شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"مَن يعمل بها يؤاخي الشيطان"... قصة دخول المطبعة إلى بلاد المسلمين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 9 أكتوبر 202104:50 م

احتاج تغيير موقف المسلمين من المطبعة التي اخترعها يوهان غوتنبرغ، عام 1445، إلى ثلاثة قرون. لأسباب دينية واجتماعية، قوبل هذا الاختراع في الدولة العثمانية بمقاومة شديدة لم تتفتت قواها إلا عام 1728، عندما وافق آل عثمان على إنشاء أول مطبعة بحروف عربية.

يذكر جوناثان بلوم في كتابه "قصة الورق/ تاريخ الورق في العالم الإسلامي قبل ظهور الطباعة"، والذي ترجمه إلى العربية الدكتور أحمد العدوي، أن السلطان العثماني محمد الثاني الملقّب بـ"الفاتح" (1432- 1481) قاد نهضة واسعة، اشتملت على العناية بالمخطوطات اليونانية، والاستعانة بالفنانين الأوروبيين، واستخدام التقنيات الأوروبية في شتى الحرف والصنائع، لكنه لم يكترث لإنشاء مطبعة للدولة العثمانية خلال فترة حكمه.

والحقيقة أن المطبعة لقيت مقاومة عنيدة في الدولة العثمانية، فلم يتوجس منها العثمانيون خيفة فحسب، بل حظروها تماماً، فقد أصدر السلطان العثماني بايزيد الثاني، ثم سليم الأول من بعده فرمانين في العامين 1485 و1515 على الترتيب، يحظران فيهما على الرعية من المسلمين خاصة طباعة النصوص المكتوبة بالحَرف العربي، ولم يستثنيا من الحظر سوى الأقليات الدينية الأخرى، إذ سُمح لهم بطباعة النصوص العبرية وغيرها من اللغات.

تشويه الكتب الدينية

يقدّم الدكتور خليل صابات في كتابه "تاريخ الطباعة في الشرق العربي"، تفسيراً لهذا الرفض العثماني. يذكر أن ما حدا بسلاطين آل عثمان إلى الوقوف في وجه المطبعة والتصدي لنشاطها هو الخوف من أن يعمد أصحاب الغايات والأغراض إلى تحريف الكتب الدينية.

وكان هذا السبب كافياً لإجهاض أي محاولة لإدخال فن الطباعة إلى الآستانة ونقلها إلى ولايات الدولة شرقاً وغرباً. وبحسب الدكتور إبراهيم عبده في كتابه "تاريخ الطباعة والصحافة في مصر خلال الحملة الفرنسية 1798- 1801"، أبى رجال الدين أن تأخذ هذه الحرفة مكانها في الدولة العثمانية، واعتبروا أن كل مَن يحاول ذلك يؤاخي الشيطان في ما يذهب إليه ويسيء إلى دينه.

تهديد مكانة النُسّاخ

ويطرح بلوم تفسيراً ثانياً للفتور الذي أظهره العالم الإسلامي إزاء الطباعة والكتاب المطبوع، فضلاً عن طول المدة التي استغرقتها معرفة العالم الإسلامي بالطباعة، وهو تفسير اجتماعي يرتبط بالتوقير الذي أبداه المسلمون، لا سيما العلماء، للكلمة المكتوبة بخط اليد.

فقد تمتع الكتبة والخطاطون بمكانة اجتماعية واقتصادية وسياسية خاصة في المجتمعات الإسلامية، واحتكروا نقل النصوص وتكاثرها حتى القرن الثامن عشر الميلادي، عندما بدأ المسلمون بطباعة الكتب. ورغم معارضة بعض العلماء للطباعة، إلا أن العقبة الرئيسة تمثلت في معارضة الوراقين والنساخين خاصة.

وبحسب بلوم، قدّر الباحث البولوني لويجي فرديناندو مارسيغليLuigi Ferdinando Marsigli، الذي أسره العثمانيون واشتراه أحد الباشوات ثم أعتقه لاحقاً عام 1682، عدد النساخ العاملين في الآستانة وحدها بـ80 ألف ناسخ. ولا شك في أن إدخال الطباعة إلى بلادهم كان سيجعلهم في حكم العاطلين عن العمل.

