إنه وقتُ الغروب في العاصمة بغداد. كنت عائداً من التسوق. دخلت سريعاً للاستحمام ثم خرجت، وإذا بمدير مكتب الجزيرة في بغداد وليد إبراهيم يتصل بي. قُلت سأرد عليه بعد الصلاة، لكنني تراجعت عن قراري. مباشرة سألني: "هل فعلاً قتلوا هشام الهاشمي؟".
ولأن الشائعات تكثر ورسائل مجموعات الواتساب تُحيي وتُميت لوحدها، قلت له: "هذه قصص الواتساب لم تنتهِ يا أبا مروة"، لكنه بقي مصراً على أن أسأل وأتأكد بصفتي صديقاً مقرباً من هشام.
على مجموعات الواتساب، كانت الأخبار تتحدث عن مقتله، لكنني لم أصدق ذلك حتى تأكدت من رئيس مرصد الحريات الصحافية زياد العجيلي الذي يُعَدّ من أبرز المقربين من الهاشمي.
نسيت أن أصلّي حينها، لكنني لم أنسَ أن أبكي عليه طويلاً. نسيت عملي أيضاً. اتصلت بي المؤسسة التي أعمل فيها للتأكد من الخبر، فأكدته، لكنني رفضت كتابته. كيف تكتب خبر مقتل صديقك؟!
تحوّل منزلي الهادئ المريح إلى مساحة حزن، ليس لأن المسافة من منزل هشام إليه قريبة جغرافياً، إذ كنّا نسكن في ذات المنطقة، بل لأننا فقدنا صديقاً.
تعرّفت على هشام في بدايات عام 2014 ، في مرصد الحريات الصحافية، ثم صرنا أصدقاء، وصار صديقاً للجميع، وكُنت أقول له مازحاً: "كيف صرت صديقاً للجميع، للمتضادين بهذه السرعة؟ وكأنك ضابط مخابرات تخترقنا".
كان بعض أصدقاء هشام الذي اغتاله، في السادس من تموز/ يوليو 2020، مسلحون "مجهولون" في بغداد لا يفكّرون بتشييع صديقهم، بقدر ما كانوا يريدون الحفاظ على أرواحهم. كانت لحظات حفظ ما تبقى من أرواح.
وصل خبر مقتل الهاشمي. لا أحد من أصدقائه المقربين بقي في منزله. ذهب أحدهم إلى منزل أقربائه، وآخرون غادروا بغداد مسرعين إلى أي مكان قد يحميهم. كان هؤلاء الأصدقاء يتصلون ببعضهم ويطلبون تغيير أماكن سكنهم مؤقتاً. كانوا يشعرون بخطر كبير.
في تلك الليلة، كانت رسالة القَتَلة سريعة الوصول. الجميع فهمها. لذا فرغت بغداد خلال ساعات وربما أقل من مجموعة يُعَدّ أفرادها من الأبرز في المجتمع المدني والصحافة. هؤلاء الذين تركوا بغداد كانوا فاعلين في توجيه الانتقادات للحكومة وللجماعات المسلحة، لكنهم توقفوا عن كل شيء.
بعد شيوع خبر مقتل هشام الهاشمي، غيّر 21 ناشطاً وصحافياً بارزاً مكان سكنهم في بغداد بشكل سريع، وبعضهم هرب خارج العاصمة العراقية أو حتى خارج العراق
بينما كان الناس يتداولون خبر مقتل الباحث والخبير الأمني البارز على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت هناك سيارات تغادر العاصمة باتجاه إقليم كردستان ومحافظات الفرات الأوسط. ليس هذا بحسب، بل لجأ البعض إلى المحافظات التي كانت تحت سطوة "داعش" في محاولة للاختفاء.
وفقاً لمعلومات حصل عليها رصيف22 فإن 21 ناشطاً وصحافياً بارزاً غيّروا مكان سكنهم في بغداد منذ لحظة مقتل الهاشمي، وبعضهم هرب خارج بغداد.
يوصَف الطريق الرابط بين بغداد وأربيل وبينهما محافظة كركوك، بـ"أسوأ" الطرق في العراق، فالمسافة بين العاصمة وكركوك دائماً ما تشهد حوادث مرورية كثيرة بسبب الحفر التي فيه، فضلاً عن المسافة الطويلة التي كانت تصل آنذاك إلى نحو 50 كيلومتراً، وهي مسافة تجمع بين جانبي الطريق وتضطر المسافرين الذاهبين والقادمين إلى أن يكونوا في جانب واحد.
على هذا الطريق الخطر، انطلق ثلاثة صحافيين بارزين في بغداد باتجاه أربيل. كانت انطلاقتهم في ساعة متأخرة من الليل. يتذكرون أنها كانت الواحدة والنصف فجراً. قرروا في البدء البقاء في بغداد، لكن الخوف دفعهم إلى تركها ليلاً.
عندما قُتل الهاشمي قرروا مغادرة محال سكنهم والذهاب عند أقربائهم في العاصمة، لكن اتصالاً هاتفياً وردهم من صديق لهم في "الدولة"، طلب منهم مغادرة بغداد لأن المعلومات كانت تشير إلى خطورة الوضع على النشطاء والصحافيين، وفقاً لما ذكروه نقلاً عن صديقهم.
