خلال الموسم الدرامي الرمضاني في مصر عام 2020، عُرِضَت إحدى حلقات مسلسل "النهاية" للممثل المصري يوسف الشريف. داخل الحلقة، عُرِضَ مشهد مثير لاهتمام المتابعين، إذ تقتضي الضرورة الدرامية أن تقوم الممثلة سهر الصايغ بحمله لوضعه داخل سيارة. لكن المفاجأة كانت حين رأى المشاهدون يوسف الشريف داخل السيارة دون تمهيد لذلك. عندها قامت الدنيا ولم تقعد: يوسف الشريف لا يتلامس مع زميلاته الممثلات!
لم يُنكر يوسف ما قيل بشأنه، وظهر في حلقة تلیفزيونية يؤكد فيها أنه "يضع قيوداً للعمل في مسلسلاته: لا قبلات... لا مشاهد ساخنة... لا تلامس"!
تأكيد يوسف الشريف، وضعه في مرمى سهام النقد، فوصف الشاعر والسيناريست مدحت العدل تلك القيود بأنها "مغازلة لتيارات التطرف". من هنا، برزت التساؤلات المُلِحة: متى ترعرع في وادي الفن المصري هذا الفكر "المتطرف"؟ وهل الشريف حالة شاذة أم أن الحقل السينمائي في مصر يزخر بمن يرون الفن رجساً من عمل الشيطان ويطمحون في أن يلهمهم الله التوبة؟!
يوسف الشريف ليس الأول ولن يكون الأخير!
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فاجأت الفنانة شادية الجميع بارتدائها الحجاب واعتزالها الفن نهائياً، وعلى إثرها انتشرت موجة من اعتزال الفنانين بدافع الدين، والسعي نحو إرضاء الرب؛ فالرجال منهم أطلقوا لِحاهم، مثل محسن محيي الدين، ومحمد ووجدي العربي، ومحمود الجندي، والنساء ارتدين الحجاب، مثل حنان ترك، وعبير صبري، وشاهيناز، وحلا شيحة، ومنى عبد الغني، وسهير رمزي، وشهيرة، وصابرين، وغيرهن الكثيرات.
وحدها شادية التي كان انقطاعها صارماً فلم يرها الجمهور حتى توفيت قبل ثلاثة أعوام، لكن غالبية المعتزلين عادوا بشروط لا تقل صرامة عن شروط يوسف الشريف، وعادت الفنانات المُحجبات إلى الشاشة مُجدداً. لكن تلك العودة لم تجنِ إلا السخرية من أعمالهن "المُفلترة"، إذ نجد المَشَاهد التي تستدعي تلامساً مع زملائهن، تخرج إلى الجمهور بشكل جالب للضحك؛ فمثلاً نجد مشهداً يحكي عن عودة ابن لتلك الممثلة المحجبة من سفر طويل، وتستدعي الضرورة الدرامية أن تحتضنه بلهفة، لكنها تستعيض عن ذلك بحمد الله على العودة المباركة، دون أن تمسسه بيدها!
كان هناك مشروع مهم للدولة المصرية ممثلاً في الحقبة الناصرية، الفن فيه كان مُكرماً، لكن ذلك المشروع ذهب أدراج الرياح عقب هزيمة 1967
لكن السخرية الأكثر حِدة كانت عند الفنانتين صابرين وهالة فاخر، حين ظنّتا أن "الباروكة" ستكون بديلاً شرعياً للحجاب، معتبرتين أن الشَّعر المستعار أمر شرعي يتساوى مع غطاء الرأس!
لعنة اسمها "السينما النظيفة"
في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، ظهر في مصر مصطلح "السينما النظيفة"، وهي جملة حملَ رايتها جيلٌ من الفنانين، على رأسهم محمد هنيدي، وأحمد السقا، وأشرف عبد الباقي، ومنى زكي، وغيرهم، خاصة بعد عرض أول فيلمين لهذا الجيل، "إسماعيلية رايح جاي"، و"صعيدي في الجامعة الأمريكية".
بالتواصل مع المخرج داود عبد السيد، أكد أن تلك الفترة من الأعمال السينمائية، كان يُرَوّج لها بجمل تداعب الحسّ الديني لدى الأسرة المصرية، فوجدنا إعلانات للأفلام كُتِب عليها: "فيلم تستطيع مشاهدته أنت وأسرتك"، و"فيلم لا يخدش حياء الأسرة"، تعبيراً عن أن أفلامهم تخلو من القُبلات، والمايوهات، وبدلات الرقص!
