شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عرض في إحدى رسائله تبادل السفراء مع إسرائيل... قراءة في وثائق الخارجية الأمريكية عن عبد الناصر

عرض في إحدى رسائله تبادل السفراء مع إسرائيل... قراءة في وثائق الخارجية الأمريكية عن عبد الناصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 15 يونيو 202111:00 ص

في مساء التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 1967، دخل المحامي الأمريكي جيمس بيردسال James Birdsall إلى مكتب جمال عبد الناصر بدعوة شخصية منه. كان بيردسال محامياً لشركة ALCO وله اتصالات واسعة بشخصيات بارزة في الحكومتين المصرية والأمريكية وسبق له أن التقى بعبد الناصر لكنه لم يكن ذا صفة رسمية.

كانت هذه الزيارة سرية لم يعلم بها حتى وزير الخارجية المصري. استغرق اللقاء ساعتين استمع خلالهما بيردسال إلى تفاصيل رسالة رسمية شفهية حمّله إياها عبد الناصر طالباً منه إيصالها إلى الرئيس الأمريكي ليندون جونسون شخصياً، وليس إلى أي مسؤول أمريكي آخر.

خرج بيردسال من اللقاء ليقدّم تقريراً مفصلاً إلى دونالد بيرغس Donald C. Bergus، القائم بأعمال المصالح الأمريكية في القاهرة، والتي كانت ترعاها السفارة الإسبانية، بعد قطع عبد الناصر للعلاقات مع أمريكا إثر الحرب.

يفصّل بيرغس في برقيته المرقمة 0915Z بتاريخ العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 1967 النقاط التي أرسلها عبد الناصر إلى جونسون في ما يلي:

ـ اشتكى عبد الناصر من تزايد الضغط الروسي عليه، ومطالبات الروس المتكررة باستخدام الإسكندرية كقاعدة للتزود بالوقود بشكل دائم، وتعاظم وجودهم داخل القوات المسلحة المصرية.

ـ قال عبد الناصر إنه على استعداد للموافقة على حالة عدم اعتداء مع إسرائيل بكل ما تحمله من تبعات. وأضاف أنه إذا دفعت إسرائيل تعويضات مناسبة للاجئين، فإنه على استعداد لتبادل السفراء معها.

ـ أبدى عبد الناصر ندمه الشديد على أخطائه في إدارة الأزمة في أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 1967. واعترف بأن المصريين هُزموا هزيمة ساحقة كان سببها الأساسي عدم معرفتهم بكيفية استعمال الأسلحة السوفياتية. كما عبّر عن ندمه على ما قاله سابقا في خطبه عن شن الولايات المتحدة حرب تجويع قائلاً إن هذه التصريحات صدرت لإرضاء السوفيات.

ـ أبدى رغبته في استئناف العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا وقال إنه سيحتاج بعض الوقت للتشاور مع بقية العرب الذين قطعوا علاقاتهم معها.

ـ قال إنه يتفهم أنه لن يكون هناك استئناف للمساعدات الأمريكية في المستقبل المنظور.

ـ أعاد الكذبة الكبرى، ةقال عبد الناصر إنه لم يتهم حكومة الولايات المتحدة إطلاقاً بالاشتراك في حرب حزيران/ يونيو. وزعم أنه ردد فقط ما قاله الملك حسين. (تعليق في البرقية: إذا كانت هذه هي الحقيقة، فلماذا قامت حكومة الجمهورية العربية المتحدة بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة؟).

أنهي بيرغس برقيته إلى الخارجية الأمريكية بقوله إن بيردسال سيتوجه إلى نيويورك ثم سيطلب لقاء مع الرئيس جونسون لاحقاً، وأضاف توصية بأن يتم ترتيب هذا اللقاء حتى ولو لفترة قصيرة قبل أن يُحال بيردسال إلى مستشاري البيت الأبيض.

