لم تمنع جائحة كورونا جمعية "بابا روني لفنون السيرك" في تونس، من تنظيم الدورة الرابعة للمهرجان الدولي لفن سيرك الشارع، التي انطلقت فعالياتها الخميس، لتستمر لغاية 29 يونيو/حزيران الجاري، تشارك فيها سبعة بلدان هي تونس، فرنسا، إيطاليا، السويد، تشيلي، كولومبيا والأوروغواي.
بهلوانيون ومهرّجون وقارعو طبول ومدربون على المشي فوق الحبال، انطلقوا الخميس في رحلتهم مع الفرجة والمتعة من شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية، على مدار ثلاث ساعات من الإدهاش، ليجوبوا شوارع أخرى من محافظات بن عروس، سوسة، الكاف، منوبة وزغوان.
حيث سيكون فنانو السيرك، القادمون من دول عدة من العالم، على موعد مع جماهير هذه المدن على مدار ستة أيام، يستنهضون خلالها الفرح لدى الكبار والصغار، ويذكّرون بأن هناك دائماً مساحة للبهجة، حتى في أحلك الظروف والفترات كالتي تعيش على وقعها تونس.
ويرى مدير المهرجان هيثم القصداوي، أن حالة الانغلاق التي فرضتها جائحة كورونا جعلت التونسيين في حاجة ماسّة للترفيه، ولكنه يشدّد في الآن ذاته على ضرورة احترام البروتوكول الصحي والحرص على التقيد بإجراءات الوقاية واحترام مسافة التباعد الجسدي.
المهرجان الدولي لسيرك الشارع بتونس يُعدّ الأول من نوعه في العالم العربي والقارة الأفريقية، ويلاقي إقبالاً شعبياً كبيراً
ويقول القصداوي لرصيف 22: "للمرّة الثانية على التوالي ننظّم المهرجان في ظروف صحية دقيقة، وذلك من منطلق إيماننا بأهمية دور الفن في مواجهة مثل هذه الظروف والتخفيف من وقعها، لا سيما في ظل حالتي الانغلاق والخوف الكبيرتين اللتين فرضتهما الجائحة. وقد لمسنا إقبالاً جماهيرياً هاماً على العرض، وهذا يدلّ على تعطش الناس للفرحة والبهجة اللتين حدّت منهما الجائحة، ولا أعتقد أن هناك أفضل من فن السيرك للقيام بذلك، ولكن في المقابل نحاول قدر الإمكان الالتزام بالبروتوكول الصحي".
ويضيف: "فن سيرك الشارع هو فن معاصر موجود في كل دول العالم بما في ذلك تونس، وهو يلغي ثقافة الخيمة والحيوانات في عروض السيرك، ويعتمد على الفرجة التي يؤمنها فنان السيرك. ونأمل أن ينجح المهرجان في نشر هذا الفن أكثر وتشجيع محبيه على الانخراط في ممارسته، خاصة وأن سيرك بابا روني ينظم تدريبات مجانية لمن يرغب في احتراف هذا الفن.
كما نرجو أن يكون محفزاً لفناني السيرك في الدول العربية ليقوموا بخطوات مماثلة، من شأنها أن تمنح هذا الفن مكانة أكبر، كما هو الشأن في بقية دول العالم".
ويهدف المهرجان الدولي لفن سيرك الشارع لنشر فنون السيرك والتعريف بها وكسر النظرة النمطية التي تختزل هذا الفن في خيمة وعروض للحيوانات.
لا يقتصر المهرجان الدولي لفن سيرك الشارع على العروض الضخمة وتنشيط الشوارع، بل ينظم ورشات تكوينية بإشراف المختصّين في مجال فنون السيرك.