وأضاف المخرج الشهير داود عبد السيد في حديثه لـرصيف22 أن السينما المسماة بـ"النظيفة" سببها تجاريّ بحت، إذ استغل صنّاعها الجانب المحافظ في المجتمع المصري، وانتشار التيارات الإسلامية في تلك الفترة، وتأثيرها الواضح على العائلات، فكان طبيعياً أن نرى المولات - التي كانت حديثة العهد آنذاك - تكتظ بعدد كبير من الأُسر، لكن الحقيقة أن هذه الأعمال كانت "خالية من أي مضمون فني حقيقي، بحجة الحفاظ على حياء المجتمع!" وفق تعبيره.
لكن صاحب رائعة "الكيت كات" أكد أن "أسوأ ما فعلته السينما النظيفة هو أنها جعلت المواطن نفسه يطلب الرقابة على ذاته، غير مكتفٍ بالرقابة التي تفرضها الدولة ممثلة في هيئة المصنفات، أو حتى في جهاز الشرطة الذي رأى شخصاً ومعه حبيبته داخل سيارة بمفردهما قد يُزجّ بهما في السجن بتهمة الفعل الفاضح في الطريق العام!
ذلك التملق للشعب المحافظ، جعل كثير من النجمات "يخفن حتى من نظرة حارس العقار الذي يسكنّ فيه، اتقاءً لما قد يدور بذهنه أثناء رؤيته لهن، وتذكّره مشاهدهنّ العارية في تلك الأفلام الجريئة"، بحسب ما قاله المخرج داود عبد السيد.
ويتفق الممثل المصري أسامة أبو العطا مع داود عبد السيد في أن "السينما النظيفة" هي التي رسّخت ذلك الفكر "المتسلف" داخل أبناء الجيل الحالي من الفنانين الشباب، متسائلاً ومُجيباً على نفسه بشيء من الحيرة: "هل كان هذا المصطلح ممولاً من تيارات خارج الفن؟ لا أعرف. ولا أستبعد. هل كان نفاقاً لحالة سيطرة تيار الإسلام السياسي على الفضاء العام في الشارع المصري؟ ربما. هل رأت الدولة أن تترك للتيار الإسلامي الفنَّ على اعتبار أنه موضوع لا يعنيها؟ لست متأكداً. لكنه أمر وارد."
واستطرد "أبو العطا" قائلاً: "المدهش أن هؤلاء الذين يطلقون مصطلح السينما النظيفة قاصدين تلك الأعمال التي تخلو من مشاهد الحب والقبلات والرقص وكل ما هو حسي أو متعلق بالجسد - الذي يتعاملون معه على أنه مصدر الشرور - هم أنفسهم الذين يطلقون على سينما العقود السابقة من الأربعينيات وحتى مطلع التسعينيات (زمن الفن الجميل) وهو موضوع يستدعي عرضهم على أطباء نفسيين."، بحسب تعبيره.
المخرج داود عبد السيد: السينما المسماة بـ"النظيفة" سببها تجاريّ بحت، إذ استغل صنّاعها الجانب المحافظ في المجتمع المصري، وانتشار التيارات الإسلامية في تلك الفترة
وتابع الممثل المصري أسامة أبو العطا: "يقولون في المثل الشعبي (الزن على الودان أمر من السحر)، وإلحاح تيار الإسلام السياسي على العداء للفن وشيطنته ثم توسع تأثيرهم على الشارع وانضمام قطاعات أخرى لهم سواءً عن قناعة أو انتهازية، مهّد لظهور هذه الأفكار داخل الأوساط الفنية ذاتها، لكن بصفة عامة من حقّ كل شخص أن يصنع الفنَّ الذي يريده وفق المعايير التي يرغب فيها، لكن ليس من حقّه فرض هذه المعايير على غيره سواءً بالتلميح أو التصريح أو بالغمز واللمز."
واستشهد أبو العطا بحادثة شهيرة جرت للفنانة المصرية إلهام شاهين "عندما حملَ داعيةٌ سلفي يدعى عبد الله بدر صوراً لإلهام مستخدماً مقاطع من مشاهد قامت بتمثيلها، ووجه لها كلاماً نابياً وإيماءات منحطة، صدمنا جميعا فانتفضنا نصِفه بالتخلّف والهمجية، وحملناه إلى ساحات التقاضي، ومن هذا المنطلق ليس من المنطقي أن يظهر من آنٍ لآخر بعض العاملين بالتمثيل ليردّدوا نفس كلام عبد الله بدر بصيغة أخرى فنعتبر ما يقولونه وجهة نظر، بل إن بعضهم يُصَفّق لهم. فلو أن ما يقولونه وجهة نظر، فكلام عبد الله بدر سيكون وجهة نظر كذلك، بل إنه في هذه الحالة سيكون الداعية أكثر اتساقاً مع ذاته على اعتبار أنه لا يعمل بفنون السينما."
