بعدما أعلنت إسرائيل قيام دولتها على الأراضي الفلسطينية، في 14 أيار/ مايو 1948، اتّخذت بعض الدول العربية قرار الدخول إلى فلسطين لاستردادها، وبينها مصر التي سقط أول شهيد برتبة ضابط من جيشها مبكراً، في معركة "دير سنيد"، هو اليوزباشي (النقيب) مصطفى كمال محمود عثمان.
مَن هو مصطفى كمال عثمان؟
في 15 أيار/ مايو 1953، نشرت مجلة المصور المصرية قصة أول ضابط مصري يسقط في حرب فلسطين، بناء على لقاء بأسرة عثمان في مدينة بني مزار في محافظة المنيا في صعيد مصر.
ذكرت المجلة أن "أباه محمود عثمان كان من صغار موظفي الدولة، وظل ينتقل من مركز إلى آخر كشأن الموظفين غير المحظوظين، لكنه كان سعيداً بزوجة صالحة ولدت له في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1922 طفلاً سماه مصطفى كمال، تيمناً باسم بطل الترك الذي يملأ الأرجاء في هذه الأيام مصطفى كمال أتاتورك".
ومع مرور الأيام، دخل مصطفى مدرسة بني مزار الابتدائية، وأتم تعليمه الابتدائي، ثم التحق بمدرسة بني سويف الثانوية، وكان لامعاً يشترك في مناظرات ويحصد الجوائز الأولى في اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ولم ينته من دراسته حتى لقّبه زملاؤه بـ"الكابتن"، لكثرة ما كان يتحدث عن الكلية الحربية التي قُدّر له الالتحاق بها عام 1939، بحسب مجلة المصور.
مصطفى كمال في غزة
كان من عادة الشاب أن يسجل ما يدور بخاطره في مفكرة، ما سمح بالتعرّف على تفاصيل حياته. كتبت مجلة المصور: "يشعر مصطفى أنه بحاجة إلى صديق، فلا يجد أخلص ولا أكتم لسره من مفكرة يبث فيها نجواه وهمسات نفسه، ويعقد صداقته مع هذه المفكرة، ويسجل فيها خواطره".
وبحسب مفكرته، ذكر مصطفى أنه عقد امتحان الكلية الحربية في كانون الثاني/ يناير 1942، وأنه نجح وكان ترتيبه 22 من بين 151 طالباً في دفعته.
وتشير "المصور" إلى أن يوميات مصطفى سجلت "قصة تجواله بين المعسكرات المختلفة في الخرطوم، وفي جبل أولياء ثم ألماظة، وكيف كان مولعاً بالصحراء، ويشاء الله أن ينتقل إلى صحراء العريش فيصل إليها ظهر 3 أيار /مايو 1948، ويرسل للأسرة برقية يبلغها بوصوله ويلتمس منها صالح الدعاء، ويريد أن يطمئن والدته فيقول: ‘صحتي جيدة... ورزقني الله بمجموعة من الضباط على جانب كبير من سمو الأخلاق’".
وفي خطاب آخر يمني مصطفى الأسرة بقرب لقائه بها بعد شهرين، لكن تشاء الأقدار أن تعلن الحرب في 15 أيار/ مايو عام 1948، فيكتب إلى والده قائلاً: "لقد وصلت بمعونة الله إلى غزة... وستسمعون عنّا خيراً إن شاء الله... سأكتب لكم كلما قضينا على موقع من المواقع اليهودية".
رسالة وداع مع حقيبته
على رسالته الأخيرة، كتب النقيب تاريخ 17 أيار /مايو 1948، وشاء القدر أن تصل إلى والده ومعها في الوقت ذاته إشارة من وزارة الدفاع، تقول: "إن الضابط مصطفى كمال في تعداد المفقودين".
يعقب اللواء عبد المنعم خليل، في كتابه "مذكرات عبد المنعم خليل: حروب مصر المعاصرة"، والذي ذكر فيه تفاصيل تقرير مجلة المصور، على ذلك بقوله: "هو تعبير ملطف لخبر الوفاة". وبعد أيام تلقت الأسرة حقيبة ابنها، وفيها ملابسه ومتعلقاته.
