في الساعة العاشرة والنصف مساءً في إحدى ليالي كانون الثاني/ ديسمبر 2019 ، كان كارلوس غصن الرئيس السابق لتحالف شركتي رينو ونيسان، وأحد عمالقة صناعة السيارات العالمية، والمطلوب في قضايا فساد عديدة من بينها "ديزل غيت"، يرقد مُمددًا داخل صندوق على متن طائرة ستفر به من اليابان إلى لبنان.
يتذكر غصن رحلة هروبه من اليابان، قائلاً في حوار مع الإذاعة البريطانية بي بي سي: "كان من المقرر إقلاع الطائرة في الساعة 11 مساءً، انتظرت 30 دقيقة في الصندوق على متن الطائرة، مترقباً إقلاعها، ربما كانت تلك أطول فترة انتظار مررت بها في حياتي".
ألقي القبض على غصن في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، بعدما قالت شركة نيسان إنه أساء استخدام أموال الشركة، وهو ما ينفيه تماماً، ويقول إنه كانت هناك مؤامرة شاركت فيها دول عديدة لإسقاطه.
وقال غصن لبي بي سي إنه لم يكن ليواجه محاكمة عادلة إن بقي في اليابان، واصفاً وضعه وباقي المتهمين بـ"الرهائن" لدى العدالة اليابانية، ومشيراً إلى أن معدل الإدانة في هذا البلد يزيد عن 99 % ويعتقد أنه كان سيحكم عليه بـ15 عاما في السجن.
وكان غُصن (67 عاماً) قد أوقف في 19 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2018 لدى هبوط طائرته الخاصة في طوكيو، في واحدة من أقوى الصدمات بمجتمع الأعمال، لا سيّما صناعة السيارات، حول العالم. واتُهم بإخفاء مداخيل لغرض التهرب من الضرائب والبذخ في الإنفاق الشخصي وعدد من تهم الفساد المالي والإداري.
وشكا غصن منذ ذاك الحين إجراءات احتجازه والتحقيق معه ومحاكمته، ووصف التهم بأنها "مؤامرة" من المديرين التنفيذيين في شركة نيسان اليابانية التي انتشلها من الخسارة إلى أرباح خيالية. وذلك قبل أن يتمكن من الهروب من اليابان عبر خطة وصفت بـ"السينمائية" ليصل إلى بلده الأم لبنان مساء 30 كانون الأول/ ديسمبر عام 2019، قائلاً إنه حرّر نفسه من الاضطهاد السياسي.
يروى غصن هروبه متنكراً في شوارع طوكيو، ويفسر لماذا اختير صندوق كبير للمعدات الموسيقية لتهريبه من اليابان والبهجة التي شعر بها عندما وصل أخيراً إلى وطنه لبنان.
قصة الهروب
في السادس والعشرين من حزيران/ يونيو المنقضي، جلس غصن أمام ميكرفون في العاصمة اللبنانية بيروت ليحكي لبودكاست "سردة" عن "مغامرة" هروبه من اليابان، وهي الحكاية التي كررها في مقابلته مع بي بي سي المنشورة اليوم.
يقول غصن إنه هرب متنكراً من دون أن يلحظه أحد في شوارع طوكيو، ويفسر لماذا تم اختيار صندوق كبير للمعدات الموسيقية لتهريبه من اليابان والبهجة التي شعر بها عندما وصل أخيراً إلى وطنه لبنان.
في وصف لحظة اعتقاله في مطار طوكيو قبل ثلاث سنوات، قال غصن: "يبدو الأمر كما لو أن حافلة صدمتك أو أن شيئًا مؤلمًا للغاية حدث لك حقًا… الذكرى الوحيدة التي لا أنساها هي الصدمة حيث يتوقف كل شىء".
نقل غصن عقب القبض عليه إلى مركز الاحتجاز في طوكيو، حيث تسلَّم ملابس السجن ووضع في زنزانة: "فجأة كان علي أن أتعلم كيف أعيش بدون ساعة، بدون كمبيوتر، بدون هاتف، بدون أخبار، بدون قلم. لا شيء".
لأكثر من عام، أمضى غصن فترات طويلة في الحجز، ثم رهن الإقامة الجبرية في طوكيو بعد الإفراج عنه بكفالة. ولم يكن من الواضح متى ستتم المحاكمة. يقول إنه كان يخشى أن ينتظر المحاكمة لسنوات، واحتمال أن يُسجن 15 عامًا إذا أدين على حد قوله.
"فجأة كان علي أن أتعلم كيف أعيش بدون ساعة، بدون كمبيوتر، بدون هاتف، بدون أخبار، بدون قلم. لا شيء".