والمهرجان الدولي لسيرك الشارع بتونس يُعدّ الأول من نوعه في العالم العربي والقارة الأفريقية، ويلاقي إقبالاً شعبياً كبيراً، الأمر الذي حفّز المشرفين على المهرجانات الصيفية، خاصة في السنوات الأخيرة، على برمجة عروض لفن السيرك أكثر من السابق. وطالب التونسيون الذين تحتفظ ذاكرتهم بأجواء عروض السيرك التي كانت تحتضنها البلاد باستمرار سابقاً، بزيادة عدد العروض المبرمجة، إيماناً منهم بأن هذا الفن القائم أساساً على لغة الجسد يلتقي تحت لوائه الجميع، كباراً وصغاراً، باعتباره عنواناً للبهجة والفرح.
وسيرك الشارع هو من تقاليد الفرجة التي دأبت الساحات في تونس على احتضانها منذ عقود طويلة، سواء عبر العروض المحلية أو الأجنبية، حتى أن أجيالاً مختلفة لا تزال تحتفظ بصور التقطتها الذاكرة، عندما تسمّرت أبصارهم يوما أمام خيمة لعروض السيرك المبهرة، أو أمام شاشة التلفاز التي كانت وفية هي الأخرى لنقل عروض مختلفة لتعميم الفرجة.
فن سيرك الشارع هو فن معاصر موجود في كل دول العالم بما في ذلك تونس، وهو يلغي ثقافة الخيمة والحيوانات في عروض السيرك، ويعتمد على الفرجة التي يؤمنها فنان السيرك
ورغم تراجع حضور هذا الفن لسنوات، إلا أن هناك توجهاً جدياً نحو إحياء هذا التقليد، لا سيما في ظلّ تحرّر الشوارع في تونس من الكثير من القيود، وتحوّلها إلى فضاءات مفتوحة للتعبير عبر طرق مختلفة، أبرزها الفن باختلاف أنواعه. فإلى جانب التظاهر والاحتجاج والصدام مع رجال الأمن، فهي أيضاً فضاء مثالي للاحتفاليات، ولا توصد الشوارع أبوابها أمام كل ما من شأنه أن يزرع الفرحة، كما ظلّت وفية للثقافة والفنون رغم الوضع العام الصعب في البلاد، سواء بسبب الجائحة أو الأزمات الأخرى.
مدرسة السيرك التونسية
ورغم المحاولات والخطوات الكثيرة التي شهدتها تونس في إطار المساعي لتكوين سيرك خاص بالبلاد، برؤى جديدة ومعاصرة تقطع مع الأفكار النمطية المألوفة عن فن السيرك، إلا أن الميلاد الحقيقي لهذا الفن بتونس كان ببعث المدرسة التونسية لفنون السيرك سنة 2005، على يد مؤسسها الفنان المسرحي محمد إدريس، ضمن مؤسسة المسرح الوطني، في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ومقرها داخل المدينة العتيقة بالعاصمة.
وتعود فكرة إنشاء المدرسة الوطنية لفنون السيرك بتونس إلى سنة 1995، عندما التقى محمد إدريس ببرنار توران، المدير العام لمركز فنون السيرك بشالون في فرنسا. إثر ذلك، تم تنظيم مناظرة بالاشتراك مع مدرسة روني السيرك الفني بباريس، لاختيار 19 شاباً وشابة، من بين 50 تقدموا للمناظرة. ودخل تلاميذ المدرسة الوطنية لفنون السيرك في ورشات تحضيرية داخلية عام 2003.
ونظّمت المدرسة الناشئة حينها بالتعاون مع نظيرتها الفرنسية، عدة دورات تدريبية للراغبين في مزاولة هذا الفن بباريس، تخرّج منها عدد هام من محترفي فن السيرك في تونس. إلا أن مغادرة محمد إدريس لمؤسسة المسرح الوطني التونسي ومجيء المخرج المسرحي فاضل الجعايبي، الذي يبدو أن لم يكن يؤمن بأهمية فنون السيرك، أضعف هذه المدرسة ولم يتسنّ لها قطف ثمار ما زرعته، في تلك الفترة التي شهدت انفتاحاً هاماً على فنون الفرجة والتعبير الجسماني.
