شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"هو اللي بيطبطب عليّ"... أمهات متحكّمات وآباء ليّنون في عائلات ذكورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 9 يوليو 202105:22 م

"كانت أمي توقظني فجراً في شدة البرد لأغسل الملابس، وتمنحني مهلة للسابعة صباحاً حتى تجد الغسيل منشوراً على الحبل، وإذا تأخرت قليلاً تنهال عليّ بالضرب والسباب. وبعد غسل الملابس تطلب منا تنظيف عش الطيور، وكل أسبوع نُخرج المراتب إلى سطح البيت، وفي حال تقاعسنا، نلقي أقسى عقاب منها، كما تتحكّم في إدارة ماديات البيت، وتذهب بنا للسوق".

تتذكر دعاء النجار والدتها بتلك الأحداث، وتشتاق دائماً إلى والدها المتوفي، "كنت عندما تقسو علي أمي أهرول سريعاً إلى أحضان أبي، هو الذي كان "بيطبطب عليّ".

تضيف دعاء (35 عاماً) مقيمة في القاهرة، وترعرعت بإحدى محافظات الدلتا: "كان أبي رحِمه الله حنان العالم كله فيه، يربت علينا حين تقسو والدتنا، يعطينا ما نطلبه من المال، يعطي، لا يحرمنا من شيء، يحبنا دون شروط، على عكس أمي. كان غرضها تربيتنا، وتهتم بما يقوله الناس بحكم سكننا في منطقة شعبية".

وتكمل: "لا أنسى حين كنت بالصف الثالث الابتدائي، عدت يوماً من المدرسة، قابلتني أمي بالضرب حتى ازرقّ لون جلدي، وحين سألتها عن السبب، كان ردها لأنها وجدت خطاً من القلم الجاف على خماري الأبيض".

عائلة دعاء، تشبه العديد من الأسر، يمكن أن نعتبرها ظاهرة، لبيوت تحكمها نساء متشددات.

"عندما عدتُ من المدرسة قابلتني أمي بالضرب حتى ازرقّ لون جلدي، وحين سألتها عن السبب، كان ردها لأنها وجدت خطاً من القلم الجاف على خماري الأبيض"

يتفق معظم الآباء على أن أحدهم يمثل الشدة، بينما الآخر يجسد الطيبة والحنان، ولكن ليس دائماً يلعب الرجل الأب دوراً قاسياً ومتشدداً يشيع الرهبة بين أبنائه.

ولكن هيام عبد العاطي، سيدة أربعينية تسكن بمحافظة أسيوط، ترى أن النمط الغالب في صعيد مصر هو الأم المتشددة، الممثلة حتى للقيم الذكورية التي تناصر الأخ والابن الذكر.

تقول هيام لرصيف22: "أغلب البيوت هنا تقودها المرأة، هي الآمر الناهي، وكلمتها هي العليا، في المنزل تجدها تتحكم في كل صغيرة وكبيرة، ودور الرجل يقتصر على العمل لجلب المال، والأم تصرف وتدبر أمور البيت بعد أخذها رواتب الجميع. كما هي من تزوج أولادها وتختار لهم الزوجات، تجدها تقول لابنها "سيبني أجمع لك واحدة حلوة"، يعني تختار له عروساً، وهو "ملهوش كلمة"، تجد زوجات أبنائها يرجعون لها في كل صغيرة، حتى في أخذ مكيال السمن لقلي بيضتين للعشاء".

وتضيف هيام: "السيدات هنا متحكمات لأبعد حد، حتى يصل في أكثر الأحيان إلى أن تقول الأم لابنها "ودي زوجتك بيت أبوها الليلة، ما ينفعش تبات عنده بأي شكل من الأشكال"، كما من الشائع أن تكون كبيرة المنزل سيدة، فمثلاً في بيت زوجي خالته هي كبيرة العائلة، حين وقوع خلاف يعودون إليها لحسم القرار".

"فاطمة تعلبة" و"حزينة"

لم تغب الأمهات المتحكمات في شؤون العائلة، الصغرى والكبرى، عن الأعمال الروائية والسينمائية والدرامية، باستثناء القليل.

يقول الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة لرصيف22: "لم تكن تلك الأم بعيدة عن ساحات الأدب، فقد كانت في شخصية "فاطمة تعلبة" في رواية خيري شلبي (الوتد)، وشخصية "حزينة" في رواية يحيى الطاهر عبد الله (الطوق والإسورة)، ورواية (أيام الإنسان السبعة) لعبد الحكيم قاسم، وفي عدد من روايات يوسف القعيد".

ويضيف: "تلك الروايات انعكاس لواقع موجود داخل المجتمعات الريفية، التي كانت تعد فيه الأم بمثابة عمود داخل البيت وخارجه، مما يعطيها طابع الشدة، والغلظة بعض الشيء".

