كان شهر آب،/ أغسطس من عام 2020 شهراً طبيعياً مثله مثل أي شهر آخر: أذهب إلى عملي مع إحدى المنظمات. كنت أعمل في توزيع السلال الغذائية، وكان عقدي ينص على أن العمل هو بدوام جزئي، ولكن الحقيقة أنهم كانوا يجبروننا على العمل بدوام كامل مع ساعات إضافية، براتب 30 دولاراً في الشهر، وكل شهرين أو ثلاثة حتى أتقاضاه مرة.
وفي أيام العطلة، كنت أدرّب أطفالاً في إحدى المناطق الشعبية على كرة القدم مع جمعية أخرى، وكان هذا عملاً تطوعياً بدون مقابل.
وفي نهاية كل يوم، كنت أذهب لألتقي أصدقائي في مقهى في اللاذقية لأشرب "المتة" معهم وأتسلى. وفي هذا المقهى لا أصدقاء محددين لك. يمكنك الجلوس على أي كرسي فارغ على أي طاولة وفتح الأحاديث العشوائية مع أحدهم، كمهندس معلوماتية يحاول إقناعك بأن ضغط نظام تشغيل الويندوز يقاس بواسطة عمود من الزئبق عند مستوى سطح الـRam، أو مع طالب كيمياء مكتئب لأنه كان يمشي في أحد الأزقة حاملاً رائق الكلس فبدأ المارة ينفخون فيه ويعكرونه.
وفي الحقيقة، كنت سعيداً بطريقة الحياة هذه ومكتفياً، إلى أن أتى اليوم الذي تعرفت فيه على أحد أساتذة الجامعة والذي عرض عليّ أن أكتب مقالاً علمياً في إحدى المنصات العلمية المهمة.
وبالفعل، في ذلك اليوم، أنهيت عملي وعدت إلى المنزل مباشرةً وبدأت بالبحث عن طرق كتابة المقال وكم عدد الكلمات وما إلى ذلك حتى باتت لدي فكرة بسيطة عن الموضوع.
وبعدها، أخذت مفاتيحي وعلبة سجائري ومئتي ليرة سورية كانت على الطاولة لا أعلم لمَن هي، وخرجت أتمشى في الطرقات في وقت متأخر من الليل حاملاً بيدي فنجان قهوة اشتريته بتلك المئتي ليرة، وأفكر بموضوع ما لأكتب عنه. لمعت في رأسي فكرة وانتابني إحساس بأن هذه هي الفكرة المنشودة التي سأكمل معها سهرتي.
استغليت طريق العودة وأنا أفكر في سياق المقال حتى باتت لدي الخطوط العريضة مكتملة. وحين وصلت إلى المنزل، جلست، ثم وضعت أمامي ورقة وقلماً وعلبة السجائر وبدأت بالكتابة إلى أن أنهيت المقال.
كتبت مقالاً علمياً بأسلوب كوميدي، وذلك خوفاً على القارئ من الملل، ولأنني لا أقرأ بسبب مللي الشديد. ثم بدأت بنقل ما كتبته من الأوراق إلى ملف وورد، وبعد أن انتهيت نظرت إلى الساعة وإذ بها السادسة فجراً!
استيقظت على اتصال من الأستاذ يصرخ عليّ ويؤنبني: "نحن منصة محترمة ولسنا منصة للكوميديا والمسخرة، يا خسارة الثقة التي منحتها لك". أغلق الهاتف وعدت للنوم
حسناً، سأتصل بصديقتي هزار لتعطيني رأيها وتدقق المقال لغوياً. سأتصل سبع مرات فقط. فإنْ لم تُجب، هذا يعني أنها نائمة. وبالفعل ردت هزار بعد سابع محاولة، وأبدت حماسها الشديد لمساعدتي. علمت ذلك من نبرة صوتها المرتفعة.
وبعد أن أخذت رأيها وحلفت لها مئة يمين بأنني كاتب المقال، دققته وأرسلته إليّ، ثم أرسلته أنا إلى الأستاذ الجامعي وخلدت للنوم.