لم يكن نص المحادثة الهاتفية بين عبد الناصر والملك حسين أثناء حرب حزيران/ يونيو متوفراً للرأي العام آنذاك، ولكنه بالتأكيد كان معروفاً للأمريكيين. ويمكن لأي مطلع الآن على تسجيل المحادثة الهاتفية بينهما أثناء سير العمليات العسكرية أن يسمع ما يناقض ادعاء عبد الناصر.

جونسون يستمع ويردّ

تنقلنا وثائق الخارجية الأمريكية إلى مشهد اللقاء بين بيردسال والرئيس جونسون الذي تم في الساعة 4:15 من مساء الـ18 من كانون الأول/ ديسمبر 1967. وفي برقية من وزير الخارجية الأمريكي دين راسك موجهة إلى قسم رعاية المصالح الأمريكية في القاهرة في الثالث من كانون الثاني/ يناير 1968، تم تلخيص فحوى اللقاء ورد جونسون كما يلي:

عبّر عبد الناصر في الرسالة التي حمّلها للسيد بيردسال عن أمله في أن يقوم الرئيس جونسون بالضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي المحتلة، وقال إنه على استعداد للقبول بحالة عدم اعتداء مع إسرائيل. كما عبّر عن أمله في حل لمشكلة اللاجئين مع ضمان بقاء إسرائيل. وعبّر عن أمله في أن يقوم الرئيس جونسون ببادرة حسن نية تجاه العرب، وقال إنه سيسعده أن يقوم بزيارة للولايات المتحدة الأمريكية.

في لقاء منفصل مع والت روستو Walt W. Rostow، مستشار الأمن القومي، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى وشمال إفريقيا والسفير السابق في مصر لوشيوس باتل Lucius D. Battle، بدا أن ذاكرة بيردسال كانت غير واضحة في ما يخص بعض تفاصيل اللقاء.

رد الرئيس جونسون برسالة مكتوبة تضمنت شكر الرئيس عبد الناصر على تمنياته الطيبة له ولعائلته بمناسبة العام الجديد وتأكيده على الرغبة المتبادلة في إعادة العلاقات الثنائية على أسس من الثقة والاحترام. وقال إنه استلم رسالته الشفهية من السيد بيردسال وخوّل السيد دونالد بيرغس أن ينقل رده الشفهي.

وتركز رد جونسون على النقاط التالية:

أكد على ضرورة تنقية الأجواء لبناء أسس لإعادة العلاقات وقال إنه مهتم بتوضيح ما حدث في الخامس من حزيران/ يونيو حتى لا يساء فهم دور الولايات المتحدة لأن العلاقات الدبلوماسية لا يمكن أن تبنى بمعزل عن الثقة. ولأنه من غير المقبول في علاقات الصداقة أن تكون هناك تصورات عن اشتراك أمريكي في الأحداث المؤسفة في الخامس من حزيران/ يونيو والتي خلفت خسائر في الأرواح ومشاق في الحياة، في الوقت الذي لم تكن للولايات المتحدة أيه علاقة بهذه الأحداث.

القول على الملأ لأمريكا أن تشرب من البحر الأبيض والبحر الأحمر وأننا سنوفر أموال المعونة "على الجزمة" يقابله لقاء سري مع محام أمريكي يحمّله الزعيم رجاء مستعجلاً بالإفراج عن شحنات القمح والموافقة على قروض لشراء الطعام

أبدى جونسون سعادته بقبول عبد الناصر بحالة عدم اعتداء مع إسرائيل وقال إن رده على طلب استعمال نفوذه هو أنه يدعم تماماً تنفيذ قرار مجلس الأمن الصادر في الـ11 من تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 ويدعو إلى التعاون مع الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه لتحقيق السلام. وقال إن السلام يتطلب انسحاباً إسرائيلياً إضافة إلى إنهاء حالة الحرب وكل دعاوى العدوان ضدها. وأكد جونسون أنه يشاطر عبد الناصر رغبته في حل عادل لأزمة اللاجئين. أما في ما يخص بادرة حسن النية فقال إنه لا يفهم بالضبط مقصد الرئيس عبد الناصر ويطلب توضيحاً. وأكد على أن تدهور العلاقات بين البلدين نجم في السابق عن سوء فهم لنوايا وسياسات الولايات المتحدة. أما في ما يخص زيارة عبد الناصر للولايات المتحدة فيمكن أن يتم ترتيبها خلال وضع اللمسات النهائية على تسوية بين العرب وإسرائيل.

