شغلت مسألة "الاستشراق" العالم العربي مدّة طويلة من الزمن، ولا تزال. والانشغال هنا كان يسير على مستويين رئيسيين: الأول، ازدهار الدراسات والكتب والنصوص واللوحات والتصوير الغربي للشرق وخصوصاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والقرن العشرين. أما الثاني، فكان انشغال النخب العربية، بسياسييها ومثقفيها، وخصوصاً في العقود الخمسة الأخيرة، بهذا المجال الذي فتح بلادهم وجعلها "مكشوفة" ومدروسة من قبل "الآخر".
وهو، أي "الاستشراق"، كان يضج بتيارات وتوجهات هي التي كانت تضبط وتوجه طريقة تناول واهتمام "المستشرقين" بالشرق عموماً، وبالعالم العربي خصوصاً، بدءاً من الصورة النمطية والعنصرية المسبقة عنه، أو التي ترتبط بمصالح استعمارية لم يكن "الاستشراق" هو من خلقها بطبيعة الحال، وإن خدَمها أحياناً، وصولاً إلى الكتابات البحثية والرحلات التي كانت مسكونة بالهمّ المعرفي والانفتاح على الآخر وأحياناً الشغف بالترحال وباكتشاف الثقافات الأخرى، وهي أعمال استشراقية كانت منصفة بدرجة كبيرة، لا بل ومرجعية.
"انتظم" السجال العربي حول "الاستشراق" وصار يدور حول هذا المفهوم بحد ذاته، منذ كتب أنور عبد الملك نصه الشهير في مجلة "ديوجين" الفرنسية عام 1963 والذي حمل عنوان "الاستشراق في أزمة"، ثم جاء بعده الكتاب الأشهر لإدوارد سعيد "الاستشراق"، بألف التعريف ولامه. وهو كتاب نسب فيه سعيد إلى نفسه، تبعاً لأداة التعريف تلك وتبعاً لمضمون الكتاب، الإحاطة بهذا البحر الواسع والعريض والمتعدد الاتجاهات والرؤى والخلفيات السياسية وغير السياسية، والمرجعيات "الأخلاقية" إن جاز التعبير.
بالتأكيد، ليس كل تناول غربي للشرق.. استشراقاً
هكذا تحرّكت عجلة ومروحة السجالات العربية في هذا المضمار، من دون أن تكون كلها مفيدة بالضرورة. بل إن بعض تلك السجالات والكتابات العربية لاقت النصوص العنصرية لبعض المستشرقين، من خلال عنصريتها أيضاً وتعميمها وأحكامها المسبقة وإيديولوجيا كتّابها. لا تزال رحى تلك الكتابات تدور حتى اليوم، على الرغم من "تحلل الاستشراق" وتفككه إلى عدة فروع واتجاهات واختصاصات داخل الأكاديميا الغربية وخارجها، إلى درجة باتت فيها كلمة "الاستشراق" اليوم أشبه بتقليد وطقس في كتابات بعض المثقفين العرب، يستعملها منهم من كان على دراية بالمصطلح ومضامينه الكثيرة وتاريخه، كما يستعملها آخرون بعيدون كل البعد عن المعرفة تلك، ربما من باب الكليشيه لا أكثر. وبالتأكيد، ليس كل تناول غربي للشرق.. استشراقاً.
ساهمت الثورات العربية التي اندلعت عام 2011 في إعادة إحياء تلك المفردة، وخصوصاً مع ما نتج عن هذه الثورات من زخم كبير لحضور البلدان العربية ومشاريع التغيير فيها في قلب دوائر السياسة في "الغرب"، وفي الإعلام الغربي، والمواقف الغربية على صعيد تلك الدوائر، وعلى صعيد مثقفين غربيين كثر تعاطوا مع المعطى العربي الجديد بعد الثورات، وتابعوه وبنوا نصوصهم ورؤاهم ومواقفهم عليه، سواءً كان ذلك من زاوية محض سياسية، أو من زاوية ووجهة نظر وتفسير محض ثقافي، وأحياناً من منظور ثقافوي بالمعنى الذي تحمله كلمة "ثقافوي" من عنصرية أو من تنميط. وتوزعت مواقف الكتّاب والصحفيين والباحثين الغربيين المهمتين بالعالم العربي، بين مؤيدين للثورات العربية، أو مؤيدين للأنظمة رغم وضوح وبشاعة ما تفعله تلك الأنظمة. بهذا المعنى يمكن القول إن أدونيس ليس ظاهرة عربية فقط.
