شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
سافروا دون علم رئيسهم وحكومتهم... كيف فرض ضباط سوريا قرار الوحدة مع عبد الناصر؟

سافروا دون علم رئيسهم وحكومتهم... كيف فرض ضباط سوريا قرار الوحدة مع عبد الناصر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأحد 8 نوفمبر 202009:18 ص

عقب ثلاث سنوات على الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، كانت سوريا لا تزال منتشية بتجربتها النضالية والسياسية التي أفرزت كتلاً حزبية ذات مشاريع آخذة في طريقها للتبلور، حين فرض العسكر وجوده فيها بانقلاب هو الأول في العالم العربي، قاده الضابط حسني الزعيم في الثلاثين من آذار/ مارس 1949.

وبعد أربعة أشهر فقط، شهدت سوريا انقلاباً جديداً قاده العقيد الحلبي سامي الحناوي، ليصل لاحقاً إلى الحكم العقيد الحموي أديب الشيشكلي، وبذلك أصبحت سوريا تحت الحكم المباشر للعسكر.

حسني الزعيم 

تشير مذكرات كتبها كل من خالد العظم، وهو الرئيس المؤقت لسوريا بين 4 نيسان/ أبريل و16 أيلول/ سبتمبر 1941 ولاحقاً رئيساً لست حكومات مروراً بتوليه عشرين حقيبة وزارية، والسياسي الحموي أكرم الحوراني، وهو رئيس ومؤسس "الحزب العربي الاشتراكي" الذي اندمج لاحقاً مع "حزب البعث العربي" (صلاح البيطار وميشال عفلق) ليشكلا معاً "حزب البعث العربي الاشتراكي"، إلى أن معظم هذه الانقلابات أتت بتخطيط خارجي، لعبت الولايات المتحدة الأمريكية الدور الرئيسي فيه.

خالد العظم 

يتحدث العظم الذي كان وزيراً للدفاع في سنوات ما قبل الوحدة، في الصفحة 271 من مذكراته التي حملت عنوان "مذكرات خالد العظم" وصدرت عن دار المتحدة للنشر عام 1973، عن مرحلة الانقلابات، محملاً نفسه وآخرين مسؤولية ما فقدته البلاد من سيادة واستقلال.

يقول العظم: "أُحمّل الجيش بكل مَن فيه من أركان وضباط وصف ضباط المسؤولية الكبرى لأنه هو مَن سيطر على البلاد بين عامي 1943 و1958"، ويضيف: "تسلطت على الحكم طبقة من الشباب لم يجدوا سبيلاً للحصول على الشهادات المدرسية العادية فولوا وجوههم شطر المدرسة العسكرية في حمص، وهي التي ما كانت تطلب من الطلاب أكثر من الدوام سنتين، وتُسهّل لهم الحصول على شهادتها، فيتخرج الضابط منها بنجمة واحدة يعتقد أنها كوكب ذري فيسير على الأرض الخيلاء وينظر إلى المجتمع نظرة العدو الحسود وإلى المدنيين نظرة الاستعلاء، فهم كلهم في نظره خونة وعملاء وإقطاعيون".

أسس حكم العسكر لسوريا الانقلابية التي كانت تغفو على رئيس وتصحو على آخر. لكن في 18 كانون الثاني/ يناير 1958، انتقل عسكر سوريا إلى مرحلة جديدة في فرض خياراتهم على الدولة. توجهوا نحو القاهرة ليطلبوا الوحدة مع مصر، على عجالة ومن دون دراسة لآلياتها وشروطها، مكان أن أتت لاحقاً غير مشروطة ولصالح الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي حوّل سوريا إلى فناء خلفي لحكمه.

ما قبل الوحدة

كانت الميل للوحدة مع مصر يتأرجح بين مد التودد بين البلدين أحياناً، وجزر المجافاة أحياناً أخرى، حتى زار حلب أنور السادات، بصفته رئيس مجلس الأمة المصري آنذاك، مُكلَّفاً من عبد الناصر لقراءة المزاج العام السائد، لا سيما بعد تصريح أدلى به رئيس حزب البعث العربي الاشتراكي ميشال عفلق، في بدايات عام 1957، أكد فيه أنه وبعثييه قادرون على إتمام الوحدة خلال أسبوعين وفي أي لحظة.