استيقظت على اتصال من الأستاذ يصرخ عليّ ويؤنبني: "نحن منصة محترمة ولسنا منصة للكوميديا والمسخرة، يا خسارة الثقة التي منحتها لك". أغلق الهاتف وعدت للنوم.
وبعد أن استيقظت مجدداً، فتحت غوغل وكتبت في مربع البحث "أكبر جريدة إلكترونية عربية" لتظهر لي إحدى الجرائد الإلكترونية المعروفة.
أرسلت لهم إيميلاً يتضمن ملف المقال فقط دون أن أكتب أي عنوان أو أقدم أي تعريف عن نفسي.
وبعد 24 ساعة جاءني الرد بثلاث كلمات فقط: "المقال يُنشر السبت". هكذا، يوم السبت في الخامس من أيلول/ سبتمبر 2020 نُشر أول مقال لي.
بعدها، حصلت من صديق على إيميل لأحد العاملين في رصيف22 وأرسلت له أول مقال بعنوان "روتيني اليومي في بلد الطوابير". كتبته مرتدياً كلسوناً شرعياً فقط لأكمل مراسم الإلهام، فقد استوحيته من موجة فيديوهات على يوتيوب كانت غريبة للغاية وتحمل اسم "روتيني اليومي في المطبخ"، وهي عبارة عن فتاة ترتدي ملابسها الداخلية وتعمل في المطبخ.
بعدها، كتبت سلسلة "من رسائلي إلى ماريا" والتي حققت صدى لا بأس به بين قراء مدينتي الصغيرة، حتى أنه في إحدى المرات، أثناء جلوسي في أحد المقاهي، توجهت فتاة نحوي وسألتني: "أنت أسعد تبع ماريا؟".
للوهلة الأولى صدمت بسؤالها، ولكنني تذكرت أنها تقصد المقالات. أجبتها: "نعم، أنا اسعد تبع سلسلة رسائل ماريا"، فبدأت بالحديث عن إعجابها بهذا المقطع وامتعاضها من ذاك المقطع، ولو أنني استبدلت ذلك المقطع...
هي تتحدث وأنا أفكر بشيء مختلف تماماً ألا وهو أنني كتبت نصاً جديداً والشخصية الرئيسية فيه عبارة عن كلب ويجب عليّ أن أعود إلى المنزل سريعاً وأحذف النص قبل أن يتحوّل اسمي إلى "أسعد تبع الكلب".
في إحدى المرات، أثناء جلوسي في مقهى، توجهت فتاة نحوي وسألتني: "أنت أسعد تبع ماريا؟". بدأت هي تتحدث وأنا أفكر بشيء مختلف وهو أنني كتبت نصاً جديداً عن كلب وعليّ أن أحذفه سريعاً قبل أن يتحوّل اسمي إلى "أسعد تبع الكلب"
كتبت بعدها مقالاً تطرقت فيه إلى معاناتي مع أمي التي تطبخ لي البامية وتتفاجأ في كل مرة أنني لا أحبها. وعلى إثره اقتحمت أمي غرفتي في السابعة صباحاً اقتحاماً مسلحاً بشحاطة إصبع غير مرخصة صارخةً في وجهي: "هلأ بطلت تحب البامية يا عرص؟"، لأجيبها سريعاً: "بالله عليكِ وقت اقبض حق المقال وفوت عالبيت حامل بإيدي فروج بروستد ما أطيب؟"، لتنهزم وترمي سلاحها وتغادر الغرفة متمتمة: "إي والله أطيب".
هكذا دخلت عالم الكتابة صدفةً، ولا زلت أطوّر نفسي رويداً رويداً عسى أن أصل يوماً ما إلى إمكانيات حبيبتي في تأليف السيناريوهات.
ففي حال لم أردّ على الهاتف بعد الرنة الخامسة، تبدأ بكتابة السيناريوهات على الفور.
تستطيع تأليف ثلاثة أفلام مصرية خلال 30 ثانية فقط!
آخر أعمالها:
- خائن ولكن!
- جنس الرجال.
- الحسناء والكلب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...