الحياة مفروضة علينا، ولن أفرضها على أحد. وأرى أن الإنجاب جريمة وجودية يؤيدها الدين، والقانون، والعرف، وتسيجها البداهة، والروتين. أن تنجب طفلاً يعني أن تخلق مشكلة، أو قنبلة موقوتة ستنفجر يوماً ما بسبب الجوع، والضعف، والوهن، والألم، وما يجري في هذا العالم"، هكذا وصفت سعاد، الفلسفة التي تعتنقها وبعض أصدقائها، ويُطلق عليها اسم "اللاّ إنجابية".
"هذا جناه أبي عليّ"...لكنني أرفض أن ألد طفلا أجني عليه. مغاربة يعتنقون مبدأ اللا إنجابية
وتؤكد سعاد (37 سنة) التي تعمل صيدلانية، وبحماس كبير ظهر واضحاً في لغة جسدها، إذ كانت ترفع صوتها تارة خلال الإجابة عن أسئلتنا، ويدها تارة أخرى، كما يفعل المتظاهرون، أن إيمانها بـ"اللا إنجابية"، ليس انصياعاً وراء صيحة جديدة، ولا وسيلة للفت الانتباه. "آمنت بها بعد بحث معمق عن إجابات لأسئلة كانت تراودني منذ أيام المراهقة."
الثلاثونية المغربية تعرضت لتحرش جنسي من قِبل أحد أقارب والدها خلال طفولتها، وتقول إن ذلك جعلها تتساءل عن الأسباب الحقيقية التي تجعل البعض يقرر إنجاب طفل. "أبي كان بارعاً في التكاثر (لديها سبعة إخوة)، لكنه لم يكن يوما مسؤولاً عنا، بل جعلنا عرضة لاحتمالات قاسية، فالأمر كان بالنسبة إليه مقامرة لا غير، وقررت ألا أكرر الخطأ نفسه".
هل هي نزوة؟
ويرى البشير حجي (28 سنة) وهو طالب دكتوراه، ويعتقد بـ"اللا إنجابية"، أنها "فلسفة واضحة وواحدة، ليست فيها وجهة نظر، فهي ببساطة، كما أسس لها منظروها عبر التاريخ، رفض للإنجاب، وامتناع عنه لسببين أساسيين: أولهما أنها قرار أحادي وعقد من طرف واحد، يختاره الإنسان بدافع الأنانية، ولا يعير أي اهتمام لرأي ذلك الطفل، أو لرغبته في القدوم إلى هذا العالم، أو عدمه. أما الأخير، فيكمن في كون الإنجاب عملية يُجبَر فيها الطفل على مجموعة من الأمور التي يجدها مفروضة عليه، والتي قد تحدد اتجاه حياته ومصيره بشكل كبير جداً. فالإنسان بالإنجاب يفرض على ذلك الطفل أن يعيش في حقبة زمنية معينة، وأن ينتمي إلى دولة معينة، وأن ينشأ في ثقافة معينة، ويتأثر بها، وأن يكون له اسم وجنس معينان، وأن ينتمي إلى أسرة وعرق معينين، وأن يكون له أبوان معينان، بالإضافة إلى الصفات الجسدية، والجينات التي قد تكون سبباً في تشوهات أو أمراض قد يعاني منها طوال حياته".
ويردف المتحدث ذاته قائلاً لرصيف22: "هذه العوامل كلها، كما نلاحظ، لا يجد فيها ذلك الطفل مجالاً للاختيار، فهي مفروضة عليه وهو مطالب رغماً عن أنفه بأن يتقبلها، وأن يبني رحلة حياته عليها، فضلاً عن أن المجيء به إلى الحياة في حد ذاته "عامل خطر" يعرّضه لاحتمال مواجهة معانيات عدّة. فالقاسم المشترك بين هذه الأسس كلها هو "الإرغام" و"الإجبار"، في حق كائن بريء، بدافع رغبة أنانية لوالديه، وهذا ليس أخلاقياً".
واستشهد اللا إنجابيون الذين تواصل معهم رصيف22 بالبيت الشعري الشهير للشاعر أبي العلاء المعري الذي يقول فيه "هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد"، (يقصد به حسب تفسيراتهم أن وجوده وآلامه لم يكونا بسببه، وإنما بسبب والده)، للتأكيد على أن اللا إنجابية ليست وليدة السنوات الأخيرة، وأحداثها.