ويذكر عبده في كتابه أن هذا الموقف المعارض للمطبعة بشقيه الديني والاجتماعي لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقته معارضة مشابهة في فرنسا، حينما لقيت المطبعة مكافحة عنيفة من رجال الدين الذين اعتبروا أن نشر الإنجيل مطبوعاً يقلل من قداسته، وأكدوا أن صناعة الطباعة أمر يجب أن تحرّمه الدولة، وأيدهم في هذا الاتجاه الناسخون الذين كانوا يعيشون على صناعة النسخ في ذلك الزمان.

غير أن ملوك فرنسا في أواخر القرن الخامس عشر لم يأخذوا بنظرية رجال الدين، ولم يستمعوا إلى شكاوى الناسخين وأيدوا بسلطانهم فكرة المطبعة التي من شأنها أن تعاون على نشر الثقافة الفرنسية. وانتقلت موجة القبول بالمطبعة من فرنسا إلى إسبانيا ثم إلى إنكلترا، ولقي أنصارها في البلدين الأخيرين ما لقوا في فرنسا من تعنّت.

إشكالية الحروف العربية المتصلة

تفسير عملي ثالث طرحه بلوم لتردد المجتمعات الإسلامية في تبني تقنية الطباعة ونشرها، مفاده أن استخدام الحروف العربية لم يقتصر على الكتابة باللغة العربية فحسب، بل اشتمل أيضاً على الكتابة باللغتين الفارسية والتركية، وهي اللغات الثلاث المحكية والمكتوبة بالأحرف العربية، والمنتشرة على معظم الرقعة الشاسعة التي شكَّلت العالم الإسلامي.

أبى رجال الدين أن تأخذ طباعة الكتب مكانها في الدولة العثمانية، واعتبروا أن كل مَن يحاول ذلك يؤاخي الشيطان في ما يذهب إليه ويسيء إلى دينه

وتتركز إشكالية هذه النقطة في أن تقاليد الكتابة العربية فريدة، لأن حروفها تُكتب دائماً متصلة، إذ يجب أن تتصل الحروف داخل كل كلمة، اللهم إلا باستثناءات يسيرة، ومن ثم يتميز النص بالوصلات بين معظم الأحرف في الكلمة، وكذلك بأشكال مختلفة للحرف في أول الكلمة ووسطها وآخرها... ولم تتطور طريقة للكتابة بالعربية بأحرف منفصلة قطّ، على نحو ما جرت به العادة في الكتابة بالأحرف المستقلَّة في العبرية واليونانية واللاتينية.

وبالتالي، كانت هناك مشكلات فنية تحيق بطباعة النص العربي جاءت مختلفة تماماً عن تلك المشكلات التي ظهرت عند طباعة أحرف الأبجديات الأخرى.

غير أن هذه المشكلة حُلَّت عندما سبك مصمم الخطوط الفرنسي وتاجر الكتب روبرت غرانجون Robert Granjon أول حروف عربية اتسمت بالأناقة في روما، بعد نحو قرن من اختراع غوتنبرغ. واشتق غرانجون أشكال حروفه من أفضل النماذج العربية المنسوخة بخط اليد، واستغنى عن الأحرف المركبة، مفضلاً استخدامها على نحو حر.

مطابع لغير المسلمين

والمفارقة أنه رغم المعارضة العثمانية الشديدة لفن الطباعة، سُمح للأقليات غير المسلمة بإنشاء المطابع، شريطة ألا تطبع بالحرف العربي. ويذكر الدكتور وحيد قدورة في كتابه "بداية الطباعة العربية في إستانبول وبلاد الشام/ تطور المحيط الثقافي 1706- 1787"، أن الجالية اليهودية انتزعت المبادرة فأسست مطبعة عبرية منذ نهاية القرن الخامس عشر، واستفادت من جو التسامح الديني السائد داخل الإمبراطورية للقيام بعدة أنشطة دينية وثقافية وسياسية برعاية الباب العالي، حتى عُرف القرنان الخامس عشر والسادس عشر بالعصر الذهبي لهذه الجالية.

وكان السلطان بايزيد الثاني (1418- 1512) قد سمح لليهود المطرودين من إسبانيا بالاستقرار في بلاده، ووفّر لهم كل الإمكانات الضرورية للعمل الثقافي والعلمي لفائدة جاليتهم. ومن ذلك أنه رخص لهم إقامة مطبعة سنة 1494، على ألا يصدروا كتباً بالحروف العربية واللاتينية. كما أسس اليهود على إثر هذا القرار مطبعتين في كل من إستانبول وسالونيك في نهاية القرن الخامس عشر، أي قبل قرنين كاملين من ظهور أول مطبعة عربية في العاصمة العثمانية.

ونسج الأرمن على منوال اليهود، فأقاموا أول مطبعة لهم بالحروف الأرمينية سنة 1567 في مدينة سيفا، أما اليونانيون فكانوا على موعد مع هذا الفن في إستانبول في سنة 1627.

وبالتوزاي مع ذلك، كان لبنان أول بلد عربي يعرف الطباعة، فقد جلب دير قزحيا سنة 1610 مطبعة وحروفاً سريانية من روما، وطُبع بها كتاب المزامير، وهو الكتاب الوحيد الذي طبع في هذه المطبعة، حسبما ذكر صابات في كتابه.

طيلة ثلاثة قرون، رفض العثمانييون السماح بإنشاء مطابع بالأحرف العربية، بسبب الخوف من أن يعمد أصحاب الغايات والأغراض إلى تحريف الكتب الدينية، ولأسباب أخرى

ولا يذكر المؤرخون الذين كتبوا عن تلك المطبعة شيئاً عن قصة اختفائها، وأكبر الظن أن أصحابها أهملوها بعد أن رأوا سيل الكتب المطبوعة في روما يتدفق عليهم دون عناء ويوزع على كنائسهم دون مقابل، فضلاً عن جودة طباعتها وحسن إخراجها. وظل لبنان بعد اندثار مطبعته الأولى أكثر من مئة سنة بدون مطبعة.

وبحسب قدروة، أقيمت المطابع بالحرف الأجنبي داخل الإمبراطورية العثمانية في المدة نفسها التي أُدخل فيها الفن المطبعي إلى فرنسا وإنكلترا وبقية البلدان الأوروبية، وهذا يدل على أن الباب العالي كان على دراية مبكرة بهذا الاكتشاف، لكنه لم يسمح باستعماله إلا للأقليات غير الإسلامية وبشرط عدم استخدام الحرف العربي.

ومع ذلك، يذكر قدورة أن مطبعة بالحرف العربي أنشأها البطريرك الأرثوذكسي أثناسيوس الثالث في مدينة حلب السورية عام 1706، ولم تعش سوى سبع سنوات، وتركز نشاطها في طبع الكتب الدينية المسيحية، والتي أودعت في الكنائس والأديرة ولم يتم تداولها في الأماكن العامة، خوفاً من أن يتسبب ذلك في استفزاز المسلمين الذين كانوا لا يقبلون الكتب العربية المطبوعة، علاوة على أنها مسيحية، كما أن السلطات العثمانية كانت تمنع ذلك.

وبحسب قدورة، فإن الوثائق لا تشير إلى أن السلطات العثمانية كانت مطلعة على مطبعة حلب.

محاولة فاشلة وأخرى ناجحة

رغم هذه المقاومة الشديدة، بُذلت محاولات لإدخال المطبعة العربية إلى الدولة العثمانية، فقد جادل المؤرخ والدبلوماسي العثماني إبراهيم بشوي، وهو سليل أسرة خدمت السلاطين العثمانيين لأجيالٍ خلت، في كتابه المسمى بـ"تاريخ بشوي إبراهيم أفندي" في الأربعينيات من القرن السابع عشر الميلادي، بأن المطبعة لم تعد شيئاً غريباً على المجتمع التركي، وأن المجتمع ينبغي أن يتقبلها بسبب السرعة التي يمكن أن تُخرج بها عدداً كبيراً من الكتب بمجرد الانتهاء من العمل الممل في تنضيدها.