الرد الأمريكي في لقاء غير معلن

في الـ12:30 من بعد ظهر السادس من كانون الثاني/ يناير 1968، دخل دونالد بيرغس مكتب عبد الناصر حاملاً رداً مكتوبا يحمل مجاملات معتادة، ورداً شفهيا على الرسالة الشفهية التي بعث بها عبد الناصر إلى جونسون مع بيردسال.

يصف بيرغس في برقيته عبد الناصر الذي كان يرتدي بنطلوناً واسعاً وبلوزة شتوية بأنه كان يبدو مرتاحاً وفي مزاج جيد، وقد تخلى عن مظاهر قلقه المعتادة مثل هز ركبتيه وطرقعة أصابعه ولكنه استمر في التململ في كرسيه يميناً ويساراً أثناء الحديث.

ويضيف في برقيته أن عبد الناصر كان ودوداً وسأله عن عائلته. وقال إن عينيّ عبد الناصر اتسعتا من فرط الاهتمام حين قرأ له نقاط الرد الرئاسي الأمريكي. وحين قال بيرغس إن القيادة الأمريكية ليست واثقة من محتوى رسالته وما هي الأجزاء من الرسالة التي قالها بالفعل، وأيها كانت من بيردسال نفسه، انفجر عبد الناصر ضاحكاً.

سلم بعدها بيرغس عبد الناصر ملاحظات مكتوبة كرد دبلوماسي غير رسمي، وبدأ عبد الناصر يرد على بعض النقاط بقوله:

ـ إنه لم يتقدّم بأية طلبات عن طريق بيردسال، وأضاف أنه لا يعتقد بوجود مشكلة مباشرة بين الولايات المتحدة ومصر، ولكن هناك قضايا غير مباشرة تعكر العلاقات بين البلدين. وأضاف أنه أكد لبيردسال رغبته في عودة العلاقات الدبلوماسية رغم أن هذا سيتطلب وقتاً، ولكنه سعيد بعودة الأمريكيين إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة وكذلك احتمال عودة شركة فورد أيضاً.

ـ قال بيرغس إن عبد الناصر أكد له أنه لم يصدر أي بيان رسمي باشتراك الولايات المتحدة في حرب حزيران/ يونيو رغم طلب القيادة العسكرية العليا منه ذلك في الخامس من ذلك الشهر، وأنه يجب التفريق بين ما ينشر في الصحافة والموقف الرسمي.

نرى مأساة رجل تسنم الزعامة في فترة هامة من تاريخ المنطقة العربية عن طريق تبني شعارات براقة تداعب آمال الجماهير من وحدة وحرية وبناء اقتصاد قوي ومستقل، وتحرير فلسطين كاملة، في وقت كان الواقع يفرض نفسه عليه ثقيلاً قاسياً في الغرف المغلقة

ـ أكد عبد الناصر أن موقفه من التسوية مع إسرائيل هو الاستعداد للقبول بإنهاء حالة الحرب في مقابل الانسحاب الإسرائيلي. وفي حال رفض إسرائيل الانسحاب فإن موقفه وواجبه يحتمان عليه أن يقوم بتحرير الأرض المصرية.