هناك خيارات عديدة في الحياة. فمثلاً هناك نباتيون، وهناك من اختاروا السفر حول العالم... أما أنا فأرفض أن يكون لدّي أطفال، ويكفيني كلبي
البشير أوضح أن الذين حوله لا يتقبلون فكرة إيمانه بفلسفة اللاّ إنجابية كونها "لا تزال فكرة جديدة في المجتمع المغربي، بل وصادمة له، فمن الطبيعي أن تقابل بالرفض، لكن هذا لا ينفي وجود أقلية ترحب بها، وتتفهمها، وتتقبلها، وتتبناها أحياناً"، مشيراً إلى أنها قد تكون نزوة شبابية بالنسبة إلى العديدين. "لا أنكر ذلك، إذ أضحى الشباب اليوم يتبنون مجموعة من الأفكار، والرؤى الجديدة أو ‘الدخيلة’ لغايات في نفس يعقوب (عن قصد أو عن غير قصد)، لكن بالنسبة إليّ شخصياً لا أراها كذلك، واقتناعي بها أتى بعد سنوات من البحث، والتنقيب، والسهر، والمطالعة، والتأسيس العقلاني المتين".
ونفى طالب الدكتوراه أن تكون اللا إنجابية عائقاً أمام إيجاد شريكة حياته. "لم أدخل بعد في تجربة البحث، وهذا ليس في نطاق اهتماماتي، لكن بطبيعة الحال، يبقى الشخص اللا إنجابي (سواء رجلاً كان أو امرأة) ذا حظ ضعيف في أن يعيش حياة عاطفية، أو زوجية، سليمة مقارنة بغيره، نظراً لندرة معتنقي الفلسفة اللا إنجابية، فضلاً عن العلاقة ‘الغائيّة’ الوطيدة بين ‘الارتباط’ (أو الزواج)، و’الإنجاب’ التي تتميز بها ثقافتنا. لهذا قد نلاحظ أحياناً تساهلاً حتى مع اختلاف الخلفية أو العقيدة الدينية، بين المتزوجين أو المرتبطين، لكن التساهل نفسه مع فكرة الامتناع عن الإنجاب يندرج ضمن سابع المستحيلات من كلي الجنسين".
كلبي ونيسي
ويجد العديد من اللا إنجابيين في التبني، متنفساً وحلاّ مناسبين ووسطيين بين "معضلة" مطرقة إرضاء الغريزة، وسندان منطق اللا إنجابية الأخلاقي، والمقتنعين به، إذ قالت سعاد إنها، وبعد زواج دام سنتين من رجل يؤمن بفلسفتها، تفكر جدياً في تبني طفل متخلى عنه من إحدى الجمعيات: "لا ضرر في أن نصحح أخطاء الآخرين. لكن من المستحيل أن أصنع خطأ آخر. وإذا وافق زوجي على فكرة التبني، سأخبر الطفل أنني لست والدته الحقيقية، وسأحاول قدر الإمكان أن أحقق أمانيه، وأحميه من الآلام كلها التي يمكن أن يتعرض لها مستقبلاً". أما البشير، فيرى أن "فكرة التبني غاية في الرقي والنبل والإنسانية، فاللا إنجابية تدعو لها، وتشجع عليها بشدة نظراً لخلفيتها الإنسانية، ومنطلقها الأخلاقي، فهناك العديد من الأطفال المتخلى عنهم الذين يحتاجون إلى الرعاية والحنان والاهتمام، وعوض أن نتركهم ونأتي بآخرين جدد، بدافع الغريزة والأنانية فحسب. فبالنسبة إليّ لا فرق، من الناحية الإنسانية، بين أن يكون لدي طفل من دمي يحمل جيناتي، أو العكس. فهو يبقى إنساناً، وكائناً حياً قبل ذلك، يستحق مني كامل الاهتمام والرعاية والتعايش بالقدر نفسه".
إذا اختار شخص، لأسباب فلسفية حياتية (...) فأظنّ أنه هذا حقّه
أما عبد الواحد الموساوي (55 سنة، تاجر)، فيقول بشكل مقتضب ومرح إنه ضد الإنجاب، لكنه يرفض أن يوصف بأنه لا إنجابي: "هناك خيارات عديدة في الحياة. فمثلاً هناك نباتيون، وهناك من اختاروا السفر حول العالم عوض العمل، وهناك من قرر أن يظل أصلع طوال حياته. هي مجرد خيارات، وهذه التسميات الضخمة تجعل البعض يرفضها. هناك مليارات من البشر على هذا الكوكب، بعضهم قرروا الإنجاب، وآخرون قرروا ألاّ ينجبوا، ويستعينون بوسائل منع الحمل. فتخيلي لو أنجبنا كلنا أطفالاً، كانت الحياة ستكون ‘زحمة يا دنيا زحمة’"، ويضحك.