يقول أحدهم لرصيف22، ويرفض ذكر اسمه: "كنا نتوقع أن تكون هناك اغتيالات لنشطاء ومحتجين، لكننا لم نتوقع اغتيال الهاشمي. هذه رسالة صريحة وواضحة كانت لنا. قتلوا الأكثر شهرة والأكثر تأثيراً".
ويضيف: "أخشى قيادة السيارة سريعاً، قدتها بسرعة تصل إلى 180 كيلومتراً في الساعة، وهي سرعة لم أبلغها سابقاً. كنت أفكّر بأن قتلة هشام يلاحقونني وأصدقائي لقتلنا، فالرعب زُرع في داخلنا".
الخوف الذي تولّد عن اغتيال هشام الهاشمي ما زال موجوداً لدى كثيرين من الناشطين والصحافيين. يشعرون بأن عملية قتل جماعي قد تطالهم، خاصة أؤلئك الذين كانوا مقرّبين جداً من الهاشمي
عاشت بغداد في ذلك اليوم لحظات حزن ورعب في آن واحد، حزن الذين لم يعرفوا هشام عن قرب، وحزن ورعب أصدقائه الذين اضطروا لترك العاصمة سريعاً، وكأنهم كانوا في سباق مع مَن يخافون منهم.
صحافي لجأ إلى محافظة صلاح الدين التي كانت تحت سيطرة تنظيم "داعش"، رغم أنه لم يزرها منذ ثلاثة أعوام، يقول لرصيف22: "عندما سمعت أمي وإخوتي خبر مقتل الهاشمي، أركبوني سيارة شقيقي الصغير الذي قادها باتجاه أقاربنا في صلاح الدين".
ويضيف: "أخذ شقيقي هاتفي وأطفأه، ورفض أن أتحدث إلى أي أحد قبل الوصول إلى صلاح الدين عند أقربائنا، وعندما وصلنا رفض أن أقول أنني هناك".
هذا الخوف الذي ما زال موجوداً لدى هؤلاء، كان يشير إلى شعورهم بأن عملية قتل جماعي قد تطالهم، خاصة أؤلئك الذين كانوا مقرّبين جداً من الهاشمي.
بعد ثلاثة أيام على مقتل الهاشمي، زار رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي عائلته في منطقة زيونة الراقية في بغداد، ووعد بالقبض على القتلة خلال أيام، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.
يوصَف الكاظمي بأنه أحد أصدقاء الهاشمي، وكان الباحث الذي اغتيل يدافع عن خطوات حكومة "صديقه" التي دخلت في حزيران/ يونيو 2020 بصِدام مع الفصائل المسلحة.
منذ لحظة مقتل الهاشمي، انتشر الرعب في صفوف الصحافيين والنشطاء، رغم أن المئات قتلوا قبل هشام في الاحتجاجات، إلا أن مقتله كان نقطة تحوّل كبيرة، أفقدت الجميع الثقة بالحصول على الحماية من قبل الحكومة أو غيرها.
يسكن بعض هؤلاء النشطاء والصحافيين الآن في إقليم كردستان العراق، وبعضهم في تركيا، بينما بعضهم عاد إلى بغداد بعد أسابيع وخفّف نشاطاته خشية على حياته.
يقول صديق مقرب من الهاشمي، وهو أحد الوجوه الإعلامية البارزة في العراق: "حاولتُ ألا تعرف زوجتي بالخبر، لكنها شكّت بأن شيئاً ما حدث وأنا أخفيه عندما قلت لها: ما رأيك بالذهاب إلى بيت أهلك الآن؟".
ويضيف لرصيف22: "بينما كنت أقول ذلك والخوف يسيطر عليّ، وردني اتصال من صديق آخر يطلب مني عدم البقاء في المنزل، فهناك معلومات كانت تشير إلى وجود استهدافات أخرى لأشخاص آخرين".
كان هذا الصحافي الذي يعيش الآن في منزل غير منزله السابق لكنه بقي في العاصمة بغداد، يتخيل أن مسلحين يقفون أمام باب منزله وسيقتلونه بمجرد الخروج.
بين لحظات الرعب وإقناع الزوجة بمغادرة المنزل، اضطر إلى إخبارها بمقتل الهاشمي الذي كان صديقه، لكن زوجته رفضت الخروج من المنزل قبل أن يأتي إخوته وإخوتها ليرافقوهم أثناء الخروج.
منذ السادس من تموز/ يوليو 2020، اختفى عدد كبير من النشطاء والصحافيين والمدونين البارزين الذين يقيمون في بغداد. والبعض الذي عاد إلى نشاطاته السابقة عاد بهدوء، وخفف انتقاداته، ولم يعد يُعلّق على كل شيء. لا يريدون تكرار مشهد مقتل صديقهم أمام باب منزله وهو عائد من مقابلة تلفزيونية.
منذ مقتل الهاشمي الذي يُعد أبزر باحث عراقي في مجال الأمن والجماعات الإرهابية، يُردد صحافيون ونشطاء سؤال: "مَن بقي لأطفال هشام؟ علينا أن نحمي عوائلنا، فما نقوله اليوم قد يكون سبباً لقتلنا في الغد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...