هشام حجوج كوكا، مُخرج ومُصور ومؤلف ولد في السودان، بدأ حياته كمُراسل حربي ومخرج أفلام وثائقية. وفاز فيلمه (على إيقاع الأنتنوف) بجائزة الجمهور لأفضل فيلم وثائقي من مهرجان تورنتو السينمائي 2014، ثم نجح فيلمه الروائي الطويل الأول " أكاشا" ليعتبره النقاد بمثابة عودة السينما السودانية على الساحة العالمية.
حجوج كوكا، الذي حاورته رصيف22، هو أول مخرج سينمائي سوداني يحصل على عضوية أكاديمية أوسكار الأمريكية للفنون ، ولكن المفارقة بعد إعلان عضويته تم اعتقاله مع مجموعة فنانين في بروفة مسرح بحُجة "إزعاج الأمن العام".
في البداية .. حمداً لله على سلامتك وخروجك.. لو عُدنا لتاريخ 17 أيلول\سبتمبر الماضي، واعتقال الشرطة لك مع مجموعة فنانين .. حدثني ماهي ملابسات هذا اليوم؟
حجوج كوكا: الواقعة تعود لتاريخ 10 أغسطس، عندما قررنا مجموعة من شباب/ات ممثلين تنظيم ورشة مسرح صامت بمركز ثقافي بالخرطوم، تُديره صديقتنا دعاء طارق؛ فوجئنا برجل خمسيني يُقال إنه ينتمي للعهد البائد، وضد الثورة، يقطُن بجوار المركز، يُهاجمنا، ويتطاول علينا بالسُباب، ويصُرخ قائًلا (شنوه بنات وولاد يختلطوا معًا وصوتهن عالِ؟!) تصاعد الشجار حتى تحول مُحيط المركز إلى ساحة عراك، حيث انضم سكان الحي للرجل ضدنا، وتم إلقاء الحجارة، وتكسير السيارات وإصابة أحد زملائنا بجرح عميق، أغرق وجهه في الدماء.
"تهكُم الشرطي على زميلي عندما سأله عن مهنته وعندما رد : "ممثل" ، قال له لا أشاهدك في التليفزيون، قال "أنا ممثل مسرحي" لينقض الحارس عليه حالقًا شعره لإذلاله"
اعتقدنا أن استدعاء الشرطة السوادنية سينقذنا، ولكن حدث العكس؛ رفضت تحرير محاضر ضد المعتدين، بل تحولت الشرطة إلى طرف مؤيد لما فعلوه؛ وتطاول أحد الظباط على مديرة المركز دعاء البنت الوحيدة بين 10 ممثلين تم القبض عليهم، وصفَعها على وجهها لتسقط مغشيًا عليها، وعندما اعترضنا كزملائها تم احتجازنا جميعاً في "الحراسة" /زنزانة القسم، وهتفنا باسم الثورة ، ومع نهاية اليوم تم إخلاء سبيلنا، ولكن فوجئنا بتحريك محاضر ضدنا فيما بعد باتهامات مثل اختراق الحظر، وإزعاج عام للأمن.
ثم صارت مرحلة التقاضي، ورغم كونها قضية بسيطة كما أكد المحامين، ولكن كان هناك تعمُد لاعتقالنا، حيث شهد جميع ضباط القسم ضدنا، وشعرنا بانحياز القاضي لبلاغات الشرطة، كان يُركزفي أسئلتِه عن أسباب دفاعنا، ووجودنا مع الزميلة دعاء طارق، وطرح تساؤلات من نوعية هل هي أخت أو زوجة أو ابنه لأحدكم، حتى انتهت المحاكمة بالسجن لمدة شهرين وغرامة مالية في 17سبتمبر.
وكيف كانت المُعاملة داخل "سجن أم درمان"؟
من زمان معروف بالسودان أن "الدَخلة" في السجن تُسمى بالحفلة، وهي محاولة للإذلال وكسر القادم من الخارج، لكن بعد الثورة لم أكن أعرف إلى أين وصلنا، ولكن انتبهت جيدًا باستمرار أن الدولة العميقة، التي كنا نتحدث عنها نظريًا فقط، ولكن تعايشت معها عبر مشوارنا بالقسم ثم النيابة ثم السجن، كان يَمسكنا أحد أبناء هذه الدولة العميقة. وبمجرد دخولنا السجن، وكلنا كفنانين شعرنا طويل، فوجئنا بمسبَات بذئية جدًا، وهجوم علينا بالأمواس لحلق شعرنا ، وإجبار زملائنا بخلع الكَمامة التي نرتديها كإجراء وقائي، وتهكُم الشرطى على زميلي عندما سأله عن مهنته وعندما رد : "ممثل" ، قال له لا أشاهدك في التليفزيون قال "أنا ممثل مسرحي" لينقض الحارس عليه حالقًا شعره لإذلاله.
وهل كانت هذه المعاملة خاصة بمجموعتكم فقط؟
لم تخصُنا هذه المعاملة بمفردنا، ولكن جميع السجناء طالهم التعذيب والضرب بالكرباج ،كما حدث مع طالب جامعي رفض أن يذُكر اسم قبيلته مكتفياً بقوله "أنا سوادني"ـ وهذا من أسوأ ماورثناه من العهد البائد، القبَلية، وعندما خَر الطالب على الأرض من ألم السَوط، نطق باسم قبيلته مُجبرًا؛ ولكن عندما حدث التضامن العالمي مع اعتقالنا، وكتبت الصحف، توقف الضرب والتعذيب لنا، ولكل أفراد السجن، ولكن للأسف بمجرد خروجنا، عادت المعاملة شديدة القسوة، وطبق الظباط عقاب جماعي بل طُلب من زملائي المتُبقين بالسجن التدحرج على طين ومياه الأمطار والمجاري التي كان السجن غارقًا فيها .
لا أفهم كيف يحدُث هذا في عهد حكومة الثورة الديمقراطية؟
هذا ما تأكدت منه بعد تجربة الاعتقال، إنه ما زلنا نعيش بقوانين الحكومة البائدة والكيزان القديمة؛ والتغيير الذي حدث في السوادن بعدعام ونصف من عزل البشير هو سطحي وفوقي جدًا ، حكومة الثورة اهتمت بكلام فارغ وكراسي الوزارات ، لكن التغيير لم يصل لأرض الواقع مثل المفاهيم الجديدة لحقوق الإنسان، ومعاملة السجين بكرامة.
"حكومة الثورة في السودان اهتمت بكلام فارغ".
التغيير لم يصل لاكتساب مساحات حقيقية من حرية الرأي والتعبير؛ نحن لجأنا للشرطة لحمايتنا من مواطنين يعتدوا على فنانين، بدلاً من أن تقوم بحمايتنا، قامت بحماية المفهوم القديم للدولة الكِيزانية القديمة، أما المفهوم الجديد الخاص بالحريات الفردية وحرية الفن ومشاركة المرأة في المجال العام لم نصل بثورتنا بعد لهذا التغيير.
نعود للسينما .. ما أهمية عضويتك كأول مخرج سوداني في أكاديمية أوسكارالأمريكية للفنون لك وللجنوب المهمش دائمًا؟
اختياري كسوداني لتحقيق التنوع العرقي، الإثني والجندري الذي تسعى له الأكاديمية في السنوات الأخيرة، خاصة بعد مظاهرة احتجاجية عام 2015 عنوانها (أوسكار بيضاء جدًا Oscars so white )، سواء في لجان التحكيم أو المُرشحين للجوائز، ومن ثم دوري كمخرج جنوبي إتاحة الفرصة للأصوات المختلفة من الأفلام لتُرَشَح للأوسكار، وإحداث هذا التنوع في الذوق العام للجمهور؛ حقيقي وصلت كمشاهد ومخرج للملل من أفلام هوليود المُكررة، أما كوني مواطن سوداني، توقيت إعلان عضويتي كان مُفارقة غريبة حدثت بالتوازي مع نجاح يوم احتجاجي مهم للشعب السوداني 30 يونيو 2020، وفوجئت بمباركات أصدقائي، وكأنها رسالة لضروة عودتي للسينما مجددًا، حيث اندمجت في الثورة منذ اندلاعها، وسُجنت في أول 2019، والغريب أني كنت متحمساً للعودة إلى السينما، وكنت أعُكف على كتابة 3 سيناريوهات لأفلام، ولكن فوجئت بسجني من جديد في أيلول\سبتمبر 2020، وعُدنا ننغرز مره ثانية مع الدولة العميقة وحقوق الإنسان والسياسة.
هل هذا هو قدر الفنان الجنوبي .. "عثمان سمبين" المخرج السنغالي الشهير له مقولة أن "سينما الجنوب هي مدرسة مسائية لمحو الأمية السياسية والاجتماعية"؟
بالنسبة لي السياسة لم تكن خياراً، كل ما أمشي خطوة للأمام وأرغب في تقديم فيلم عن الحب والضحك، في "أكاشا" مثلاً عام 2018، لم أجد سوىَ السياسة في خلفية أحداثي، أنتَ كفنان مرآة المجتمع ، ومن ثَم تعيش في مجتمع "لُقمة العيش" فيه مرتبطة بالسياسة والحب وكل شىء، عِشت كفنان في منطقة حرب وطيارات الأنتنوف تبصق قذائفها اللعينة على الناس في كل مكان، كيف ستكون أفلامي إذًا؟! رغم أن فيلمي الوثائقي "على إيقاع الأنتنوف" كان يحكي في الأصل عن الموسيقي ودُورها في حياة شعب يعاني من حرب أهلية.
وما هو تقييمك لمشهد السينما السودانية الآن بعد احتفاء وجوائز عالمية بثلاث أفلام انُتجت 2019؛ ستموت في العشرين، الحديث إلى الأشجار وأوفسايد - الخرطوم؟
الأفلام الثلاث رائعة، ولكن ليس لدينا صناعة سينما سودانية بل هناك سوادنيون تحمسوا للسينما، تلك الأفلام أنُتجت بمجهود ذاتي لمُخرجيها، وتم ذلك خارج السودان، والحكومة المحلية لم تدفع لهم شيئًا، هذه خطوة رائعة للشباب المتحمس الشغوف بالسينما في السودان، ولكن يُصبح لدينا صناعة عندما ننتِج أفلام محلية وتُنافس عالميًا، وهذا لن يتحقق الإ بتوفير مناخ يسمح بالتصوير بدًلا من السرية والمخاوف، والمُقاومة الدائمة التي واجهها صناع الأفلام الثلاث.
"السينما كانت مُراقبة ومُحاصرة بشدة من العهد البائد، كان لا يَسمح باختلاط الرجال والنساء مع عراقيل التصوير، وفقَدت السينما معناها وانهارت في السودان، ولم يتبق من حكم البشير سوى هياكل ثقافية"
بِصفة عامة، السينما كانت مُراقَبة، ومُحاصَرة بشدة من العهد البائد، كان لا يَسمح باختلاط الرجال والنساء مع عراقيل التصوير، وفقَدت السينما معناها وانهارت في السودان، ولم يتبق من حكم البشير سوى هياكل ثقافية ظاهرها مسرح وشاشات ولكن داخليًا هي قاعات VIP بكراسي فخمة لاجتماعات وندوات، ورجل واحد فقط يتحدث فوق المنصة.. وهذا هو مفهوم العساكر والإسلاميين عن الثقافة.
أخيراً، "لايُمكن تحقيق التغييرعبر ثورة مسلحة وانتخابات فقط ولكن نحتاج لصراعًا مبدعًا، متفائًلا وليس عدميًا .." صرحت بهذه العبارة بعد عرض فيلمك " أكاشا"، ما هو دوركم كشباب فنانين وسينمائين لوطن في مرحلة تحول ديمقراطي؟
التغيير سيتحقق عندما نعود لذاتنا ونعرف هويتنا وثقافتنا وموسيقانا ، ضاعت السودان عندما قضينا على التنوع الجميل الذي تميزت به، الغِنى والتنوع الثقاف والاجتماعي الذي حاول نظام البشير القضاء عليها بسبب العروبة والإسلام لنكون "أحسن عرب ومسلمين".
الثورة والفن هُما مرآتنا الحقيقية خلال السنوات المُقبلة، لنعود لهويتنا، وأكلنا، وثقافتنا، وذاتنا السودانية، ونفتخر، ونحتفي بها، ونستطيع وقتها إنتاج مئات الأفلام وإسطوانات الموسيقى والغناء الذي يُعبر بشكل حقيقي عن هذا الوطن.
الثورة الحقيقية لحجوج كوكا هي أن أكون واقعياً، ونَبني المكان الآمن بدون تزوير وخوف، ونجد أنفُسنا بدون ارتداء أقنعة .
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...