ميشال عفلق (إلى اليمين) مع سامي الحناوي ويظهر إلى اليسار صلاح الدين البيطار.

زار السادات حلب في أواسط تشرين الثاني/ نوفمبر 1957، في ظل أوضاع سياسية واجتماعية متأزمة للغاية بفعل بروز نجم الشيوعيين كحزب ذي قاعدة جماهيرية آخذة بالاتساع، برئاسة خالد بكداش، فيما كانت المخاوف تتزايد من وصول الفريق عفيف البزري إلى رئاسة الأركان، ولاحقاً إلى قيادة الجيش، بسبب قربه من الشيوعيين.

عن تلك المرحلة، تحدث في معرض شهادة مسجلة له ضمن برنامج "شاهد على العصر" على قناة "الجزيرة"، أحمد أبو صالح، وهو عضو قيادة قُطرية سابق في "البعث" ووزير لأربع مرات وعضو في "المجلس الاتحادي القومي" (مجلس مصري-سوري).

"سهرنا وشربنا وتسلينا قبل أن نأخذ القرار ونركب الطائرة دون أن نبلغ الرئيس أو وزير الدفاع أو حتى رئيس الحكومة"... تفاصيل توجه ضباط سوريين إلى القاهرة لطلب الوحدة مع مصر من دون دراسة لآلياتها وشروطها، قبل فرضها على الجهاز السياسي

يقول أبو صالح: "وصل (البزري) إلى منصب رئيس الأركان، وحينها لأول مرة يكون خالد بكداش في المجلس النيابي، وهم (الشيوعيون) كحزب كانوا منظمين فعلاً أي قادرين على أن يقودوا تظاهرات وقادرين على أن يمارسوا نشاطات، فمثلاً عمر السباعي (القيادي الشيوعي وعضو اللجنة المركزية والمكتب السياسي والذي اعتقل طيلة فترة الوحدة وتعرض لأقسى أنواع التعذيب) وآخرون من الحزب الشيوعي كانوا قادرين فعلاً على تنظيم الإضرابات".

أحمد أبو صالح

يُخبر أبو صالح أن البعثيين كانوا يعملون للوحدة لفترة غير قصيرة قبل قدوم السادات لتهيئة الجو الشعبي لها، رغم قلة عددهم، لا سيما في حلب، كبرى المدن السياسية والمالية في سوريا.

"الوحدة هي الحل لكل مشاكل البلد وتحديداً السياسية وخاصة لمواجهة أعداء سوريا، وخاصة الأتراك لأنهم حشدوا على الحدود السورية. أنا كنت من الناشطين في هذا الحقل، أي كنا نعقد الاجتماعات في الأحياء القديمة الفقيرة المتطرفة، وفي الريف، كنا هناك ندعو للوحدة ولعبد الناصر، معاً"، يروي أبو صالح. 

يتضح من مذكرات وشهادات عدد من سياسي تلك المرحلة أن المناخ في تلك الفترة كان داعماً للوحدة بصورة أو بأخرى، وكان مرهوناً بشكل أساسي بقرار العسكريين الذين فرضوا هيمنتهم على مفاصل القرار في البلاد، وبالتالي لم تحتج قراراتهم لأي تأييد من خارج المؤسسة العسكرية ذاتها.

ولعب محمود رياض، سفير مصر وقتذاك في سوريا، دوراً داخل الجيش السوري، تُرجم لاحقاً في القرار العسكري الارتجالي الذي فُرض بالقوة على القيادة السياسية، حين ذهب العسكر باتجاه طلب الوحدة الفوري، على غفلة من رئيس الجمهورية شكري القوتلي وحكومته ووزير دفاعها خالد العظم.

مجلسٌ للعسكر وحكومة هامشية

تشكّل في سوريا قبل الوحدة مجلس سُمّي بـ"مجلس القيادة العسكرية للجيش والقوات المسلحة"، بعد اتفاق بين الضباط الكبار على ضمان استقرار البلاد وتقرير مصيرها وتقرير أوضاع سياسييها.

تكوّن المجلس من 23 ضابطاً، هم نفسهم من فرضوا لاحقاً الوحدة بالقوة على حكومة بلادهم. أبرز هؤلاء كان قائد الجيش والأركان الفريق عفيف البزري، ومعه نائب رئيس الأركان العميد أمين النفوري، ورئيس الشعبة الأولى المقدم مصطفى حمدون، ورئيس الشعبة الثالثة المقدم أحمد عبد الكريم، والمقدم حسين حدة والمقدم بشير صادق من وحدات المشاة، بالإضافة إلى قائد الجبهة مع فلسطين المقدم أكرم الديري، وقائد البحرية المقدم جمال الصوفي، وضابط الإشارة المقدم جاسم علوان، والمقدم أمين الحافظ.

اللافت أن عبد المحسن أبو النور، الملحق العسكري لمصر في سوريا في تلك الفترة، كان جزءاً من المجلس، ونادراً ما كان يعقد الأخير أي جلسة من دون أن يكون أبو النور حاضراً فيها.

إذن، كانت نية الوحدة العسكرية مع مصر قائمة، لكنها كانت مؤجلة بفعل نقاشات كثيرة، حتى قرر الضباط عقب إحدى السهرات، وبارتجال واضح، أن يسافروا إلى القاهرة معلنين جهوزيتهم للوحدة.

هؤلاء الضباط كانوا يمثلون جناحين رئيسيين هما الاشتراكيين من جهة، ومن جهة أخرى المستقلين أو الحياديين وهم كتلة قائمة بحد ذاتها تضم بقية الضباط غير الاشتراكيين. وكان يوجد في الجيش تكتلان صغيران لم يتمكنا من التأثير في مجريات الأمور لقلة نفوذهم وتواجدهم وهما تكتلا "الشيوعيين" و"الدمشقيين".

وسُجّل للضباط في الجناحين الرئيسيين بأنهم خططوا للوحدة وقاموا بالتهيئة لها وهيكلتها وتنفيذها دون الرجوع للقيادات السياسية، حتى أن رئيس الجمهورية آنذاك ووزراء حكومته لم يكونوا على علم بالمخطط.

السبب المباشر

يورد باتريك سيل في كتابه "الصراع على سوريا"، وتحديداً في الصفحتين 417 و418 منه، أن قصة الوحدة كلها بدأت إثر خلاف كبير نشب بين ضابطين رئيسيين في سوريا، ضمن المجلس العسكري، وشهر كل منهما سلاحه في وجه الآخر. لم يُسمِّ سيل الضابطين لكنه أشار إلى أن ما حصل كان ناجماً عن اختلاف الكتل السياسية داخل الجيش، ما جعل الضابطين يقبلان بالاحتكام لقائد القوات المصرية عبد الحكيم عامر كصديق للسوريين، لحل هذا الخلاف، وكان هذا سبباً رئيسياً لتوجهم لاحقاً إلى القاهرة.

في برنامج "شاهد على العصر" الذي عرضته قناة "الجزيرة"، تحدث عبد الكريم النحلاوي بدوره عن تلك المرحلة. والنحلاوي هو قائد عملية الانفصال، وكاتم الأسرار العسكرية، ومدير شؤون الضباط، ومدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر.

يقول النحلاوي إن الضباط القائمين بالوحدة لم يكونوا ممثلين عن كل الجيش، فـ"الظروف التي جمعتهم والوحدات التي كانوا يقودونها كانت مصدر قوة الكتلتين، الاشتراكية والحياديين، والوحدات الأساسية التي كانت مصدر قوتهم هي المدرعات"، مشيراً إلى أن البزري كان له الدور الفصل في توحيد هؤلاء الضباط معاً والتوجه بهم إلى القاهرة.

وفي السياق، يُذكر أن عبد الناصر كان قد اتهم البزري في سنوات ما قبل الوحدة بأنه يخطط لانقلاب شيوعي داخل سوريا، إلا أن ذلك لم يمنع الأخير من تناسي ذاك الاتهام، معتقداً لكونه قائد الضباط الوحدويين أن عبد الناصر سيكافئه، لكن المكافأة جاءت على شكل إعفاء من منصبه بعد شهر من الوحدة بقرار صادر عن عبد الناصر نفسه.

في الصفحة 108 من مذكراته الصادرة عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" عام 2001، بعنوان "الحقيقة عن ثورة يوليو"، ينقل الملحق العسكري المصري في سوريا قبل الوحدة، عبد المحسن أبو النور، عن المقدم أمين الحافظ وهو أحد ضباط اتفاق القاهرة قوله: "إذا أمرني جمال عبد الناصر بضرب دمشق بالقنابل فلن أتردد في ذلك".

وبالعودة إلى كتاب سيل، فإنه يتحدث في الصفحة 416 فيه أيضاً عن أسباب حماسة الضباط للوحدة. يقول: "جميع الضباط لم يكونوا من أنصار الوحدة الغيورين بل كان الاتحاد مع مصر يبدو في نظرهم أفضل ضمانة لاستمرار حكمهم للبلاد، وبات الكثير منهم يؤمنون بأن الاتحاد سوف يشجعهم على تأسيس مجلس للثورة على غرار النسق المصري/ مجلس قيادة الثورة في مصر". 

وحول أسباب حماسة الضباط تحدث كذلك النحلاوي مشيراً إلى أنهم ذهبوا إلى القاهرة لسببين "الأول للتخلص من الصراع الذي كان موجوداً بينهم، والثاني شعورهم بأن تحقيق الوحدة مع مصر سيكون مصدر قوة لسوريا".

الرئيس نائماً وضباطه في القاهرة

يروي الفريق أمين الحافظ، وهو رئيس الجمهورية بين عامي 1963 و1966 في شهادة له، في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة، ما جرى ليلة السفر إلى القاهرة: "حين  بدأ الاجتماع في مجلسنا لم يكن هناك أي تخطيط لأن تكون نهايته الذهاب إلى مصر، وإنما سهرنا وشربنا وتسلينا قبل أن نأخذ القرار ونركب الطائرة دون أن نبلغ الرئيس أو وزير الدفاع أو حتى رئيس الحكومة".

ويقول النحلاوي من جهته: "الضباط كانوا يتصرفون كما يشاؤون وفي الوقت نفسه كانوا مَن يحددون موضوع الحكم، أي يتدخلون في موضوع الحكم باستمرار، لذلك حين صارت هذه الصراعات كانت الحكومة على اطلاع ولكنها لا تستطيع أن تتدخل في ما بينهم، أي كان الضباط يقومون بما يشاؤون مع الجيش والبلاد".

بعد ضغوط عسكرية، أُجبر الرئيس السوري وحكومته على التوجه إلى القاهرة لتوقيع ميثاق الوحدة مع مصر... يقول وزير الدفاع السوري الأسبق خالد العظم في مذكراته إنه "تم سوقهم كالأغنام"

ويكمل النحلاوي في شهادته أن الضباط بعد وصولهم إلى القاهرة انتظروا 48 ساعة قبل مقابلة عبد الناصر، إلا أن أبو صالح يقول إن المدة كانت أربعة أيام. ويتفق الاثنان على أن شرطَيْ عبد الناصر عند لقاء الوفد كانا حل الأحزاب السياسية فوراً، ومنع تدخل الجيش في السياسة والسلطة، أي أن يخرج الجيش من السياسة بعد أن يتم مهمته بإجراء الوحدة، ويعود عبد الناصر لينظّم الحكم ويسلّم المناصب، وهو ما جرى لاحقاً حين سلّم بعض الضباط مناصب رفيعة كالسراج واستبعد آخرين كالبزري، وفق معايير مختلفة بدا أبرزها الولاء له بشكل شخصي.

مذكرة الضباط

يروي محمد حسنين هيكل في كتابه "الانفجار" الصادر عام 1967 عن "مركز الأهرام للنشر"، نقلاً عن محضر الاجتماع المحفوظ في "منشية البكري" (منزل عبد الناصر وقتذاك) ما جرى حين سلّم الضباط لعبد الناصر المذكرة التي كتبوها على عجل لطلب الوحدة الفورية منه.

لم تجد المذكرة طريقها إلى النشر حتى اليوم، باستثناء شهادات ضباط  من تلك المرحلة عن مضمونها المتعلق بالوحدة بشكل عام.

يروي هيكل أن عبد الناصر أمسك بالمذكرة ووضعها تحت منفضة على الطاولة، قائلاً: "الموضوع أخطر من أية أوراق أو مذكرات، وأنا سمعت من عبد الحكيم (عامر) ملخصاً عما تحتويه هذه المذكرة، ولن أقرأها أمامكم الآن، وإلا كنا نقفز إلى النتائج دون أن نتحرى مقدماتها وأسبابها، أنا أرسلت لكم وجهة نظري في موضوع الوحدة، وأخبرتكم أننا لسنا مستعدين لها قبل خمس سنوات، ولا أعرف ما الذي استجد خلال الأسبوعين الأخيرين بما يدعوكم الآن للمطالبة بالوحدة الفورية".

ثم ينقل هيكل عن السوريين ردّهم قائلاً: "وصفوا الفرقة بينهم، وأنها أدت إلى إعلان حالة الاستنفار الدائمة في الثكنات، لأن كلًا منهم يتوجس من الآخر والبلد يمكن أن تضيع في ما بينهم، وبين أخذ ورد وحوارات طويلة، عرض فيها السوريون أسبابهم ومخاوفهم، وافق عبد الناصر على ما جاؤوا من أجله".

حكم سوريا بأي ثمن

"المفروض كان بالرئيس عبد الناصر عندما استقبلهم ألا يقبل استقبالهم من دون الجهاز السياسي، رئيس الجمهورية والحكومة والبرلمان، كيف وافق عبد الناصر ووضع عليهم شرطين لقبول الوحدة بحل الأحزاب السياسية وإبعاد الجيش عن السياسة؟ إذاً، كان متفقاً معهم على هذه الشروط"، بحسب ما ورد في شهادة النحلاوي الذي يوضح أنه عندما عاد الوفد العسكري إلى سوريا تقدم العميد أمين النفوري ( كان من الكتلة الحيادية) بمذكرة إلى رئيس الجمهورية شكري القوتلي يعرض عليه المشروع الذي اتفق الضباط مع الرئيس عبد الناصر بشأنه، فاستغرب القوتلي حصول الأمر من دون حضور "الدولة الرسمية"، واصفاً ما جرى بالانقلاب، وانتهى الموضوع عند هذا الحد.

يتماشى ما رواه النحلاوي مع ما أورده العظم في مذكراته بأنه سأل النفوري حين التقاه: "أما كان الأولى بكم أن تخبروا حكومتكم وتدرسوا الأمر قبل أن تذهبوا للقاهرة؟"، فأجابه النفوري بلا مبالاة: "هذا ما حدث". كما سأل البزري عن الأمر فرد الأخير: "لم يكن لدينا وقت لنراجعك أو نراجع الحكومة".

الرضوخ للقوة

قبل الدخول في تفاصيل الضغوط العسكرية التي دفعت برئيسي البلاد والحكومة للتوجه إلى القاهرة بهدف توقيع ميثاق الوحدة الذي تم الاتفاق عليه دون علمهما، من المهم فهم كيف كانت موازين القوى قائمة حينها وما كان موقف الحكومة من الوحدة وشكلها آنذاك.