ويضيف التاجر المرح "أنا رجل مسلم، أؤمن بالاعتدال في كل شيء. وأرى أن قدري أن أكون ناجحاً في عملي. فالله رزقني المال، واخترت أن أبقى بلا بنين، فقد عشت طفلاً بلا إخوة، وتعودت على الوحدة، كما أنني أكره بكاء الأطفال. لكنني في المقابل أقدّم إلى أطفال العائلة جميعهم هدايا في المناسبات كلها، وكلبي ونيسي بعد وفاة زوجتي قبل سنوات، والحمد لله ‘ناشط ماشط’ (تعبير مغربي يعني أنني سعيد)".
اللا إنجابية والإسلام
يوضح الباحث في الدراسات الإسلامية محمد عبد الوهاب رفيقي لرصيف22 أنه لا وجود لموقف في الدين الإسلامي من فلسفة اللا إنجابية بشكل محدد. "صحيح أن هناك نصوصاً دينية كثيرة تحثّ على الإنجاب، وعلى التناسل، والتوالد، أو ما يسمّى تكثير سواد الأمة، أي أن المسلمين كلما كانوا أكثر عدداً، كلما كانوا أكثر قوة، فهذا المنطق موجود بشكل كبير في أدبيات الفقه الإسلامي، ولكن في المقابل ليس هناك ما يمنع عدم الإنجاب، وعليه إذا اختار شخص، لأسباب فلسفية حياتية، ألا ينجب لأنه يرى أنه ليست لديه إمكانيات ليرعى بها مولوداً، أو يرى أنه ليس من العدل إنجاب طفل في عالم مليء بالحروب والصراعات والمآسي والشرور والمصائب، فأظن أن هذا حقه، ولا يمكن إجبار أي شخص على الإنجاب".
بدوره يشير الشاب المغربي اللا إنجابي البشير أن "تكثير سواد الأمة" في الدين الإسلامي له سياقه التاريخي والسياسي، كما جرت العادة مع الأديان والحركات الإيديولوجية التي اعتمدت كثرة الإنجاب ضماناً لاستمرارية إرثها، وتقوية لمكانتها سياسياً وعسكرياً في مواجهة الأعداء، وحماية لها من "الإبادة". ونجد من الأئمة المسلمين من عاشوا وماتوا من دون أن ينجبوا، كالطبري، والنووي، وابن تيمية، ومن العلماء والأطباء المسلمين ابن النفيس، ومن الشعراء الفلاسفة أبا العلاء المعري، ومن الأدباء المتأخرين عباس محمود العقاد، مروراً بالفقيه الحنفي الزمخشري. هؤلاء كلهم (وغيرهم) كانوا مسلمين، وعارفين بمقاصد الدين الإسلامي، وغاياته.
صراع محتمل
وبدأ عدد من اللا إنجابيين في طرح تصوراتهم لهذه الفلسفة على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال صفحات، أو من خلال مجموعات خاصة أشهرها "مغاربة لا إنجابيّون"، ويضم أكثر من 13 ألف عضو.
ويرى رفيقي أنه، وعلى الرغم من انتشار فكرة التكفّل بأطفال، عوض إنجاب أطفال جدد لدى بعض الأزواج المغاربة الشباب، "إلا أن فكرة اللا إنجابية لا تستطيع الانتشار بشكل كبير في مجتمعات إسلامية، كالمجتمع المغربي، فالأصل والطبيعة أن الناس يمتلكون غريزة الإنجاب، ويستمتعون بها، وبها يدوم بقاء البشر".
أما أستاذ علم الاجتماع في كلية الآداب والعلوم الانسانية في بني ملال عبد الهادي الحلحولي، فيرى، في تصريح لرصيف22، أن التقاليد المغربية قد تستطيع مجابهة فكرة اللا إنجابية "مادام المجتمع يسعى إلى الاستمرارية. لكن هذا لا يعني أن السلوكيات، أو التصورات اللا إنجابية، لن تجد مكاناً لها بين الأفراد، لأن جذورها موجودة داخل المجتمع، ومن الصعب القضاء عليها، خاصةً وأن بعض المؤمنين بها بدأوا في نشرها عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما سيجعلها موضوع تساؤل، ومجابهة، وربما صراع بين مختلف الأطياف داخل المجتمع".
ويختم الحلحولي كلامه قائلاً: "إن انخفاض مؤشر الخصوبة في المغرب، وارتفاع نسبة العزوف عن الزواج، وزيادة الرغبة الفردية في العيش، والحياة، والاهتمام بالنفس، عوامل قد تساهم في زيادة أعداد المؤمنين بهذه الفكرة". فهل تتحول اللا إنجابية من موضة إلى واقع في المجتمع المغربي؟ هذا ما قد يكشفه "أبناء" المستقبل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت