اعتدت على السباحة في مسبح "فشيفش الوطني" قرب المجارير مع سمك القرموط، إلى أن تعرّفت على فتاة من الطبقة المخملية، دعتني مرّة للاستجمام على شاطئ "منتجع روتانا أفاميا".
وصلنا إلى المنتجع مع القليل من الأصدقاء، واخترنا البقعة المناسبة للجلوس. التفتت إليّ الفتاة وأعطتني زجاجة زيت أجنبية وقالت لي: "ادهن من هذا الزيت على جسدك واتبعني كي نتشمس".
وضعت بعض الزيت على جسدي مترحماً على أيام كنت أخلط فيها الزعتر بالماء لأستطيع تناوله. تبعتها وتمددت قربها على الشاطئ أنتظر اسمرار بشرتي ناصعة البياض، لأكتشف لاحقاً أن هذا الزيت يحتاج إلى أجساد معتادة على العناية بها. فلو كنت قد وضعت زيت "قلي" لما حدث لي ما حدث.
حتى الشمس لدى هؤلاء مختلفة عن الشمس التي لدينا!
استيقظت في المستشفى ممداً على السرير، وفي يدي اليسرى أنبوب المصل، بجسدي العاري الممتلئ بحروق من الدرجة الأولى والثانية موزعة على أكثر من سبعين في المئة منه، وحرارتي مرتفعة للغاية وأرتجف من البرد وأشعر بحالة إعياء شديدة.
بجانبي، أب يرافق ابنه الخارج حديثاً من عملية استئصال المرارة، وعلمت بسبب انفجار مرارة الابن عندما بدأ الأب يعظني بعبارة "إن هذه نار الدنيا وفعلت بك هكذا، فما بالك بنار الآخرة؟".
وكأنني في هذا الوقت لا ينقصني غيرك!
ظللت على هذه الحالة 24 ساعة، لم أستطع خلالها النوم من الألم، مع ممرضة تأتي لتحقنني بإبرة مسكن كل ثماني ساعات. وبالمناسبة، الأمر الوحيد الأكثر إيلاماً من الإبرة هو أن تأخذها في مؤخرتك المحروقة.
خرجت بعدها إلى المنزل. لم تعد هنالك حاجة لبقائي في المستشفى. فخطة علاجي هي الاستلقاء واستعمال المراهم والبخاخات التي وصفها لي الأطباء.
وليتني استطعت البقاء في المستشفى. بقيت في منزلي مستلقياً على فراشي ثلاثة أيام بلياليها، لم أستطع خلالها النوم سوى لدقائق قليلة لأصحو بعدها متألماً.
مستلقياً، كنت أعدّ الدقائق والثواني كي تأتي الكهرباء ساعة ونصف أشغّل فيها المروحة، عسى أن يبرد الجحيم القابع تحت جلدي.
بين الرابعة صباحاً والـ11 ظهراً، حين يقطعون الإنترنت وجميع وسائل الاتصال، في محاولة لمنع الغش أثناء امتحانات الشهادة الإعدادية والثانوية، كنت أمضي وقتي متأملاً سقف غرفتي.
ثلاثة أيام فقط على هذه الوضعية وطلبت الموت. كيف هو الحال بالنسبة للمجبرين على الاستلقاء بقية أيام حياتهم في هذه البلاد؟
بجانبي في المستشفى، أب يرافق ابنه الخارج حديثاً من عملية استئصال المرارة، وعلمت بسبب انفجار مرارة الابن عندما بدأ الأب يعظني بعبارة "إن هذه نار الدنيا وفعلت بك هكذا، فما بالك بنار الآخرة؟"
أول مرة أحسست فيها بأنني وحيدٌ في هذا العالم هي عندما نفذ مني الورق الذي ألف به التبغ. في مثل هذه الحالات، كنت سأمسك هاتفي واتصل بألف صديق يمكن أن يحضروه لي، ولكن الألف صديق رحلوا، بعضهم عبر قوارب الموت وبعضهم لملاقاة ربهم، والقلة القليلة الباقية حاضرون غائبون.
ومن غير المعقول أن أرسل والدتي مسافة كيلومترين لأجل هذا الأمر السخيف.
في اليوم الرابع، توجب عليّ النهوض رغماً عن أنفي، فلديّ معاملة حكومية يجب أن أنهيها في الوقت المحدد ولا أحد سيقبل حجتي السخيفة، بل إن بعضهم سيهزأ بي كونها حروق بحرٍ في النهاية مهما بلغت درجة خطورتها.
كما أن بيتنا خالٍ من الخبز تماماً ولا يوجد مَن يحضره غيري.
نهضت من فراشي وتوجهت إلى خزانتي مستنداً على عكازين. حتى قدماي لا أعلم ما الذي حدث لهما، ولكنهما لا يحملانني. لبست "شورت" و"تي شيرت" قطني خفيف وخرجت من المنزل.
بدأت المشي ببطء شديد محاولاً التستر بفيء الأشجار، فأشعة الشمس حين كانت تلامس جسدي كنت أشعر أنها تأكل جلدي.
وصلت إلى الشارع العام، ووقفت متأملاً أن تقف لي السيارات لكي أعبر ولكن لم يقف أحد أو يخفف من سرعته حتى.
انتظرت وانتظرت وأشعة الشمس تأكل من جسدي قطعاً حتى قررت القفز وركضت راقصاً من الألم إلى الطرف الآخر.
"لملمت أشلائي وعدت إلى المنزل مكسوراً مقهوراً أجرّ خلفي عكازيّ. وصلت إلى المنزل، خلعت جلابيتي الملتصقة بجلدي، خلدت إلى فراشي ورحت أفكر في قانون الغاب، وكيف أن القطيع لا يكترث لأمر الفرد المصاب"
وقفت تحت ظل شجرة كي أرتاح قليلاً، وبدأت أفكر في أنني أستخدم هذين العكازين الحقيرين منذ عشرة دقائق فقط وأردت البكاء مرتين. فكيف هو الأمر بالنسبة للمعوّقين؟
تابعت مشيي حتى وصلت إلى وجهتي لأتفاجأ بحارس المبنى يمنعني من الدخول.
- عذراً لا يمكنك الدخول بشورت أو ثياب رياضة إلى مبنى حكومي.
كشفت عن فخذي وقلت له: انظر يا سيد إنني محروق!
- عذراً هذا هو القانون.
سألته إن كان بإمكاني الدخول بجلابية وأجابني بنعم.
عدت إلى المنزل وارتديت جلابية وتكررت نفس المأساة في طريق العودة.
دخلت المبنى أخيراً. أنهيت معاملتي بعد معاناة كبيرة مع صعود ونزول الأدراج. فبالطبع لا وجود للمصاعد لمَن هم دون مرتبة وظيفية محددة، ولا استثناء للحالات الخاصة (تدبّر أمرك أخي المواطن مهما كانت حالتك). غادرت المبنى.
في طريق العودة، توجهت إلى الفرن لأجد الناس في الطوابير يتزاحمون، وقفت جانباً وصرت أنادي: "يا جماعة يا شباب حدا يناولنا بس ربطة وحدة".
ناديت كثيراً والجميع سمعني ولكن لم يكترث أحد فقررت الانخراط بينهم والتزاحم معهم، إلى أن حصلت أخيراً على ربطة خبز. كانت ربطة الخبز الأغلى ثمناً في التاريخ. دفعت ثمنها ألماً لا يوصف وكأنها عُجنت من لحمي.
لملمت أشلائي وعدت إلى المنزل مكسوراً مقهوراً أجرّ خلفي عكازيّ. وصلت إلى المنزل، خلعت جلابيتي الملتصقة بجلدي، خلدت إلى فراشي ورحت أفكر في قانون الغاب، وكيف أن القطيع لا يكترث لأمر الفرد المصاب.
البقاء للأقوى فقط.
هذه الحالة المؤقتة جعلتني أبكي مرات عديدة. كيف هو الحال بالنسبة إلى المصابين بأمراض مزمنة؟ ما هي المعاناة اليومية للمعوّقين؟ ماذا لو قُطعت إحدى قدميّ؟ هل سأقضي نصف حياتي منتظراً عبور الشارع؟
ماذا لو بتّ على كرسي متحرك طيلة أيام حياتي؟ بماذا ستفيدني دورات إعادة التأهيل إنْ لم تكن هنالك كهرباء ولا مصاعد تعمل ولا ممرات خاصة ولا حتى قوانين استثنائية لحالتي؟
ظللت أفكر وأفكر إلى أن نمت بعمق لأول مرة، فمقدار التعب تجاوز الألم بمراحل.
على أمل أن أنام يوماً وأستيقظ في بلاد تحتضن الجميع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...