اهتم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر برسائل البريد التي كانت تصل لرئاسة الجمهورية، ولم يكن يمر يوم دون متابعتها، إذ كان يعتبرها مرآة للمجتمع بعيداً عن التقارير الرسمية.
يذكر أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور جمال شقرة، في حديثه لرصيف22، أن فكرة وصول الرسائل إلى رأس السلطة في مصر هي عادة تمتد إلى التاريخ الفرعوني القديم، واستمرت في العصور الإسلامية خاصة العصرين الأيوبي والمملوكي، ثم التاريخ الحديث بدءاً من أسرة محمد علي، شارحاً أن هناك رسائل موجودة في أرشيفَي الملك فؤاد والملك فاروق تتضمن شكاوى أو اختراعات أو حتى اقتراحات وتوصيات.
ومع قيام ثورة يوليو عام 1952، لم يتخلص الشعب المصري من عادته، وزادت الرسائل التي أُرسلت لعبد الناصر، فخلال 5 أشهر من كانون الأول/ ديسمبر عام 1963 حتى نيسان/ أبريل عام 1964 تلقى عبد الناصر 88304 رسائل، وهو رقم كبير جداً، بحسب شقرة الذي أعد دراسة عن الموضوع عنونها بـ"شكاوى الجماهير ورسائل البريد الأسود إلى جمال عبد الناصر".
جهاز خاص وإعلانات "مشفرة" للمراسلين
يروي مدير مكتب عبد الناصر محمود الجيار أنه أنشأ – بأوامر من الرئيس الراحل- جهازاً بشرياً وظيفياً كافياً لقراءة كل سطر في هذا البريد قراءة متأنية، وتصنيف خطابات الناس وتحليلها وتوجيهها إلى الجهات المختصة ومتابعتها بمنهجية منظمة.
وذكر الجيار في مذكراته التي دوّنها ضياء بيبرس في كتاب حمل عنوان "الأسرار الشخصية لجمال عبد الناصر" أن تعليمات الرئيس الراحل كانت تقضي بأن يُعرض عليه يومياً ملخص لأي خطاب مهم وعاجل أو يحوي أفكاراً لامعة أو خبراً خطيراً، وأن يُرفع إليه تقرير أسبوعي صريح عن اتجاهات الرأي العام المصري، كما تتجلى في خطابات الناس، مع نماذج لأهم الخطابات اللافتة.
وتضمنت التعليمات أيضاً تقديم تقرير أسبوعي آخر في منتهى السرية، يسمى "تقرير الرأي العام المعادي"، يسجل صورة صريحة للخطابات المجهولة الإمضاء التي كان مرسلوها يأخذون راحتهم من خلالها في انتقاد الرئيس أو التهجم عليه.
وبحسب الجيار، كان عبد الناصر يعلق بخطه على هذه التقارير، ويصدر بشأنها التعليمات للوزراء المختصين، ويصر أحياناً على تحديد موعد لبعض مرسلي تلك الخطابات، رغم ما كان يزخر به وقته من مشغوليات كثيرة.
ويروي الجيار أن بعض مرسلي هذه الخطابات كانوا يقدمون أنفسهم في صورة غريبة، كأن يرسل أحدهم تلميحات إلى أن لديه أفكار معينة في موضوع ما، أو أخبار مهمة بشأن قصة محددة، ويختتم هذا المرسل خطابه قائلاً بما معناه: "إذا صادفت هذه التلميحات اهتماماً منك يا سيادة الرئيس فإنني مستعد لرواية كل شيء، بشرط أن تنتظرني سيارة من رئاسة الجمهورية في يوم كذا الساعة كذا في المكان كذا، فإذا وجدتها في الزمان والمكان المحددين، فإنني مستعد للقدوم إلى أي مكان تحددونه لي، وأن أكتب تحت إشراف معاونيك التفاصيل الكاملة".
وبحسب الجيار، قد يرسل آخر خطاباً يقول بما معناه: "إذا أثار هذا الملخص فضولك يا سيادة الرئيس، فتفضل بنشر إعلان في الأهرام صيغته كذا في يوم كذا، وحينئذ سأكتب إليك بتفصيل أكثر".
ويذكر الجيار، أن من يراجع أعمدة الاجتماعيات في "صحيفة الأهرام" في السنوات ما بين 1958 و1968، يجد أحياناً إعلانات غامضة وذات طابع غير عادي، مكونة من سطرين اثنين غالباً، وموقعة بحروف أولى من أسماء مستعارة، وكانت هذه الإعلانات تنشرها وتدفع أجرها رئاسة الجمهورية عن طريق أفراد عاديين لا ينتسبون في الظاهر إليها.
وكانت "الأهرام" أحياناً تمتنع عن نشر هذه الإعلانات لغموضها، وقد اضطر عبد الناصر ذات مرة أن يكلم محمد حسنين هيكل في أمر واحد من هذه الإعلانات ليجيز نشره، دون أن يعرف أحد آخر أن عبد الناصر شخصياً هو دافع ثمن الإعلان.
الرئيس في الكرسي الخلفي
وفي سياق هذه الخطابات، يذكر مدير مكتب الرئيس الراحل حادثتين قال عنهما إن "العقل العادي قد لا يصدقهما". الأولى أنه ذات يوم من الأيام كلف عبدالناصر أحد معاونيه بأن يذهب في سيارة إلى مكان بجوار مستشفى معين، حدده مرسل أحد الخطابات التي أثارت اهتمام الرئيس بشدة.