لم تُسمع دعوة بشوي في وقتها، وبعد ما يقرب من ثمانين عاماً على وفاته، افتتح إبراهيم متفرقة أول مطبعة مملوكة للمسلمين في تاريخ الدولة العثمانية.

ويروي بلوم أن متفرقة قدّم عريضة للمشروع في مقال بعنوان "آلة المطبعة"، وجهها إلى الصدر الأعظم داماد إبراهيم باشا، تضمنت عرضاً رائعاً لفوات العلم في الإسلام بسبب عدم إتقان المسلمين للطباعة، والفوائد التي تعود على المسلمين والدولة العثمانية من إنشاء المطبعة. وتناول في مقاله كذلك الفوائد التي تعود على الرعية التي تحتاج إلى التعليم، وعلى الطبقات الحاكمة، وفائدة الاحتفاظ بالكتب من خلال طباعتها عندما تُباد المخطوطات بسبب الحرب كما حدث أثناء حرب استرجاع الأندلس واجتياح المغول للعالم الإسلامي.

ولم يُبدِ إبراهيم متفرقة اهتماماً يذكر بطبع المتون المثيرة للجدل من الناحية الدينية، ومن ثم لم يواجه معارضة كبيرة من جانب العلماء، بل حصل على فتوى من شيخ الإسلام بجواز طباعة الكتب.

وكما كان متوقَّعاً، يبدو أن المعارضة الرئيسة أتت من النساخ والخطاطين والوراقين، الذين رأوا في المطبعة تهديداً يوشك على قطع مصدر أرزاقهم.

ومع ذلك، أصدر السلطان أحمد الثالث فرماناً يأذن بفتح مطبعة متخصصة في موضوعات عملية محددة لا تتعداها إلى غيرها مثل الطب، والحرف والمهن، والجغرافيا، دون العلوم الإسلامية.

وأثمرت محاولة متفرقة الأولى في مجال الطباعة عن طباعة خريطة لبحر مرمرة في عامي 1719 - 1720، طبعها على الأرجح من خلال لوحات ومطبعة جلبها جميعاً من ڤيينا، وأهدى خريطته للصدر الأعظم. وعلى امتداد السنوات التالية طبع خريطتين إضافيتين، إحداهما للبحر الأسود عامي 1724- 1725، والثانية لبلاد فارس عام 1729 – 1730، فيما ظلت طباعة المصحف وغيره من الكتب الدينية محظورة.

وبعد وفاة إبراهيم متفرقة عام 1744، واصل نائبه وزوج ابنته القاضي إبراهيم أفندي عمله، وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، تمكن المسلمون الروس من طباعة المصحف كاملاً.

انتشار المطابع في البلدان العربية

فتح هذا التطور الباب لإنشاء مطابع عربية في مناطق أخرى. يذكر عبده أن كثيراً من الأديرة في لبنان تنافست على إنشاء المطابع العربية في النصف الأول من القرن الثامن عشر، من ذلك مطبعة الشوير التي أنشأها الشماس الكاثوليكي عبد الله زاخر عام 1734 في دير مار يوحنا الصايغ، ونقل إليها الحروف من روما، ووظف في خدمتها كثيراً من العمال البارعين، وكانت معظم مطبوعاتها كتباً دينية.

وكان التنافس الديني بين الأرثوذكس والكاثوليك الدافع الأول لإنشاء المطابع في الشرق العربي، ومن ذلك المطبعة التي أنشأها الأرثوذكس في بيروت في منتصف القرن الثامن عشر وقلدوا فيها حروف مطبعة الشوير، وكانت كل مطبوعاتها تقريباً من الكتب الدينية.

وبحسب صابات، لم تعرف مصر الطباعة بالحروف المتفرقة إلا من خلال الحملة الفرنسية، أي من سنة 1798 حتى 1801، فيما عرف العراق المطبعة سنة 1830، وفي السنة التالية دخلت الطباعة فلسطين، وأمر السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء مطبعة في صنعاء سنة 1877، وبعد ذلك بخمس سنوات أسست الحكومة العثمانية مطبعة في الحجاز.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image