في رسالة إلى والده، كتب: "لقد وصلت بمعونة الله إلى غزة... وستسمعون عنّا خيراً إن شاء الله... سأكتب لكم كلما قضينا على موقع من المواقع اليهودية"... ولكن شاء القدر أن تصل الرسالة ومعها خبر وفاته
ونشر المؤرخ عارف العارف في كتابه "النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود"، قائمة شهداء الجيش المصري في حرب فلسطين 1948، وذكر اسم النقيب الراحل، كالتالي: اسمه "مصطفى كمال محمود عثمان"، وفي خانة الرتبة مكتوب "يوزباشي"، وأمام تاريخ الاستشهاد: 21 أيار/ مايو 1948، والمعركة التي استشهد فيها: دير سنيد.
وسجلت وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" ذلك أيضًا، في قائمة شهداء حرب فلسطين.
أول ضابط مصري يسقط على أرض فلسطين
يشير خليل إلى أنه "وفقاً لما ذكره المؤرخ عارف العارف، فإن أول ضابط شهيد كان مصطفى كمال ومعه ضابطان آخران استشهدا معه في نفس اليوم 21 أيار/ مايو 1948، في معركة دير سنيد التي انتهت بنصر مصري بعد تضحيات جسيمة".
أما الضابطان الشهيدان الآخران، فهما الصاغ (الرائد) عز الدين صادق الموجي، والملازم أول أحمد تيسير بشير، وبذلك يكون هؤلاء الثلاثة هم أول ثلاثة ضباط مصريين يستشهدون على أرض فلسطين في حرب 1948، وقد سبقهم عدد من ضباط الصف والجنود والمدنيين المتطوعين، وفقاً لمؤلف "حروب مصر المعاصرة".
وفي كتابه "شهداء فلسطين"، أشار محمد عبد القادر أبو فارس، إلى أن النقيب مصطفى كمال عثمان كان في كتيبة "1 مشاة م"، لكنه ذكر أن تاريخ مقتله كان في 19 أيار/ مايو وليس في 21.
ويروي اللواء عبد المنعم خليل في كتابه المعنون "في قلب المعركة": "التحق مصطفى كمال بالكتيبة الأولى المشاة بالعريش، استعداداً لدخول أرض الميعاد... وقد استشهد البطل المؤمن على الأسوار الشائكة لمستعمرة دير سنيد شمال غزة في أول هجوم عليها".
في 15 أيار/ مايو 1953، نشرت مجلة المصور المصرية قصة أول ضابط مصري يسقط في حرب فلسطين...
ومما يؤكد رواية عبد المنعم خليل، أن مؤلفي كتاب "الموسوعة الفلسطينية: القسم العام في أربعة مجلدات"، الصادر عن هيئة الموسوعة الفلسطينية، ذكروا أن مستعمرة دير سنيد كان يحيط بها بالفعل حاجز من الأسلاك الشائكة والألغام، وفيها حوالي عشرة مواقع محصنة.
ويوضح سبب الاختلاف بين روايتي تاريخ الاستشهاد ما ذكره حسني أدهم جرار، في مؤلفه "نكبة فلسطين عام 1947 - 1948: مؤامرات وتضحيات"، إذ كتب أن "القوات المصرية استأنفت تقدمها من غزة يوم 19 أيار/ مايو، واشتبكت مع القوات اليهودية في معركة دير سنيد، ووصلت إلى المجدل يوم 21 أيار/ مايو، وبدأت القوات الجوية المصرية في ضرب تل أبيب يومياً بالقنابل"، وبالتالي قد يكون الاستشهاد وقع في أحد هذه الأيام.
بداية العمليات وأكبر خطأ مصري
بمجرد الدخول إلى الأراضي الفلسطينية، بدأت العمليات على الجبهة المصرية بالهجوم على مستعمرة الدنجور (تقع على مسافة ستة كيلومترات جنوب شرق مدينة خان يونس)، ومستعمرة كفار داروم (تقع إلى الشمال من خان يونس بنحو كيلومتر)، وهما مستعمرتان تسيطران على محور المواصلات الرئيسي من غزة، وفقاً لـ"الموسوعة الفلسطينية".