ويشير الناقد الفني، أحمد الخميسي في تصريح لرصيف22 إلى قلة الأعمال الأدبية التي تتناول شخصية الأم المتحكمة مقارنة بالآباء، قائلاً: "رغم تناول شخصية الأم المستبدة في عدد من الأعمال السينمائية إلا أنك تجد قلة تطرقت إليها في كتابات الأدب العربي. مثلاً كتب نجيب محفوظ 33 رواية و16 مجموعة قصصية لم يتطرق فيها لهذا النوع من المرأة، ولا العقاد فعل ذلك، وتناول طه حسين في "الكروان" الأم التي انتصر عندها المنطق الاجتماعي على المنطق الإنساني في توقيع العقوبة على ابنتها، لكنه كان حديثاً على استحياء".

ويضيف: "حتى ما بعد جيل الرواد لا تجد إلا إشارات عابرة عن تلك الأم، ويطغى الجانب العاطفي على الأم في صورة المضحية أو الزوجة المستكينة. في الأدب العالمي تجد رواية "الأم" للكاتب مكسيم غوركي، التي تتناول الأم الشجاعة على عكس الرجل المحفوظي أو سي السيد الذي أُفردت له مساحات شاسعة في الأدب والفن".

ويرى الخميسي أن السبب الرئيسي هو "انصراف الكتاب نحو الفئة المهمة، ويعتبر المرأة مهمشة، وما يتم تناوله هو ما يهم الرجل فقط".

ويتابع: "ثلاثية نجيب محفوظ مع تتابع أحداث الرواية، تجد نوعاً من تبادل الأدوار بين السيد أحمد عبد الجواد وزوجته أمينة، في البداية كانت هي محرومة من كل حقوقها، بما في ذلك حق الخروج من البيت، وفي النهاية أصبحت تمتلك هذا الحق، وتتحرك بحريّة بين المزارات المتعددة، فيما يصبح هو "قعيد البيت" بسبب المرض".

ويخلص حمودة إلى أن "تعدد النماذج المهيمنة من شخصيات الرجال والنساء، في الأعمال الإبداعية، ما هو سوى انعكاس تداخلت فيه ملامح مجتمعات أمومية مبكرة مع ملامح مجتمعات أبويّة لاحقة، خلال تاريخ طويل ممتد".

لماذا الأم الذكورية؟

وتقرّ الدكتورة حسنية البطريق، الاستشارية النفسية والتربوية، بوجود ظاهرة "الأم المتشددة"، وترجع ذلك إلى "تربيتها في بيئة غير داعمة للين المعتاد عند الإناث، في الأساس عاشت تخدم إخوتها، لم تر سوى المرأة الخادمة للرجل على اختلاف صلتها به، بيئة تعطي رخصة تميز للذكر".

وتربط البطريق تشكل شخصية الأم المستبدة إلى الرجل المهمل "التارك الحبل على الغارب لزوجته، وهو عامل رئيسي في وجود الأم الذكورية".

"الأم الذكورية ما هي إلا صنيعة رجل متخلٍ في الغالب"، تقول البطريق.

من الناحية الاجتماعية، تقول هالة منصور، أستاذة علم الاجتماع بجامعة بنها، لرصيف22: "25% من الأمهات المصريات معيلات، لسبب الوفاة أو الطلاق أو حتى السفر، معيلات بشكل كامل للأسرة، في ظل غياب دور الأب".

"أغلب البيوت هنا تقودها المرأة، هي الآمر الناهي، وكلمتها هي العليا، ودور الرجل يقتصر على جلب المال، وتأخذ كل رواتب ذكور عائلتها، و"الرجالة مالهومش كلمة"، وزوجات أبنائها يرجعون لها حتى في أخذ مكيال السمن لقلي بيضتين للعشاء"

وترجع وجود الأم "المتحكمة" إلى التغيرات التي طرأت على المجتمع، إذ وضعت المرأة تحت ضغط وعبء شديدين، تقول: "على سبيل المثال، تخلي مؤسسات الدولة عن القيام بمهامها، مؤسسة التعليم مثلاً، بعدما كانت هي مؤسسة التربية والتعليم، ودور البيت إشرافي فقط، انقلب الأمر حتى أصبحت المدرسة تقوم بالدور الإشرافي، وأوكلت المهام للبيت، وبدورها على الأم. والذي زاد الطين بلة هو أن الأب والمجتمع يحاسبان الأم على تقصيرها، رغم نزولها سوق العمل كالرجل تماماً".

وتشدد البطريق من جهتها على ضرورة تجنب "القسوة والإهانة" في التربية، تقول: "الطفل ما هو إلا روح تحتاج إلى احتواء، ونفس تحتاج التهذيب، وجسد يحتاج الاحترام".

"التربية بالقسوة والضرب والإهانة لا تخلق رجالاً ناجحين، ولا فتيات مسؤولات كما يدعي متبعو هذا المنهج، ولو نجحوا في دراستهم ومهنهم، فلن يكونوا إلا مثل الثمرة التي يجذبك لونها، ولكنها عطنة من الداخل"، تقول البطريق.

بينما ترى منصور أنه على الأب والأم لعب دور تكاملي بين الشدة واللين لتربية أطفال أسوياء، وتنهي حديثها قائلة: "الذكورية ما هي إلا حالة نفسية وذهنية، يتقمصها كل من الذكر والأنثى، على عكس ما هو معروف مجتمعياً أن القسوة مرتبطة بالأب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image