محاولة للتأصيل... متى ترعرع في وادينا الفني هؤلاء المتسلفة عقولهم؟!
طرحنا هذا السؤال على الناقد الفني محمود عبد الشكور، فأكّد أن الأزمة تعود لنشأة الفن في مصر، حين كانت مهنة التمثيل مرفوضة مُجتمعياً، لدرجة أن الممثلين كانت لا تُقبل شهادتهم في المحاكم، وفق تأكيده.
وضرب عبد الشكور في حديثه لـرصيف22 مثالاً على ذلك الرفض، بما ذكره الفنان المصري الراحل نجيب الريحاني عن والدته وأنها قاطعته لسنوات، بسبب امتهانه للتمثيل، ومرت سنوات لم تتغير فيها نظرة الشارع المصري للفنانين، حتى قيام ثورة 1919، ومحاولة إنشاء دولة مدنية مرجعها دستور 1923، فرأينا بعدها بسنوات يتمّ تكريم عدد من الفنانين، مثل يوسف وهبي، وأم كلثوم، التي أعطيت لقب صاحبة العصمة من الملك فاروق.
لكن ذلك التكريم الذي تلقاه الفنانون، لم يمنع وجود "تيار متأسلم" يتحين الفرصة لتعميم أفكاره على المجتمع، ومن ثم الفن، فوجدنا ممثلاً مثل حسين صدقي، الذي قيل عنه إنه كان معتنقاً للفكر الإخواني، لدرجة أنه طالب بحرق أفلامه، معتبراً إياها عاراً يتحتم عليه محوه من ذاكرة مشاهديه، بحسب تعبير الناقد محمود عبد الشكور.
الشيخ عبد الحميد كشك كان يسبّ أم كلثوم وعادل إمام وغيرهما
ويرى الناقد الفني محمود عبد الشكور أنه كان هناك مشروع مهم للدولة المصرية ممثلاً في الحقبة الناصرية، الفن فيه كان مُكرماً، لكن ذلك المشروع ذهب أدراج الرياح عقب هزيمة 1967، مما أحدث فراغاً نتج عنه سطوع نجم "تيارات التأسلم السياسي" بحسب تعبيره، الذي دخل في صراع مع التيارات اليسارية وانتصرت فيه التيارات الدينية، وكان نتيجة هذا الصراع هو تهميش "أضعف عنصرين في المجتمع، وهما المرأة والفن"!
ذلك النجاح الساحق للتيارات "المتأسلمة" على أرض الواقع بفرض رؤاهم على الشارع المصري، ألقى بظلاله على الوسط الفني، وفقاً لرأي الناقد محمود عبد الشكور، الذي أكد أنهم استغلوا شعبية "خُطب الشيخ عبد الحميد كشك في السبعينيات، الذي كان يخصص دروسه لسبّ الفنانين بداية من أم كلثوم حتى عادل إمام، وكذلك محمد متولي الشعراوي، الذي سجد لله شكراً بعد نكسة يونيو، لأننا لو انتصرنا - وفقاً لمعتقد الشيخ المعروف بأنه إمام الدعاة - كنا سنعيش في أحضان الشيوعية!"
وتابع عبد الشكور أن كل هذه الأمور والصراعات مُجتمعة، أدت إلى ما جرى من دخول لمثل هذه الأفكار لعقول الفنانين، فهم - بحسب رأيه - أبناء لنفس المجتمع، تشربوا نفس الأفكار من جهة، ومن جهة أخرى، "الفنان هو أحرص كائن يحتاج للقبول المجتمعي، فإذا رأينا فناناً يعلن عن أفكار تتفق مع تيارات (التأسلُم السياسي)" فهذا معناه أنه "قد يكون من باب إرضاء المجتمع، والأمر ليس له علاقة بالاقتناع التام."
واختتم الناقد الفني محمود عبد الشكور حديثه لـرصيف22 بإعرابه عن اندهاشه من ثبات الفن المصري، ووجوده حتى الآن، رغم كل هذه الطعنات التي توجه إليه من داخله ومن خارجه!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...