كان الفنان التونسي محمد إدريس يؤمن بشدة بأن التعبير الجسدي يشمل بهلوانيات السيرك كما يشمل الكوريغرافيا، ويرى أن كلا الجنسين الفنيين ينبغي أن يرفدا المسرح المعاصر الذي أصبح منفتحاً أكثر من أي وقت على لغة الجسد ومهاراته، ولم تعد الكلمة هي الركيزة الأساسية فيه.
وقد لخّص محمد إدريس اعتقاده هذا في كلمته التي ألقاها لدى افتتاح مدرسة السيرك، قال فيها إن "فن السيرك هو فن الألفية الثالثة، والهدف من إنشاء هذه المدرسة هو تكوين جيل جديد من الفنانين قادرين على اقتحام جميع أنواع فنون الفرجة، كالمسرح والسينما والفنون الاستعراضية بجميع فروعها".
وبعد تخبط كبير، أغلقت مدرسة السيرك في تونس أبوابها سنة 2015، لكن ذلك لم يمنع محترفي هذا الفن وعشاقه من الاستماتة في المقاومة من أجل الاستمرار وتجنّب الاندثار. جهود كبيرة بذلت وكُللت ببعث جمعية "سيرك بابا روني"، في منطقة المحمدية من محافظة بن عروس، القريبة جداً من العاصمة، بهده الحفاظ على استمرارية هذا الفن وتدريب هواته وتطوير أدواته، فضلاً عن تقديم عروض في كامل محافظات البلد.
وتلقى الشباب المؤسسون لهذه الجمعية تدريبات في بلدان رائدة في المجال، على غرار ألمانيا، ما ساهم في تنمية قدرات عناصرها وصقل مواهبهم وتطوير معارفهم التي أفرزها الاحتكاك بفرق عديدة من كامل أنحاء العالم.
رغم ريادة تجربة المهرجان الدولي لفن سيرك الشارع عربياً وأفريقياً، إلا أن فن السيرك في تونس مازال يطالب بالاعتراف به رسمياً، لا سيما بعد غلق المدرسة التونسية لفنون السيرك
وبعد مسلسل العروض التي تقدمها الجمعية في كامل البلاد وفي تظاهرات دولية ووطنية، ارتأت أن تذهب في اتجاه إحياء هذا الفن ومنحه مهرجاناً رسمياً كما بقية الفنون، يكون بمثابة الميلاد الثاني الحقيقي لهذا الفن في تونس.
وقد نجح هذا الشباب المتحمس لإحياء السيرك وإعادة زرعه مجدداً وبقوة ضمن التقاليد الفرجوية بتونس، في تجاوز إرباكات المرحلة التي تلت إغلاق مدرسة، رغم المعوقات محلياً والانفتاح الخجول عربياً على مزاولة هذا الفن، مقارنة بواقع هذا الفن في البلدان المتقدمة التي قطعت أشواطاً كبيرة في تقنيات الأداء، وفي جعله مواكباً لكل تطورات العلم.
علماً أن العرب كانوا سباقين في ممارسة هذا الفن، وإن كان قد انحصر نشاطهم في هيئة تقليدية وتجارية، إلا أنه لم يقع البناء على هذا الموروث الشعبي وتطويره ليواكب تطوراته في بقية دول العالم.
ولكن رغم ريادة تجربة المهرجان الدولي لفن سيرك الشارع عربياً وأفريقياً، إلا أن فن السيرك في تونس مازال يطالب بالاعتراف به رسمياً، لا سيما بعد غلق المدرسة التونسية لفنون السيرك، ويعتقد المشرفون على هذه التظاهرة أن الاعتراف قادم لا محالة، لا سيما في ظل انخراط وزارة الثقافة وبعض الجهات الرسمية في دعم المهرجان وإيمانها به.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...