في حديث له مع قناة العربية في فبراير 2015، اعترف الفنان عمر الشريف، بأن المخابرات المصرية في عهد صلاح نصر، كلّفته بعملية "قذرة"، تبدأ بإقامة علاقة مع فتاة- فنانة شهيرة- تمهيداً للوصول إلى والدها وتصفيته، لأنه كان من خصوم الدولة الناصرية.
يحكي عمر أنه ذهب للسفارة المصرية بلندن لمقابلة ضابط مخابرات طلب رؤيته، وهناك تم تكليفه بالأمر، فأبدى قبولاً مبدئيّاً، لأنه لم يكن يمتلك رفاهية الرفض، حسب قوله، شارحاً: "سمعة الاستخبارات حينها كانت مقرونة بالتصفية والترويع"... وكان جزء من عملية التمويه أن يسبّ عبد الناصر علناً، ويصل سبابه لوالد الفتاة/ الهدف المنشود، ليطمئن إلى أن الفنان المصري على خلاف مع نظام الحكم في بلاده.
لم يكن عمر يتصور أن العملية ستنتهي بالقتل، فتحجج أمام الضابط فيما بعد بأن إقامته علاقة مع امرأة أخرى غير فاتن حمامة، زوجته حينها، ستهدد استقراره الأسري تماماً... في النهاية اعتذر عمر عن المهمة وتقبّل رجل المخابرات اعتذاره ببساطة.
هل يمكن أن يُصدق أحد أن تكون مخابرات الوحش الكاسر صلاح نصر، بهذه المرونة والاستيعاب؟
إذا كان صلاح نصر قد حوّل جهاز المخابرات إلى عصابة منحرفة تسفك الدماء وتسبي النساء ولا يُعصى لها أمر، فلم تكن أبداً لتقتنع بما ساقه الشريف من أعذار في سبيل تحقيق أغراضها.
نعود إلى صلاح نصر، الأب الروحي لجهاز المخابرات العامة المصري، الذي شهد عهده عمليات ناجحة، واشتغل الجهاز أثناء رئاسة الرجل لأول مرة بشكل علمي، فاخترع فكرة إنشاء شركات كـ"النصر للاستيراد والتصدير"، لتكون ستاراً لأعمال الجهاز والاستفادة منها في تمويل عملياته.
كان محسوباً على جناح المشير عبد الحكيم عامر، قائد الجيش المصري الذي انهزم وانتكس في حرب يونيو 1967، وهو صاحب البناء الحقيقي لواحد من أقوى أجهزة مخابرات المنطقة، ورغم جهود زكريا محيي الدين، أحد الضباط الأحرار والذي عهد إليه عبد الناصر بمهمة تأسيس الجهاز عام 1954، فإن مرحلة رئاسة صلاح نصر للمخابرات من 1957 حتى 1967، يؤرَّخ لها باعتبارها الانطلاقة القوية للجهاز، لكن للأسف، بعد كل هذا التاريخ كان مصير الرجل وراء القضبان، لاتهامه في قضية انحراف المخابرات الشهيرة والمُلغزة في آن.
لكل لعبة ضحايا، ولكل نظام رجال يجب أن تُكتب لهم النجاة وأيضاً رجال يجب أن يُحاسبوا على فاتورة الإخفاق العام، بسبب وبدون سبب، وكان نصر فيما يبدو الوجه الملائم ليمسح به النظام الناصري جرائمه وآثامه، بعد انهيار الحلم الرومانتيكي للعرب على وقع نكسة يونيو، لكن كيف اختير الرجل ليكون مَمْسحة النظام وشماعة خطاياه؟ لنتتبع مؤشرات من التاريخ.
الجاني أم المجني عليه
في مذكراته "شهادتي للأجيال" كتب المهندس حلمي السعيد، أحد أفراد تنظيم الضباط الأحرار، ما يضئ لنا الطريق ونحن نتلمس إجابة سؤال: لماذا اختاروا صلاح نصر ليدفع نيابة عن الكل؟
لم يُحسَب السعيد على جهة الرئيس أو جهة المشير، لم يكن وسط مؤامرات الكواليس بجناحَي الحكم، فهو ضابط مهندس، عمل مستشاراً لعبد الناصر في الاقتصاد والتخطيط. وكان معاوناً لعامر باللجنة العليا للسد العالي. وأسس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، ورأس "مؤسسة مصر"، التي كانت تضم 60 شركة، وقبل أن يختتم حياته العملية اختاره السادات وزيراً للكهرباء والسد العالي، وشاءت الظروف أن يختاره ناصر ليحقق في قضية "انحراف جهاز المخابرات"، الذي كان على رأسه حينها الرجل القوي، صلاح نصر.
