في ظل العصر الجليدي الذي يعيشه الشباب اليوم في سوريا، وددت أن أشعل عود ثقاب وأغيّر شيئاً ما في واقعي، أن أدخل شيئاً جديداً يكسر روتين حياتي ويعيد إليها الحيوية، شيئاً جديداً يأخذ حيزاً من تفكيري ويبعدني ولو لبرهة عن التفكير في مشاكلي وهمومي.
ولكن تماماً كعود الثقاب الذي يشتعل قليلاً وسرعان ما ينطفئ، هكذا كانت تجاربي.
في البداية، حاولت العودة إلى كرة القدم واللعب على الأقل مباراة واحدة كل أسبوع.
ولكن هذا المشروع لم يُكتب له النجاح، فأغلب مَن كلّمتهم لأدعوهم للانضمام إلى فريقي الجديد رفضوا لأنهم لا يملكون وقت فراغٍ أبداً، حتى أن أحدهم استهزأ بي قائلاً: "حلّ عني يا زلمة، بعد الكبرة جبة حمرة!"، مع أن عمره لا يتجاوز الـ25 عاماً. أفهمه تماماً، ففي الحرب لا يمرّ عليك الزمن مرور الكرام بل يمرّ ويترك أثره عليك بمطرقة وإزميل.
بعد محاولاتٍ عدة، لم أستطع في النهاية جمع سوى ثلاثة لاعبين: جارنا البالغ من العمر 45 عاماً وابنه ذي الـ15 عاماً وصديقي الذي سيتوقف عن اللعب كل ست دقائق ليستنشق بعضاً من رذاذ موسع للقصبات خاص بمرضى الربو.
وبعد أن باء مشروعي بالفشل، قلت لنفسي: لماذا كرة القدم تحديداً؟ فهنالك الكثير من الرياضات الحديثة اليوم، كالزومبا مثلاً. لماذا لا أرقص قليلاً وأحرّك جسدي وأكتسب بعض الأصدقاء الجدد الذين يمارسون هذه الهواية. وهنا بدأت رحلتي في البحث عن نادٍ أتسجّل فيه كمتدرب مبتدئ في هذه الرياضة.
وكانت الصدمة أنني لم أجد ذلك أبداً! لا يوجد أي نادٍ لديه دورة لتدريب رياضة الزومبا. كل الأندية كان لديها دورة إعداد مدربي زومبا. لا أحد يريد أن يكون متدرباً، الجميع يريدون أن يكونوا مدربين ليكتسبوا لقب "كوتش".
في محافظة اللاذقية، بات لدينا مدرّبا زومبا لكل مواطن. لكنني أعزي السبب إلى النقص في الوظائف. الجميع يريدون أن يكونوا مدربين لا متدربين، لأن الجميع يريدون أن يكتسبوا المال لا أن يدفعوه.
"أنا أعيش في منزل والديّ، ما يعني أنني مجبر على اتّباع النظام الغذائي الذي تطبخه والدتي. فأنا مثلاً لا أحب البامية والغريب أنني أعيش مع والدتي منذ 25 عاماً وفي كل مرة تعدّ لنا البامية تتفاجأ بأنني لا أحبها"
آخرون يتسجلون في دورات إعداد أخصائي تغذية ذات الأسبوعين كي يشتروا مريولاً ويعلقوا عليه بطاقةً كُتب عليها "الدكتور فلان". ولكن في النهاية لا أحد يكتسب المال، فكل الشعب السوري بات أخصائي تغذية بسبب المعاناة.
عندما أغلقت جميع الأبواب في وجهي، قررت الابتعاد عن الرياضة نهائياً وقلت لنفسي: إنْ كنت لن تستطيع تحسين جودة جسدك فعلى الأقل حاول اعتزال ما يؤذيه.
وبناءً على ذلك، قررت ترك التدخين الذي بات يسبب لي الكثير من المشاكل الصحية والمادية.
لكنني أيضاً لم أستطع. فأنا أدخن التبغ البلدي الفاخر الذي يلف على أفخاذ الضفادع في مستنقعات كراج الفاروس.
ومثل هذه الرفاهية من الصعب جداً التخلي عنها. عدلت عن الفكرة وقلت لنفسي "لاحق على رزقك يا ولد، بكرا شوي شوي مع ارتفاع الأسعار بتبطلو بالصرماية".
لكنني ظللت متمسكاً بفكرة أن أعتزل ما يؤذيني ووجدت شيئاً سهلاً ويمكنني الاتجاه نحوه دون أية مشاكل أو صعوبات.
إنه النظام الغذائي النباتي!
"سبعة أشهر من المحاولات مضت ولم أستطع التحول للنباتية، لكن الحكومة في شهرين حوّلتنا جميعاً إلى نباتيين، بل أدخلتنا في حمية قاسية جداً، فحتى الخبز باتت تستخدم في خَبزه النخالة خوفاً علينا من السمنة"
وفي الحقيقة، أنا لا أتبع نظاماً غذائياً محدداً، فأولاً أنا شابٌ فلسطيني أعيش في سوريا وبالتالي أنا بالكاد آكل ولا خيار لديّ لأتخذ نظاماً غذائياً. قال نظام غذائي قال! الله يخليك لا تبلينا عزيزي القارئ.
أنا من آكلي اللحوم في الأيام الثلاثة الأولى من الشهر ونباتي لباقي الأيام.
وثانياً، أنا أعيش في منزل والديّ، ما يعني أنني مجبر على اتّباع النظام الغذائي الذي تطبخه والدتي.
فأنا مثلاً لا أحب البامية والغريب أنني أعيش مع والدتي منذ 25 عاماً وفي كل مرة تعدّ لنا البامية تتفاجأ بأنني لا أحبها.
وإذا امتنعت عن أكلها على الغداء سآكلها على العشاء وإذا لم آكلها على العشاء سآكلها في اليوم الثاني مطبوخةً مع الأرز وحتى إنْ امتنعت في اليوم الثاني عن أكلها سأجدها في اليوم الذي يليه ضمن السندويتشات التي آخذها معي إلى العمل.
لكنني أصريت على موقفي واستمريت في رحلتي نحو النباتية.
وللأسف، ما ظننته سهلاً وخالياً من الصعوبات تبيّن لي أنه صعبٌ جداً.
فأولاً، كانت هنالك صعوبة في انتقاء أنواع المأكولات، فإنْ استمرّيت في تناول المعكرونة والمعجنات سأستمر في زيادة الوزن وإنْ اتجهت نحو الهليون والبروكولي والكمأة سأستمر في الإفلاس.
وثانياً، كانت هنالك صعوبة في ضبط النفس، ففي كل مرة أمرّ فيها من قرب محل "أبو أحمد" بائع النقانق أشعر بالضعف وأتّجه نحوه لا إرادياً!
لكنني لم أفقد الأمل واستمريت في المحاولة.
سبعة أشهر من المحاولات مضت ولم أستطع التحول للنباتية، لكن الحكومة في شهرين حوّلتنا جميعاً إلى نباتيين، بل أدخلتنا في حمية قاسية جداً، فحتى الخبز باتت تستخدم في خَبزه النخالة مخلوطةً مع الدقيق الأسمر المستخرج من القمح القاسي خوفاً علينا من السمنة.
ولأن فكرتي كلها تتمحور حول كسر روتين حياتي المفروض عليّ، بدأت الآن رحلتي الجديدة أنا وكلبي الأليف في العودة إلى نظامنا الغذائي السابق في أكل اللحوم ومشتقاتها.
على أمل أن تنجح محاولاتي هذه المرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...