الاستشراق الإيطالي
ثمة ضرورة ملحّة للتمييز هنا ضمن "الاستشراق" نفسه، منعاً لتعميمٍ ثابرَ عليه عليه ناقدو الاستشراق في العالم العربي. ثمة نقطتان أساسيتان تسِمان وتميزان "الاستشراق الإيطالي" عن غيره من "استشراقات" إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو هولندية وغير ذلك، وهي مختلفة عن بعضها بالتأكيد في مسائل ليست تفصيلية. هاتان النقطتان هما:
أولاً، الكنيسة ودورها على هذا الصعيد. وإيطاليا، تاريخياً وتبعاً لوجود الفاتيكان فيها اليوم، هي عاصمة الكاثوليكية في العالم. لقد كان للكنيسة دور كبير في خلق صلة قوية مع العالم العربي من منطلق ديني- لاهوتي بشكل أساسي، قبل أن يتحول الاستشراق كله ويأخذ طابعاً مختلفاً في فترات لاحقة.
ثانياً: موجات اللجوء والهجرة الكبيرة التي تجعل إيطاليا بوابة رئيسية لأوروبا، وخصوصاً من قبل الوافدين إليها في "قوارب الموت" من شمال إفريقيا، أو المقيمين فيها لأسباب اقتصادية أو سياسية، ومن بين هؤلاء عرب ومسلمون كثر. وأيضاً شبكة المواصلات والسكك الحديدية التي تربطها بكل أوروبا وتسهّل حركة هؤلاء وانتقالهم.
ثمة نقطتان أساسيتان تسِمان وتميزان "الاستشراق الإيطالي" عن غيره من "استشراقات" إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو هولندية وغير ذلك: الكنيسة الكاتوليكية وموجات اللجوء والهجرة الكبيرة التي تجعل إيطاليا بوابة رئيسية لأوروبا
من الصعب تحديد لحظة تاريخية محددة يمكن القول، ببساطة، إنها اللحظة التي تأسس فيها الاستشراق الإيطالي أو أي استشراق آخر. غير أن المصادر القليلة المتوافرة حول هذا الموضوع تَذكر أن البابا غريغوريوس الثالث عشر قد أنشأ المدرسة المارونية في روما عام 1584، كما دخلت أول مطبعة إلى روما عام 1635. وفي تلك الفترة قام البابا أربانيوس الثامن بتأسيس مراكز لتدريس اللغات الشرقية في روما، وعيّن الأب جارديان (وهو من القدس) كأول أستاذ للغة العربية في أحد هذه المراكز على ما يذكر المؤرخ اللبناني نجيب عقيقي في كتابه "المستشرقون". (الجزء الأول. ص 347). قبل ذلك، كان اهتمام الجامعات الإيطالية بالعالم العربي واضحاً، وخصوصاً جامعات بولونيا وبادوفا وروما، والتي عنيت بدراسة الآثار واللغة والآداب العربية والألسنية السامية.
ويذكر عقيقي في الكتاب نفسه (ص 351) أن "المكتبة البابوية التي نشأت في أوائل عهد البابوات، تبددت في مطالع القرن الثالث عشر، وأعادها البابا نقولا الخامس (1447-1455).. وازدادات مقتنياتها بمخطوطات قبطية وعربية وسريانية وفيرة في عهد البابوات اللاحقين".