وبحسب الموسوعة، دفع قائد الجيش المصري في حرب فلسطين العميد أحمد المواوي بالكتيبتين الأولى (كتيبة النقيب مصطفى كمال عثمان)، والسادسة "مشاة"، صباح 15 أيار/ مايو 1948 للهجوم على المستعمرتين، وكان الهدف السيطرة عليهما لحماية محور القوات المصرية وتقدمها.
وقصفت الدنجور بنيران المدفعية، ثم طوقتها قوة خفيفة، وتعذّر على الجيش المصري السيطرة عليها، كما تعذّرت السيطرة على مستعمرة كفار داروم، فواصل الجيش تقدمه نحو الشمال. ويعقب مؤلفو الموسوعة الفلسطينية على ذلك بقولهم: "كان هذا أكبر خطأ ارتكبه المصريون".
لم تتوقف القوات المصرية عند ذلك، بل تابعت تقدّمها باتجاه غزة، وتمكنت من دخول مدينتي خان يونس وغزة، ثم واصلت الزحف إلى المجدل وأسدود (كانتا في هذا الوقت بيد العرب الفلسطينيين(.
وفي يوم 19 أيار/ مايو، هاجمت القوات المصرية مستعمرة يد مرداي (دير سنيد)، ودارت هناك معركة عنيفة، يقول عنها عبد المنعم خليل: "كانت المواجهة الأولى بين القوات المصرية والعدو الصهيوني، وربحها الجيش المصري".
ما أهمية مستعمرة دير سنيد؟
بدأت الكتيبة الأولى المصرية التي كان ينتمي إليها النقيب مصطفى كمال عثمان هجومها على دير سنيد، ونجحت في السيطرة على موقع جنوب المستعمرة، لكن بحسب الموسوعة، عندما حاول جنود المشاة اختراق حصون دير سنيد صدوا بنيران غزيرة، وتكبدوا خسائر فادحة، مؤكدة أن "القيادة المصرية أعادت تنظيم قواتها، وزجت في المعركة بكتيبتين تدعمهما سرية مدرعة وكتيبة مدفعية ميدان".
وترجع أهمية هذه المستعمرة إلى أنها كانت المركز الرئيسي لتموين مستعمرات النقب، ووقفت سداً في طريق أية قوة تحاول التقدم شمالاً أو جنوباً على امتداد السهل الساحلي، كما تحكمت من موقعها المرتفع بالأرض المجاورة وبطريق "غزة – يافا".
ويتحدث عباس السيسي في مؤلفه "في قافلة الإخوان المسلمين"، عن ذلك، فيقول: "استعصت مستعمرة دير سنيد على الاستسلام رغم محاصرتها من كل قوات الجيش والفدائيين، حيث إنها تقع على تلّ عالٍ يكشف تحركات كل القوات العربية، ثم إنها تقطع طريق المواصلات إلى القدس وبهذا تقطع اختراق القوات المصرية".
ويتفق مع هذا الطرح الدكتور سيد حسن العفاني. يقول في مؤلفه "تذكير النفس بحديث القدس واقدساه": "كانت مستعمرة ياد مرداي (دير سنيد) شأن المستعمرات اليهودية الأخرى تحتل نقطة حاكمة بالنسبة للمناطق العربية المجاورة لها، غير أنها كانت تقوم على الطريق الساحلي الرئيسي للجيش في قطاع (غزة – المجدل)، ولم يكن بالإمكان تجاهلها أو الاكتفاء بحصارها".
في النهاية، استطاع الجيش المصري عقب إعادة تنظيم صفوفه أن يسيطر على المستعمرة، بعد أن فقد خلالها عدة شهداء.
يقول مؤلفو الموسوعة الفلسطينية: "بعد محاولة أولى فاشلة نجحت القوات المصرية إثر معركة ليلية في السيطرة على المستعمرة ورفعت عليها العلم المصري يوم 24 أيار/ مايو 1948".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...