اختيار السعيد للمهمة يثير علامات استفهام: فمَن هو ليعرف كيف يُدار جهاز شائك وحسّاس ومعقد كجهاز المخابرات؟ هو فقط رجل فني وخبير في الهندسة والكهرباء والسد العالي، حتى أنه يقول في مذكراته إنه "كان مفزوعاً" عند تكليفه بالمهمة، مضيفاً: "المخابرات في كل زمان ومكان هي أسوأ مهنة في العالم، ومهمتها جمع المعلومات الدقيقة لتكون أمام القادة... وجمع المعلومات يعتمد على أي وسائل، شريفة أو غير... فليس في عمل المخابرات مثاليات أو التزام بمبادئ وقيم وإنما الغاية أولاً وأخيراً هي الحصول على المعلومات... بالرشوة... بالنساء... بالإدمان". (ص 101 من المذكرات).
بهذا المنطق، فإن صلاح نصر كان من أكابر الوطنيين في مصر بكل تأكيد.
لكل لعبة ضحايا، ولكل نظام رجال يجب أن تُكتب لهم النجاة وأيضاً رجال يجب أن يُحاسبوا على فاتورة الإخفاق العام، بسبب وبدون سبب، وكان نصر فيما يبدو الوجه الملائم ليمسح به النظام الناصري جرائمه وآثامه، بعد انهيار الحلم الرومانتيكي للعرب على وقع نكسة يونيو
يفاجئنا السعيد في المذكرات بقوله: "ما تعرّض له صلاح نصر من تشهير وإساءة متعمّدة فيه الكثير من التجنّي، فقد أدى هو وجهاز المخابرات العامة أدواراً أذهلت العالم وعلى رأسه العدو الإسرائيلي، ولا تزال في ملفات هذا الجهاز ما يثبت أنه في أوقات الشدة الوطنية كان سدّاداً".
هذه الشهادة تكفينا مبدئياً للخروج باستنتاج بسيط، وهو أنه جرى تلويث سمعة صلاح نصر في ظروف تاريخية وسياسية بالغة الحساسية، وغالباً تكون إدانة رجل بحجمه أمام المجتمع وسيلة لإنقاذ شخصية بحجم أكبر، ولا يمكن أن نتصور شخصاً أكبر هنا من عبد الناصر نفسه.
شهادة السعيد تنفي عن الرجل وجوها كثيرة من القبح، رغم أنها لا تبرئه تماماً، لكن على الأقل لم يكن نصر بالصورة البشعة التي رسمها نظام عبد الناصر الإعلامي له.
أي ملك منتصر كان ناصر في عزّ هزيمته؟
يقول الكاتب عادل حمودة، في إحدى مقالاته بجريدة البيان الإماراتية عام 1999، عن "قضية انحراف المخابرات"، إن "نظام عبد الناصر استخدم القضية في الدعاية السياسية في مرحلة ما بعد هزيمة يونيو، ليقول للناس التي فقدت الثقة فيه إنه يُطهّر نفسه بنفسه"، مضيفاً أن الهدف بدا نبيلاً وجريئاً، لكن النظام قدّم - دون أن يقصد - سلاحاً لخصومه ليطعنوه وينتقدوه... واستُخدمت هذه القضية لسنوات طويلة لنهش لحم عبد الناصر ورجاله...."، حسب قوله.