في عام 1537، تمت طباعة "القرآن الكريم" باللغة العربية في مدينة البندقية الإيطالية، قبل أن يُطبع بالعربية في العالمين العربي و الإسلامي. لاحقاً، تمت ترجمة القرآن إلى الإيطالية لأول مرة عام 1547، إلا أن الكثير من الدارسين يشيرون إلى أن النسخة تلك تُرجمت عن اللاتينية وليس عن العربية، أي لم تترجم عن اللغة الأصل. في تلك الفترة، كان الجو مهيئاً لتناول المسألة الإسلامية ورموز الدين الإسلامي على صعيد كتابه المقدّس ورسوله، تناولاً محمّلاً بالعداء والنظرة "المسيحانية" إن جاز التعبير للإسلام، وليس انطلاقاً من تناول أو نقد المسألة الإسلامية وفقاً لما درج عليه اليوم باحثون إيطاليون وغربيون وعرب وبالاستناد إلى مناهج علمية في البحث وفي الأركولوجيا. النظرة الاستعلائية والعنصرية تجاه المسلمين لا تزال مستمرة اليوم إلى جانب نظرات أخرى، مناقضة لها تماماً ومنفتحة على التراث الإسلامي وتياراته وعلى الفلسفة الإسلامية وعلى المسلمين، في الحيز الإيطالي والأوربي نفسه. اليوم، يذهب البابا فرنسيس إلى العالم العربي ويوقّع إعلان الأخوّة والحوار بين الأديان، ويصرّح بمواقف علنية مناصرة لقضايا الحريات وحقوق الإنسان في العالم العربي. طبعاً كان لحركة الإصلاح الديني، ثم التنوير، دور في الانزياحات التي أصابت النظرة الكنسية "المسيحانية" الكلاسيكية والغارقة في السحر والخرافات، على مستوى العلاقة السابقة واللاحقة مع "الآخر"، وأيضاً مع "العالم الآخر"، وهو الإصلاح الذي لم يقتحمه الإسلام حتى اللحظة.
ثمة فقر كبير في المكتبة العربية على مستوى دراسة وتأريخ تاريخ المدرسة الإيطالية في الاستشراق. قد يعود ذلك لعدة أسباب، من بينها أن نقّاد الاستشراق كانوا يكتفون بالإنشاء العربي- النضالي- الإيديولوجي في مواجهة خطاب متهم بــ "الإنشاء". من زاوية أخرى، يمكن للقارئ أن يقع مثلاً على كتاب للباحث كارولين جولر، مترجّم من اللغة الفرنسية ويحمل عنوان "مستشرقو المدرسة الإيطالية". العنوان يبدو مغرياً ومحرضاً على قراءة الكتاب، وهو عنوان يوحي للوهلة الأولى أن الكتاب يُمنهِج أو يُفهرس أعمال المستشرقين الإيطاليين أو أهم هؤلاء على الأقل. إلا أن الكتاب يذهب إلى مكان آخر يتعارض تماماً مع العنوان العريض والشامل الموضوع له، ليكتشف القارئ أنه كتاب يتناول، فقط، الفنانين والتشكيليين الإيطاليين الذين رسموا "الشرق". وفي هذا دلالة إضافية على الحصر والاختزال والابتسار الذي يطال الاستشراق، وإن يكن غير مقصود كما نفترض في حالة الكتاب المذكور آنفاً، والذي كان من اليسير والمحبَّذ اختيار عنوان آخر له يعطي المضمون حقه.
لم يقابل ضعف حركة الترجمة بالعمل الدؤوب على نقل التراث الإيطالي على هذا المستوى إلى العربية، بل استمر الخطاب والضجيج من قبل الكثيرين من المثقفين العرب، الخطاب والضجيج الذي يشتم الغرب ويوبخه على عدم إنصافه، من دون الانتباه إلى أن الغرب ليس غرباً واحداً، ومن دون التفكير للحظة واحدة بدور التبادل الثقافي في خلق حوار مع نُخب ذلك الغرب. واستطراداً، كان يبدو أيضاً انطلاقاً من ذلك الخطاب، وكأنّ "ديارنا الكريمة"، العربية والإسلامية، هي ديار لم يعرف عنها ضعف كبير في تقاليد الانفتاح على الآخر في داخلها وبين مكوناتها هي نفسها، وعلى المستوى الكوني وجغرافيا الاستشراق "شرق-غرب". معاداة الاستشراق كَكُلّ، هي معاداة تركن إليها التيارات القومية والإسلاموية، والمظلومية والضحوية العربية الكسولة والمستريحة إلى يقينياتها وأجوبتها وتفسيرها السحري للعالم وعلاقاته ومعنى وجوده، وتعزز عدميّتها بنظرة بوليسية إلى أي نص استشراقي أو غير استشراقي يصدر عن "الغرب".