ـ أضاف عبد الناصر أنه أبلغ بيردسال بأنه يريد العدالة من الولايات المتحدة وأنه يفضلها على المعونات. وتحدث عن عودة العلاقات بناء على ثقة متبادلة وقال إنه "من المستحيل بالنسبة لي أن أقول الآن إن لدي ثقة كاملة في الولايات المتحدة. أظن أنه يمكننا أن نصل إلى تلك المرحلة ولكننا نحتاج وقتاً". وأشار إلى لقائه السابق مع بيردسال في عام 1966 والذي تحدث فيه عن مخاوفه من توجهات أمريكية للإطاحة بنظامه مشيراً حينها إلى قضية تجسس الصحافي مصطفى أمين لصالح المخابرات المركزية الأمريكية.

ـ أنكر عبد الناصر أنه طلب زيارة الولايات المتحدة، وقال إنه رد على فكرة بيردسال بخصوص الزيارة بالإيجاب. لكن بيرغس قال في برقية لاحقة في الثامن من كانون الثاني/ يناير إن عبد الناصر أبلغ وزير خارجيته محمود رياض أنه سعيد بنبرة ومضمون رسالة جونسون وأن جونسون ألمح إلى إمكانية زيارة عبد الناصر للولايات المتحدة.

انتهى اللقاء بشكل ودي وبالاتفاق على الاستمرار في المشاورات، وأكد عبد الناصر لبيرغس أنه مستعد للقائه في أي وقت ترغب به حكومة الولايات المتحدة. وأضاف بيرغس في تعليق ذيّل به برقيته أنه أكّد للحكومة المصرية استعداده لإبقاء هذا اللقاء مع عبد الناصر سرياً.

تاريخ من الشكوك

لم تكن تلك المقابلة بين عبد الناصر وبيردسال هي الأولى، فقد سبقتها مقابلة في عام 1966 تورد فحواها بالتفصيل برقية موجهة من وزير الخارجية الأمريكي آنذاك دين راسك إلى السفير الأمريكي في القاهرة لوشيوس باتل ومعنونة "إلى أنظار السفير فقط".

تقول البرقية إن المحامي بيردسال التقى عبد الناصر في الـ22 من تشرين الأول/ أكتوبر 1966 وإن المواضيع الأساسية للقاء تمحورت حول تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر، والطلب من الولايات المتحدة أن تبذل جهودها لحل أزمة اليمن. كما قدم عبد الناصر رجاء ملحاً باستئناف شحنات القمح إلى مصر وأعرب عن استعداده للتعاون لو تمت الموافقة على ذلك.

لكن النقطة الأساسية المطولة في البرقية تحدثت عن ادّعاءات "مثيرة للقلق" من قبل الرئيس عبد الناصر لبيردسال بوجود أدلة عنده على محاولات حكومة الولايات المتحدة الإطاحة بحكومته بل وحتى اغتياله شخصياً.

وفي رد مفصل، خوّل الوزير راسك السفير الأمريكي أن يلتقي بعبد الناصر وينفي نفياً قاطعاً أي تورط للحكومة الأمريكية في أية مؤامرات من هذا النوع. وطلب من السفير أن يقول لعبد الناصر إن هكذا أدلة يجب أن تكون موضع تدقيق من حكومتي البلدين، وإن أمريكا مهتمة بتوضيح هذا الموضوع بأسرع ما يمكن.

في هامش الوثيقة إضافة تشير إلى أن السفير الأمريكي التقى بعبد الناصر بالفعل في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 1966 وأثار معه موضوع رسالته التي حمّلها لبيردسال. وقال باتل إن عبد الناصر رد فوراً بأنه لا يعتقد أن السفير متورط في أي مؤامرة. ويضيف السفير أن المفاجأة والارتباك كانا واضحين على ملامح عبد الناصر. وحين ألح باتل في طلب الحصول على الأدلة التي تحدث عنها عبد الناصر حول مؤامرة اغتياله وتغيير نظام حكمه قال عبد الناصر إنه ليس بحوزته أية أدلة بخلاف قضية الصحافي مصطفى أمين. وحين استمر السفير في مناقشة الموضوع بدأ عبد الناصر يغيّر مسار الحديث إلى مواضيع أخرى وبدا غير مستعد لمناقشة أية تفاصيل.