نعود إلى شهادة المحقق حلمي السعيد، الذي كتب: "بدأ التحقيق في الثامنة صباح يوم 28 أغسطس 1967، وانتهى في الساعة الحادية عشرة مساء يوم 14 أكتوبر من العام نفسه، وكان يشاركني المهمة رجل المخابرات الشهير، محمد نسيم، وكان التحقيق يدور حول سوء استعمال النساء والأموال السرية في الجهاز، ما جعل من الضروري استدعاء 44 سيدة وفنانة، و9 أفراد من خارج الجهاز بخلاف 14 من قوة الجهاز، وكانت صورة من التحقيقات تُرسل إلى سامي شرف، مدير مكتب عبد الناصر، وصورة أخرى لأمين هويدي، رئيس الجهاز، الذي حلّ محل صلاح نصر".
لا يدخل المحقق في التفاصيل احتراماً لقانون السرية الذي منع الخوض في هذه القضية، وإن جاء المنع متأخراً بعد أن نُشرت كل تفاصيلها وأسرارها وأبطالها في الكتب والصحف، وأصبحت مصدراً من مصادر النميمة في النوادي والمقاهي، لكنه يكتفي بالقول إنه ونسيم رفعا تقريراً إلى عبد الناصر حوّله للنيابة العامة ومنها للمحكمة، وفي التحقيقات والمحاكمات اتضح أن "ثلاثة أفراد من الجهاز وثلاثة من خارجه متورطون في علاقات نسائية".
كانت الأجواء فيما يبدو بين ناصر ونصر ليست على ما يرام قبيل النكسة، فهو رجل عامر، وهو من بشّر بالنكسة، أو على الأقل حذّر منها، كما أنه أشار إلى احتمالية انتحار عبد الناصر بالسم بعد هزيمته، فكان من المنطقي أن يتخذ ناصر قرارات نفسية ضد الاثنين في أعقاب يونيو
رقم هزيل جداً بحجم الضجة التي أخذتها القضية، وبحجم إنجازات جهاز قوي في فترة عصيبة من فترات الصراع العربي – الإسرائيلي، وهذا يقودنا منطقياً إلى أنه كان هناك غرض آخر من محاكمة صلاح نصر وزمانه غير الذي أُعلن للملأ.
يتعرّض السعيد في مذكراته لوفاة المشير عامر: هل انتحر أم قُتل؟ ويقول إنه سأل صلاح نصر عن عملية السموم التي استوردتها المخابرات، فأجاب بأنهم استوردوا سُماً اسمه "أكونيت" يُستخرج من نبات "خانق الذئب"، وأضاف: "الاستيراد كان لكبار القيادات في حالة الهزيمة، لأن السم يقتل فوراً وبدون ألم"، واستطرد: "عبد الناصر غضب يومها، قبل هزيمة يونيو، وقال بحدة: مش أنا اللي انتحر".
يبدو أن ناصر فهم أن صلاح كان يقصده هو بالانتحار بعد هزيمة قاسية، وكأنها كانت نبوءة.
هنا نتذكر ما ردده أبناء صلاح نصر، الذين نشروا بعد وفاة والدهم بعضاً من خطاباته ومذكراته، التي قال فيها إنه أبلغ القيادة السياسية بمعلومات تفيد بمهاجمة إسرائيل للمطارات المصرية، وحذرها من غلق خليج العقبة قبيل حرب الأيام الستة في عام 1967.
كانت الأجواء فيما يبدو بين ناصر ونصر ليست على ما يرام قبيل النكسة، فهو رجل عامر، وهو من بشّر بالنكسة، أو على الأقل حذّر منها، كما أنه أشار إلى احتمالية انتحار عبد الناصر بالسم بعد هزيمته، فكان من المنطقي أن يتخذ ناصر قرارات نفسية ضد الاثنين في أعقاب يونيو، راح ضحيتها الأول بواقعة انتحار مشكوك في ملابساتها، فيما راح الثاني في قضية كبرى إلى السجن، لينجو ناصر برقبته منتصراً، تزحف الجماهير في شوارع مصر مرددة له هتافات بألا يتنحّى عن حكم البلاد.
أي ملك منتصر كان ناصر في عزّ هزيمته؟! وأي ثمن فادح دفعه كثيرون من سُمعتهم التاريخية لمجرد أنهم ظهروا في نفس فترة الزعماء المُلهَمين، الذين يخدعون شعوبهم باسم الإصلاح والأفكار الكبرى، التي سرعان ما تتكشّف بلاهتها!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...