القول الفصل عند فرنشيسكو غابرييللي
في مبادرة لافتة جداً ومميزة، قام الكاتب والباحث السوري هاشم صالح بإعداد كتاب حمل عنوان "الاستشراق بين دعاته ومعارضيه"، صدر باللغة العربية عن دار الساقي. الكتاب هو مجموعة نصوص لمستشرقين تناولوا العالم العربي والإسلام بشكل أساسي، وشكّل هذا الكتاب فرصةً لهم مناسِبة للدفاع عن أنفسهم في وجه حملات الشتائم والهجوم العربي الذي طالهم كما طال مستشرقين غيرهم. وحوْل الاستشراق الإيطالي، شارك المستشرق الإيطالي فرنشيسكو غرابرييلي في الكتاب بنص طويل حمل عنوان "ثناء على الاستشراق".
غابرييلي هو واحد من ألمع المستشرقين الإيطاليين كما يصنفه مثقفون طليان كثيرون. كان مديراً لمعهد الدراسات الإسلامية في جامعة روما، وأصدر عدة كتب من بينها "خلافة هشام" و"التاريخ والحضارة الإسلامية" و"تاريخ الأدب العربي"، وكتاب "محمد". نص غابرييلي هو رد على مقالة أنور عبد الملك في مجلة "ديوجين"، وقد نشر الرد في المجلة نفسها. ربما يصلح هذا النص لأن يكون خارطة طريق لفهم الاستشراق كبحر واسع تتلاطم فيه أمواج مختلفة الحجم والفاعلية "والمصداقية". يقول غابرييلي في جزء من مقالته:
"لقد أمضى كاتب هذه السطور حياته كلها في الدراسة المفعمة بالحماسة لواحدة من الحضارات الشرقية على الأقل: قصدتُ الحضارة العربية الإسلامية. ومما يدعو للاستغراب والدهشة أنه من هناك جاءتنا، ويا للأسف الشديد، أكبر الاتهامات وأكثرها جحوداً وإنكاراً لعمل الاستشراق. وعلى الرغم من أنني ابن هذا الغرب ومرتبط بحضارته بكل حواسي ومشاعري، إلا أنني كنت دائماً أشعر بمدى عظمة هذه الحضارة العربية الإسلامية، ومدى شرفها وكرامتها بصفتها إحدى المكونات الشرقية لتاريخ البشرية. وبالتالي فإني عالم بالأمور وأستطيع أن أحكم فيها أو عليها. إنني أرفض قطعياً هذا التقييم الظالم لأعمال الاجيال المتتالية من المستشرقين أو المختصين بمعرفة الشرق والذين لا يهدفون إلى أي غرض أو مصلحة شخصية من وراء هذه المعرفة. إنهم يهدفون إلى خدمة العلم والفضول العلمي الذي يشكل إحدى خصائص الإنسان. وليس لي إلا أمنية واحدة: أن يخترع الشرق قيماً جديدة ومبتكرة قادرة على إغناء ميراث البشرية على هذه الأرض. وإذا لم يفعل ذلك واختار نقل القيم الغربية بعد إجراء التعديلات الضرورية عليها لكي تتأقلم معه، فأتمنى أن يختار من بينها الأفضل والأكثر غنى بالخميرة النقدية، الأكثر قدرة على "جعل البشر يكنون حباً للآخرين كما يحبون أنفسهم" كما يقولون شاعر إيطالي كبير، بدلاً من أن يتعلقوا بأتفه ما أنتجه الغرب وأكثره قمعاً وضرراً. ولكن إذا كانت الضرورة أو الاختيار الحر قد دفعاه إلى تفضيل هذه الأخيرة (أي القيم السلبية في الغرب) فأتمنى أن يعرف مصدرها ومنشأها ضمن منظور تاريخي صحيح، لكيلا يسيء فهم الغرب أو يعمم حكمه السلبي عليه".
على سبيل الخاتمة
حاول هذا المقال تثبيت مفاصل يراها رئيسية في قراءة الاستشراق والاستشراق الإيطالي خصوصاً. وإذا كانت المكتبة العربية فقيرة بكتابات مستشرقين إيطاليين ونتاجهم، على اختلافات ذلك النتاج، فإن كاتب هذا المقال لن يدعي، بالتأكيد، قدرته على الإحاطة بهذا المجال الواسع الذي لا تحيط به الكتب القليلة، وإلا وقَعَ في فخ الاختزال والتبسيط والتنميط، كما يفعل بعض المستشرقين وكما يفعل نقاد الاستشراق في ديارنا العربية، وهو فخّ وموقع ليس مدعاة للبهجة والفخر، وليس مرغوباً به من قبل كل ذي حسّ سليم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...