يقول خالد العظم، وزير الدفاع قبل الوحدة، في الصفحة 128 من مذكراته: "مجلس الوزراء كان ينظر إلى أمر الوحدة بتمهل ودراسة وأوفدوا وزير الخارجية وقتذاك صلاح البيطار إلى مصر لبحث الأمور مع عبد الناصر والسفير المصري محمود رياض... وأبلغهما أن الأمر بحاجة إلى دراسة".

ما يمكن استنتاجه من مذكرات العظم، بوصفه وزيراً ورئيس حكومات عدة، أن فكرة الوحدة بحد ذاتها كانت قائمة ومطروحة على الدوام، لكن الخلاف في الرأي كان حول شروطها وآلياتها وموعدها بين العسكريين المستندين على قوتهم العسكرية، والحكومة التي كانت تنظر للأمر بعين السياسة والروية في انتظار نضوج الفكرة وبلورة معالمها قبل الخوض في أي مشروع اندماجي مع دولة أخرى.

كان الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1961، حين أعلن من "إذاعة دمشق" العقيد عبد الكريم النحلاوي انقلابه على جمهورية الوحدة الأولى، ليخرج الناصريون من الشام ويتركوها حطاماً سياسياً واجتماعياً.

يقلّل النحلاوي من شأن موقف الحكومة ويعتبر أنها رضخت بالقوة، قائلاً: "العسكريون تجاوزوا موضوع السياسيين ولم يهتموا برأيهم إنما وضعوا عبد الناصر ووضعوا البلد والسياسيين تحت الأمر الواقع"، ويستدرك: "الوحيد من السياسيين الذي كان لا يرغب بتحقيق الوحدة مباشرة وإنما التوجه إلى اتحاد فيدرالي هو خالد العظم".

بعد لقائهم بعبد الناصر في القاهرة، بدت الحقيقة الواضحة بأن العسكريين لم يولوا أي اهتمام لما تراه الحكومة وسياسيو البلد، وكانوا في لحظة اتخاذ القرار الارتجالي غير مبالين برأي الشرعية السورية حينها، وحصولهم على موافقة عبد الناصر قد يدفعهم لفرض الوحدة على الحكومة بالدبابات لو لزم الأمر.

صار هناك ازدواج في السلطات السورية: سلطة عسكرية بفعل الأمر الواقع، وأخرى سياسية تنفذ المقررات العسكرية المتخذة خارج التراتبية الهيكلية للدولة السورية المنهكة من كثرة الانقلابات. ورغم أن وزير الدفاع خالد العظم كان مسؤولاً عن الجيش، إلا أن هذا الأمر كما اتضح كان على الورق، ونظرياً تماماً، فالحكومة في فلك، والعسكر في فلك آخر، ولا يجمع بين الاثنين شيء، باستثناء أن الجيش يقيل رئيساً ويعين آخر وينقلب على ثالث. وفي كل الأحوال كان الرئيس صورياً، كحال القوتلي تماماً.

وقتذاك، كانت الدبابة تحكم الدولة، وظل الأمر على حاله حتى تولى أمين الحافظ سدة الحكم بعد الانفصال. ومع أن الخلافات عادت لتظهر مجدداً، لكنها كانت هذه المرة بين العسكر الذين صاروا جزءاً من الحكومة، فالحافظ نفسه، وزير الداخلية بداية عام 1963، أحبط بقوة النار محاولة انقلاب الناصري الوحدوي جاسم علوان.

حفظ ماء الوجه... ولو بالإكراه

بعد أخذ ورد وضغوط عسكرية، أُجبرت الحكومة السورية مع رئيس الدولة على التوجه إلى القاهرة لتوقيع ميثاق الوحدة. يقول العظم في مذكراته إنه "تمّ سوقهم كالأغنام" (يقصد الحكومة والرئيس) إلى القاهرة، لإتمام اتفاق الوحدة الذي يصفه الزعيم البعثي أكرم الحوراني في مذكراته بأنه كان يحمل الخلافات الكبيرة منذ اللحظة الأولى.