تضيف الوثيقة أيضاً أن جيمس كريتشفيلد، من المخابرات المركزية الأمريكية، نفى بشكل قاطع وجود أية عملية للمخابرات في المنطقة يمكن أن ينطبق عليها وصف المصريين بأنها دليل على هكذا تآمر.

سأكون تحت تصرفك

في مذكرة مرفوعة من مستشار الأمن القومي والت روستو للرئيس جونسون بتاريخ 26 أيار/ مايو 1967، يذكّر روستو أن عبد الناصر أرسل رسالة إلى الرئيس عن طريق بيردسال في الـ12 من تشرين الأول/ أكتوبر 1966 يقول فيها إنه بحاجة ماسة إلى قرض لشراء الأغذية ويوصي بيردسال الإدارة بالموافقة.

كما يضيف أن بيردسال اتصل به في تمام الرابعة والنصف من الـ26 من أيار/ مايو 1967 ليملي عليه رسالة من عبد الناصر حملها للسيد صدّيقي، وهو رجل أعمال وممثل في جنيف لشركة ALCO التي يرعى بيردسال مصالحها القانونية، في لقاء في الـ24 من أيار/ مايو، ويقول إنه ناقل فقط لما سمعه.

تقول الرسالة إن عبد الناصر أكّد لصدّيقي أن المقصود بما يحدث الآن من تصعيد هو أن يثبت للعرب أن السعودية والأردن أصدقاء مزيفون وأن عليهم أن يتبعوا عبد الناصر. وقال إنه يريد تأكيداً من الرئيس جونسون على أن الولايات المتحدة لن تقوم بأي عمل عسكري كإنزال بحري، أو تغيير في مسار الأسطول مثلاً. وأضاف ناصر في رسالته أنه يريد أن يثبت للعرب أن الرئيس جونسون محايد ولن ينحاز إلى طرف في حرب الأعصاب هذه. وشدد على أن ما يحدث هو عودة إلى وضع عام 1956 وأن الجمهورية العربية المتحدة لا نيّة لديها للقتال. وأنه في حال وافق الرئيس جونسون على إعطائه هذه التأكيدات فإنه سيضع كل خدماته تحت تصرفه.

وجه آخر لعبد الناصر

في كل ما سبق من مشاهد رسمتها لنا وثائق الخارجية الأمريكية وأوراق مكتبة ليندون جونسون الرئاسية، نجد وجها آخر للزعيم ذي الكاريزما الذي يلهب الجماهير بخطبه المليئة بالتحدي. فالقول على الملأ لأمريكا أن تشرب من البحر الأبيض والبحر الأحمر وأننا سنوفر أموال المعونة "على الجزمة" يقابله لقاء سري مع محام أمريكي يحمله الزعيم رجاء مستعجلاً بالإفراج عن شحنات القمح والموافقة على قروض لشراء الطعام.

في هذه الصور نرى مأساة رجل تسنم الزعامة في فترة هامة من تاريخ المنطقة العربية عن طريق تبني شعارات براقة تداعب آمال الجماهير من وحدة كاملة وحرية من التبعية لأي قوة عظمى، وبناء اقتصاد قوي ومستقل، وتحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر. ولكن الواقع كان يفرض نفسه عليه ثقيلاً قاسياً في الغرف المغلقة حين تخفت أصوات الهتافات ويواجه حقيقة أن هذه الأحلام لا سبيل إلى تنفيذها بشكل فعلي على أرض الواقع.

حتى الرسائل التي مد فيها يده إلى أمريكا متراجعاً عن الكثير من مواقفه السابقة وعارضاً التفاهم وطي صفحة الماضي كانت شفهية. وكأن الخوف ليس فقط من الحاضر ولكن أيضاً من التاريخ.

هكذا، عاش الزعيم محاصراً بين الحلم والواقع، فلم يستطع تحقيق الحلم ولا تغيير الواقع وقضى نحبه وقد تحوّل الحلم إلى سراب، والواقع إلى حقيقة مرة يتجرعها العرب حتى الآن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image