"يعدّ هذا الكتاب نوعاً ما، عدة كتب، إلا أنه عبارة عن كتابين، والقارئ يملك حرية اختيار قراءتها بطريقتين: الأولى هي قراءة الكتاب قراءة اعتيادية والانتهاء منه عند الفصل 56. الكتاب الثاني يجب قراءته من الفصل 79 بطريقة خاصة: في نهاية كل فصل يشار فيما بين قوسين إلى رقم الفصل التالي الذي يجب قراءته"، هذا ما يرد في الصفحة الأولى كدليل للقارئ، في واحدة من أبرز روايات النصف الثاني من القرن العشرين، وهي "الحجلة أو لعبة القفز بين المربعات"، للأديب الأرجنتيني خوليو كورتاثار.
القارئ إذن، عندما يفتح هذه الرواية سيقرر بنفسه أن لديه عدداً من الكتب، وسيقرر بأية طريقة سيقرؤها، يكتب كورتاثار عن هذا الخيار البنيوي السردي: "تتجلى فكرتي الرئيسية، في أن كل قارئ يجب أن يقرر بطريقته الخاصة ما سيفعل، ذلك لأن القارئ هو ملهمي وشريكي"، فالروائي يقدم للقارئ رحلة القفز بين فصول الرواية، كما هي لعبة القفز فوق المربعات المرقمة المرسومة بالطبشور على الأرض، والتي تحمل الرواية عنوانها.
عن رواية كورتاثار
تزخر رواية كورتاثار بعوالم يتداخل فيها سرد الكاتب مع السرد المتخيل، فتنقل القارئ إلى حيز الأحلام والتأملات، وتأخذنا في رحلة إلى فن الموسيقى
تتألف الرواية من 155 فصلاً، مقسمة إلى قسمين، القسم الأول من الكتاب يستعرض حياة الشخصية الرئيسية أوراسيو أوليفيرا، والذي تماثل حياته الكثير من تفاصيل حياة كورتاثار نفسه، مثقف، متأمل على الدوام، مطلع بكثافة على الفنون ومهاجر من بوينس آيريس إلى باريس، لذلك تمتد في الروايات العديد من المقارنات بين الحياة الفنية، الثقافية والاجتماعية، بين هاتين الروايتين.
لقد حاول كوتاثار أن ينقل حياة مجموعة من الأصدقاء الباريسيين، أغلبهم من المهاجرين المهتمين بالموسيقى، بالفكر، بالتحليل النفسي، نقاشاتهم وسهراتهم، بطريقة غاية في الواقعية، ليمكن القول إنه اقتراح روائي بكيفية الغوص في الواقعية إلى دركها الدقيق، حيث تتداخل حوارات الأصدقاء مع أفعالهم اليومية التافهة، مع وصف سهراتهم الموسيقية في نوادي موسيقى الجاز، حواراتهم عن الفرد والعقل والعالم والعصر وكذلك مغامراتهم في الحب والحاجة والخيانة فيما بينهم.
أوليفيرا، الباحث عما يستحيل العثور عليه
الشخصية الرئيسية، أوراسيو أوليفيرا، في حالة بحث فكرية دائمة حول أفكاره، معتقداته وتقييمه للفنون، لكنه، وعلى طول الرواية، ومعروف من قبل كل شخصياتها، باحث عما يستحيل العثور عليه: "كان مقتنعاً قناعة راسخة بأن عدم معرفته للحقيقة أفضل له من أن ينخدع"، لذا فهو يمارس التأمل والتفكير بلا انقطاع، وغالباً ما يعيش في حالات شرود طويلة: "أصبحت شاهداً على حياتي وجاسوساً على تصرفاتي، وارتعدت أوصالي لأنني كنت مشغولاً بهذه الأفكار على الدوام، وأدركت أن التفكير الدائم أسهل عليّ بكثير من إثبات الوجود والفعل".
بطل رواية كورتاثار "الحجلة أو لعبة القفز بين المربعات" في حالة بحث فكرية دائمة... باحث عما يستحيل العثور عليه
يحتل الحب أيضاً المساحة الأكبر من قسم الرواية الأول، فيروي أوراسيو أوليفيرا بدقة وحميمية عن علاقته العاطفية، العشقية والجنسية، بحبيته ماغا، ما يذكّر في بعض فقرات الرواية بـ"مجنون ألسا" لأراغون من حيث المقاطع الطويلة في التغني بالحب، وبوصف تأثيره على المحبوب والحبيب: "ها أنذا ألامس شفتيك، وأمرر أصبعي على حافتي فمك، فأرسمه بكل ما تستطيع يدي الرسم، وكأن فمك يفتر لأول مرة، وفي كل مرة أرغم فمك أن يولد ثانية، كما اخترته، وها أنا أشعر كيف ترتعشين في داخلي كما يرتعش القمر على صفحة مياه الأماسي".