القوتلي وعبد الناصر يوقعان ميثاق الوحدة.

"دبّ الخلاف منذ الاجتماع الأول بين اللجنتين المصرية والسورية اللتين كُلِّفتا بوضع مبادئ الوحدة، وكان ممثلو الجانب السوري قائد الجيش الفريق عفيف البزري، ورئيس مجلس قيادة الجيش المقدم بشير صادق، ورئيس الشعبة الأولى للمخابرات المقدم مصطفى حمدون، وقائد الجبهة الفلسطينية المقدم أكرم الديري، والمقدم حسين حده والمقدم عبد الغني قنوت. وعن الجانب المصري كان هناك المشير عبد الحكيم عامر، ووزير الحربية عبد اللطيف البغدادي، وضابط القوات البرية خالد محيي الدين ورئيس مجلس الأمة أنور السادات"، بحسب الحوراني.

الثأر من الوحدويين

أول ما فعله عبد الناصر بعد الوحدة كان إقالة البزري من رئاسة الأركان وقيادة الجيش، علماً أنه مهندس الوحدة وقائد طيارة الضباط إلى القاهرة. تهمة البزري وقتها كانت انتقاد السياسة الوحدوية الناصرية في الإقليم الشمالي، ما زرع أولى بذور الشك في صفوف أهل الوحدة في سوريا.

القوتلي وعبد الناصر

بحسب النحلاوي، "بدأ التذمر وبدأت الشكوك مع إقالة الفريق عفيف البزري عندما انتقد القيادة على إجراء التعديلات والتعيينات والانتدابات والتسريحات دون أخذ رأيه أو مشورته حتى، وقال لهم: ′لا تزال الوحدة في شهرها الأول وقمتم بكل الإجراءات هذه وأنا قائد جيش دون أن تخبروني أو تأخذوا رأيي أو تطلعوني على الأمور هذه′. كان في مصر، أبقوه في مصر حتى صدر أمر بعزله".

وقّعت الحكومة السورية على الوحدة في الأول من شباط/ فبراير عام 1958، وفي الخامس من الشهر نفسه، أي بعد أربعة أيام، صادق مجلس الأمة في الدولتين على الوحدة، وفي 22 شباط/ فبراير تم إعلانها، على شكل اندماجي أفضى بسوريا إلى حال سيئ على كافة الصعد.

اعتباراً من ذلك التاريخ، دخلت سوريا نفقاً مظلماً، يكفي أن يقال فيه إن حاكمي إقليم الشمال كانا المشير عبد الحكيم عامر وعبد الحميد السراج المعروف بـ"السلطان الأحمر" واللذان جعلا مع عبد الناصر سوريا أرضاً خاليةً من الأشخاص الذين يمكن أن يكون لهم رأي، إذ شاع أن كل مَن يقول رأيه سيكون مصيره زنازين السراج وأقبيته المخيفة، بحسب روايات ظلت عالقة في أذهان السوريين عن رئيس المكتب الثاني الذي كان سفاحاً في حق أبناء بلده، والتهمة على الدوام جاهزة: "معاداة الوحدة".

نهاية الوحدة

حملت الجمهورية الوليدة اسم "الجمهورية العربية المتحدة" برئاسة عبد الناصر، ينوب عنه في الإقليم الشمالي عامر، ويقوم بكل أعماله وزير الداخلية ورئيس المكتب الثاني للاستخبارات العسكرية السراج، واستمر هؤلاء الثلاثة في حكم سوريا حتى كادت تنفجر البلاد بممارسات القمع والإذلال والإهانة للسوريين، عسكريين ومدنيين.

استمر الأمر على هذه الحال حتى الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر من عام 1961، حين أعلن من "إذاعة دمشق" العقيد عبد الكريم النحلاوي انقلابه على جمهورية الوحدة الأولى، ليخرج الناصريون من الشام، ويتركوها حطاماً سياسياً واجتماعياً دفعت سوريا ثمنه في سنوات لاحقة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image