وكشف أنه وضع خطة الهروب بعد إبلاغه أنه لم يعد بإمكانه الاتصال بزوجته كارول، قائلاً: "كانت الخطة تقضي بأنني لا أظهر وجهي، لذا يجب أن أختبئ في مكان ما، والطريقة الوحيدة التي يمكن أن أختبئ بها هي أن أكون في صندوق أو في حقيبة أمتعة حتى لا يتمكن أحد من رؤيتي، ولا يمكن لأحد التعرف عليّ وهكذا يمكن للخطة أن تنجح".
وقال إن فكرة استخدام صندوق كبير يحتوي عادة على آلات موسيقية "كانت الأكثر منطقية، خاصة أنه في هذا الوقت كان هناك الكثير من الحفلات الموسيقية في اليابان". ولكن كيف يمكن لشخص مشهور جداً في اليابان أن يتمكن من الانتقال من منزله في العاصمة، إلى المطار، والهرب؟".
يجيب غصن بأن الخطة كانت تتمثل في التصرف بشكل طبيعي قدر الإمكان في ذلك اليوم، "يجب أن يكون يوماً عادياً حيث أمارس المشي بشكل طبيعي بملابس عادية، وأن يكون الموقف طبيعياً، والتغيير مفاجئاً في كل شيء".
تعيّن على غصن تغيير البدلات التي كان يرتديها لسنوات كمسؤول تنفيذي رفيع المستوى في قطاع السيارات العالمي، وأن يعمد إلى ارتداء "شيء غير رسمي إلى حد ما"، وقد فكر في الجينز والأحذية الرياضية.
وقال: "يمكنك أن تتخيل أنني اضطررت للذهاب إلى أماكن لم أزرها من قبل، وشراء ملابس لم أشترِها من قبل، كل هذا كان جزءًا من كيفية منح نفسك أقصى فرصة للنجاة وعدم لفت الانتباه إلى نفسك على الإطلاق".
من طوكيو، سافر غصن بالقطار السريع إلى أوساكا، حيث كانت طائرة خاصة تنتظر في المطار المحلي للمغادرة. وكان الصندوق ينتظر غصن في فندق قريب، قائلاً: "عندما تدخل الصندوق، لا تفكر في الماضي، ولا تفكر في المستقبل، بل تفكر فقط في اللحظة الحالية".
وتابع: "لم أكن خائفًا، كان تركيزي على هذه الفرصة، التي لا يمكنك تفويتها. إذا فاتتك، فستدفع مقابلها حياتك، وتكون رهينة في اليابان".
وذكر غصن أن من عاونه بشكل مباشر على الهرب، هما أب وابن أمريكيان يدعيان مايكل وبيتر تايلور، تظاهرا بأنهما موسيقيان، وهما من توليا نقله من الفندق إلى المطار.
وبشكل عام، يعتقد غصن أنه ظل في الصندوق ساعة ونصف تقريباً، على الرغم من أن الأمر بدا له كأنه "عام ونصف".
وأقلعت الطائرة الخاصة في الوقت المحدد، وحلق غصن خلال الليل وصولاً إلى تركيا، وهناك جرى نقله إلى طائرة أخرى حلقت به نحو بيروت التي وصلها في صباح اليوم التالي.
قصة غصن تحتوي على كل شيء: الغطرسة، والفساد، وسياسة الشركات العالمية، وحكاية هروب جديرة بفيلم هوليوودي.
ويستفيد غصن من أن اليابان لم توقع اتفاقية لتبادل تسليم المجرمين مع لبنان، ما يسمح له بالبقاء آمناً في بيروت، فيما سلمت الولايات المتحدة مايكل تيلور وابنه بيتر إلى اليابان، ويواجهان الآن عقوبة السجن ثلاث سنوات.
وبرغم نجاة غصن من السجن لهروبه، تظل قضايا الفساد التي تورط فيها قائمة، إذ يواجه جريج كيلي، زميل غصن السابق في شركة نيسان، الاحتجاز قيد الإقامة الجبرية في طوكيو، بسبب مزاعم بأنه ساعد رئيسه السابق في إخفاء أرباحه، لكن كيلي ينفي التهم.
تذكر بي بي سي أن قصة غصن تحتوي على كل شيء: الغطرسة، والفساد، وسياسة الشركات العالمية، وحكاية هروب جديرة بفيلم هوليوودي. ويعمل غصن حالياً مع المحامين لتبرئة اسمه ويعيش تحت حراسة مسلحة في بيروت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...