"يعدّ هذا الكتاب نوعاً ما، عدة كتب... في نهاية كل فصل يشار فيما بين قوسين إلى رقم الفصل التالي الذي يجب قراءته"، هذا ما يرد في الصفحة الأولى كدليل للقارئ، في واحدة من أبرز روايات النصف الثاني من القرن العشرين، وهي "الحجلة أو لعبة القفز بين المربعات"، للأديب الأرجنتيني خوليو كورتاثار
فن الموسيقى في الرواية
كذلك تشكل التأملات حول فن الموسيقى محوراً أساسياً في الرواية، هي في أغلبها محاولات تنقسم إلى قسمين: كيفية كتابة الموسيقى أو وصف مقطوعة موسيقية لغوياً؟ وكيفية وصف أمسية في نوادي الجاز الموسيقية في باريس؟ كما تحتوي الرواية على الكثير من النقاشات حول أنواع موسيقية مختلفة: الكلاسيك، الجاز، البلوز والبوب، لتضم عدداً كبيراً من أسماء الموسيقيين والألبومات الموسيقية، تحديداً في موسيقى الجاز، التي وحّدت مستمعيها في كل أنحاء العالم، كأنهم في ناد واحد: "لقد جمعت موسيقى الجاز العالم أكثر مما جمعتهم اليونيسكو". كذلك تزخر الرواية بحوارات عن الفن التشكيلي: كيف يمكن التعبير عن العالم الذي نعيش فيه بواسطة الفن التشكيلي؟ وعن الفرق بين عوالم موندريان وبول كليه: "بول كليه يجسد التاريخ، بينما موندريان خارج الزمن، ليصبح التفصيل بين التاريخ والمطلق".
تداخل المتخيل السردي مع النص المقروء
لكن الأهمية الاستثنائية في الرواية تكمن في القسم الثاني منها، القسم الذي يقرأ خارج الحكاية الأساسية، وهو عبارة عن أوراق شخصية، مذكرات أو تأملات بقلم أديب قصصي متخيل يدعى موريللي، غايته الأساسية التأمل في فن السرد، كيفية بناء الرواية، كيفية بناء الشخصيات الروائية والبنية داخل الرواية، وبالتالي هي أفكار كاتب قصصي عن طريقة كتابة رواية، ما نلبث أن نكتشف أنها الرواية نفسها التي نقرؤها، ولا يلبث هذا الكاتب موريللي نفسه أن يظهر هو ذاته كشخصية داخل الحكاية الأساسية، فبينما كنا نقرأ أفكاره وتأملاته لا يلبث أن يتحول إلى واحد من شخصيات الرواية، فتكتشف شلة أصدقاء باريس أن كاتبهم المُلهم مازال على قيد الحياة في أحد المشافي الصحية.
تكمن الأهمية الاستثنائية في القسم الثاني من رواية كورتاثار في أنها بقلم أديب قصصي متخيل، يتأمل في فن السرد والبناء الروائي، ثم لا يلبث أن يظهر هو نفسه كشخصية داخل الحكاية الأساسية
الرواية التي يبحث الكاتب المتخيل موريللي عن كتابتها ليست رواية قائمة على الأحداث وليست رواية نفسية، بل هي أقرب إلى الفن التجريدي: "حيث الموسيقى تفقد اللحن، الفن التشكيلي يفقد المضمون والرواية تفقد الوصف"، والرواية التي ينشدها موريللي ليست هي التي تقحم أبطالها بالموقف، بل التي تقترح الموقف لأبطالها، وبفضل هذا الأسلوب لا يبقى الأبطال مجرد أبطال فقط، بل يصبحون شخصيات مستقلة، لكن الشخصية الحقيقية الوحيدة التي تكتسب أهمية هو القارئ. يدافع موريللي عن النصوص المستفزة، عن الرواية الهزلية وعن القصص التي تجعل من القارئ شريكاً حقيقياً، يعيش في زمن المطالعة نفس التجربة التي عاشها الكاتب في عملية الكتابة.
كذلك تحوي أوراق موريللي العديد من النصوص المكتوبة بأقلام كتاب آخرين ليضمنها في نصه: "إن الإيمان الحقيقي يكمن بين الخرافة والتفكير الحر، خوسي ليما"، أو يدمج النص بكلمات أغاني: "حتى لو افترقنا عن بعضنا قبل بداية النهار، عديني بأنك لن تنسي، كيف أحببتني في تلك الليلة، لجوني تيمبل"، وكذلك يتضمن النص قصاصات من أخبار الجرائد، منها ما يتتبع مثلاً أخبار تنفيذ أحكام الإعدام في الولايات المتحدة، ليدينها، وليثبت أن هناك أحكام إعدام تصدر وتنفذ بحق الأحداث أيضاً.
عالم من الأحلام
بالإضافة إلى أسئلة كيفية كتابة رواية، كيفية وصف الموسيقى، وكيفية التعبير عن العالم بالفن التشكيلي، هناك في الرواية محاولات عديدة تسعى لإيجاد السبل الأفضل لرواية الأحلام، فالشخصية الرئيسية، أوراسيوا أوليفيرا، يروي أحلامه على الدوام، وهو يتأمل بفقرات طويلة كيف يمكن رواية الأحلام بالطريقة الأمثل، فيستشهد بكتابات مؤلفين آخرين في هذا الخصوص، مثل آناييس نين، التي كتبت: "كان الحلم أشبه بمنارة تتألف من عدد من طوابق لانهاية لها ولا آخر، وكأنها ارتفعت شاهقة حتى تلاشت في غياهب اللانهاية، أو أنها انحدرت بدوائر إلى الأسفل حتى وصلت إلى باطن الأرض، ثم تحولت هذه الحلزونة إلى متاهة، وهذه المتاهة تتكرر وتتكرر بدقة بكل تفاصيلها"، وصف أناييس نين للأحلام ينطبق بدقة على رواية كوتاثار المتميزة هذه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...