22: "كنت أرمي الحجارة وأنا طفل على دبابات الاحتلال الأمريكي، وأواجه مع أمي القوات الأمنية وهي تقتحم دارنا بحثاً عن والدي وأعمامي. هذا كان توجه العائلة التي تنتمي إلى التيار الصدري. والدي منذ التسعينيات ملاحَق لأنه من أتباع المرجع الديني محمد صادق الصدر، واستمر بولائه لابنه مقتدى الصدر، بعد 2003".
أتباع الصدر هم الآخرون لم يسلموا من حفلات التخوين والتهم. في التسعينيات من القرن الماضي، كانت الأوساط الحوزوية تتهم الصدر الأب بالعمالة لصدام، ويعزو مختصون هذه النظرة إلى محاولة الصدر ‘عرقنة’ الحوزة، وإبراز دور النجف كمركز ديني لشيعة العراق. وحتى بعد اغتيال الصدر من قبل النظام، استمرت هذه النظرة حتى سنوات ما بعد الاحتلال، ووقفت قوى إسلامية شيعية بالضد من ابنه مقتدى عند مقاومته للأمريكيين.
يعتقد أبو الجود أن "البيئة وتعدد قنوات المعرفة والقراءة، تساهم في صناعة انتقالات فكرية"، مستشهداً بتجربته. يقول: "بعد انتقالي إلى العاصمة بغداد للدراسة في كلية الهندسة، ومشاركتي الفاعلة في احتجاجات 2015، تغيّرت قناعاتي، ولم أعد أؤمن بإمكانية إدارة القوى الإسلامية للدولة، وهنا واجهت تهماً أخرى، من داخل التيار الصدري، مثل: مرتد، وباحث عن المغانم الشخصية".
لا ينتهي الأمر عند المجتمع. العائلة تفرض سطوتها أيضاً وتواجه التوجهات المضادة لما تتبنّاه بقوة. يقول أبو الجود: "شهر عمّي مسدسه في وجهي بعدما رفضت ساحة الاحتجاج مرشح رئاسة الوزراء محمد توفيق علاوي، والذي يدعمه التيار الصدري، وخاطبني بكل وضوح: ‘تاريخنا مرتبط بهذا الانتماء، والجميع بدأ يضغط علينا بسبب ما تكتبه على فيسبوك، وتتبناه في الإعلام. مثلما أنت مخلص لتوجهك، نحن كذلك. دفعنا سنوات من أعمارنا في سبيل هذا الخط، شُردنا وسُجنّا، ووالدك حُكم عليه بالإعدام، وتأتي أنت بهذا العمر، وتحاول ضرب كل هذا؟ لن نسمح بذلك’".
المكارثية
ساهمت قرارات السلطة التي تضيّق على الانتماءات السياسية المعارضة لها، في إنشاء قاعدة اجتماعية تتبنى خطابها. يقول الكاتب والأكاديمي ليث سهر لرصيف22: "أتذكر جيداً في طفولتي كيف قرأت دفتر الخدمة لوالدي الراحل وقد خُطَّ في إحدى صفحاته: ‘طُرد من الجيش بسبب انتمائه للحزب الشيوعي العميل’، ولا زالت تحضرني مشاعر الخوف من الجملة الأخيرة المكتوبة بعناية فائقة".
"المكارثية في العراق يختلف شكلها في كل مرحلة زمنية، لكنها في جوهرها واحدة تهدف إلى إقصاء الآخر والقضاء عليه، وإظهاره بصورة الكائن المخيف، الأمر الذي قد يمهّد لقتله أو يبرره"
يعتقد سهر أن "السلطات، منذ نشوء الدولة العراقية، وظّفت المكارثية (نسبة إلى عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف ريموند مكارثي الذي أسس ثقافة الخوف وتخويف الناس من الشيوعية واستهداف المعارضين بتهمة أنهم شيوعيون في الولايات المتحدة)، في مواجهة معارضيها عبر الاغتيال المعنوي ومن خلال اتهامات بالجملة تطعن في شرفهم ووطنيتهم، ثم التنكيل بهم وإقصائهم، وساعدها في ذلك صنّاع الرأي العام الموالين لها، من شعراء وأدباء وكتاب، ورجال دين، وشيوخ عشائر".
ويضيف سهر: " كانت ولا زالت المكارثية سمة بارزة في العمل السياسي العراقي منذ نشوء الدولة العراقية، وقد انسحب هذا المفهوم من فضاء السياسة إلى فضاء آخر، في الحركات الاجتماعية، ولي تجربة شخصية في أيام مراهقتي مع ظهور السيد محمد الصدر في الوسط الديني، وكيف شيطنه خصومه وربطوا حركته بالسلطة الحاكمة آنذاك".
ويتابع أن "المكارثية في العراق يختلف شكلها في كل مرحلة زمنية، لكنها في جوهرها واحدة تهدف إلى إقصاء الآخر والقضاء عليه، وإظهاره بصورة الكائن المخيف، الأمر الذي قد يمهّد لقتله أو يبرره، وهذا ما حصل مع العديد من المحتجين، مثل الدكتورة ريهام يعقوب، والتي روّجت حملات إعلامية لفكرة أنها عملية، مستندة على صور تجمعها في مناسبة عامة مع القنصل الأمريكي في محافظتها البصرة، وبعد اغتيالها رحّب طيف واسع باغتيالها وبرّره".
وبرأيه، فإن "ما حصل في تظاهرات تشرين كان نقطة تحوّل كبيرة في مسيرة المكارثية في العراق، إذ عمدت الماكينة الإعلامية وأقلام الأحزاب والتيارات الحاكمة إلى شيطنة المتظاهرين وربطهم بالسفارات، بل تعدى ذلك إلى تبرير الجرائم الوحشية من قتل واختطاف الناشطين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...