يقول الجيار: "حددنا رقم لوحة السيارة في إعلان غامض نُشر في جريدة الأهرام، مع بيان الساعة بالضبط التي ستنتظر فيها السيارة، وفي آخر لحظة وبينما كنت أستأذن الرئيس في الذهاب إلى هذا المواطن المجهول، وجدته يقول لي: ′اسمع، خذني معك′".
كانت تعليمات عبد الناصر تقضي بأن يُعرض عليه يومياً ملخص لأي خطاب مهم وعاجل أو يحوي أفكاراً لامعة أو خبراً خطيراً، وأن يُرفع إليه تقرير أسبوعي صريح عن اتجاهات الرأي العام المصري، كما تتجلى في خطابات الناس التي ترد إلى الرئيس، مع نماذج لأهم الخطابات اللافتة
"بالفعل، ركب الرئيس السيارة معي، وخرجنا من بيته بلا حرس، بل من دون أن نُبيّن في الدفتر الخاص وجهة الرئيس. وركب عبد الناصر في الكرسي الخلفي وأسدل الستائر، وذهبت إلى المكان المحدد، وامتدت يد تفتح مقبض باب السيارة وركب المواطن إلى جانبي وهو مبهور لأن رئاسة الجمهورية اهتمت بأفكاره إلى حد اتباع هذا الأسلوب الغريب، وعندما رأى عبد الناصر شخصياً في المقعد الخلفي انتابته درجة السعادة والفزع مجتمعين"، حسب رواية الجيار.
رسالة أصبح صاحبها وزيراً
الواقعة الثانية كانت أغرب بكثير، فقد بدا من الرسالة أن كاتبها الذي لم يشأ ذكر اسمه مستوعب تماماً للموضوع الذي يكتب فيه، حيث عرض الكاتب رأياً مهماً في مسألة كانت تشغل الأذهان، وكان هذا الرأي مخالفاً تماماً لوجهة نظر عبد الناصر، ومُدعماً بأسانيد ومعلومات قوية ومركزة، الأمر الذي أثار اهتمام الرئيس واحترامه معاً، بحسب الجيار.
واختتم الكاتب المجهول رسالته بأن لديه تفصيلات أوفى، وأنه مستعد لأن يوافي بها الرئيس إذا لم يكن في هذا ضياع لوقته، وأنه على كل حال لا يطلب مقابلته، وإنما فقط يطلب إشعاراً بأنه مهتم بمتابعة كل جوانب الموضوع، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يرجو أن تنشر رئاسة الجمهورية إعلاناً في الأهرام نصه "إلى ولدنا أحمد، اكتب لوالدك وسيهتم بطلباتك... جميل".
وما كان من عبد الناصر إلا أن طلب من مدير مكتبه أن ينشر الصيغة التالية على حسابه في "الأهرام": "إلى ولدنا أحمد... لماذا لا تحاول أن ترى والدك شخصياً بدلاً من أن تكتب إليه؟ هو سيهتم بطلباتك... جميل".
وفي مساء اليوم نفسه الذي نشر فيه هذا الإعلان الغامض الغريب، وصلت إلى رئاسة الجمهورية برقية باسم عبد الناصر يقول فيها مرسلها: "ولدكم أحمد يا سيادة الرئيس ينتظر تحديد موعد لمقابلتكم".
وكانت البرقية من توقيع دكتور فلان وكان اسمه معروفاً في الحقل الذي تخصص فيه (تحفظ الجيار على ذكر اسمه)، وقابله الرئيس فعلاً، وناقشه في اعتراضاته على سياسة وزير المالية آنذاك عبد المنعم القيسوني (1962- 1964)، وطلب منه أن يواجهه بذلك، ثم طلب منه أن يكتب له عدة تقارير مفصلة حول وجهة نظره، وبعدها اختاره الرئيس وزيراً، وكانت تلك من أغرب الطرق التي تم بها اختيار وزير ما، حسب ما ذكر الجيار.
رسائل "البريد الأسود"
من بين الرسائل التي كانت ترد للرئيس الراحل نوع عُرف داخل أرشيف رئاسة الجمهورية بـ"البريد الأسود"، لأنها كُتبت بأسلوب غير لائق، وكانت تحمل سباباً لعبد الناصر والثورة، وبعضها حمل نوعاً من الحقد والضغينة عليه. بمتابعة هذه الشكاوى، وجد أنها تنتمي إلى عناصر من الثورة المضادة، سواء الوفديين القدامى، أو الشيوعيين الذين اختلفوا مع الثورة، أو جماعة الإخوان المسلمين، أو الرأسماليين الكبار الذين أُمّمت مصالحهم، حسب ما يذكر شقرة.
غير أن بعضاً من هذه الرسائل تضمنت آراء موضوعية عن مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية، ومنها رسالة انتقدت سلوك المشير عبد الحكيم عامر وإدارته للقوات المسلحة.
اختلف السادات عن سلفه عبد الناصر في التعامل مع رسائل بريد، فلم يكن يقرأ أي منها وكانت لديه "مشكلة مع الأوراق"، وفور توليه السلطة قال لسامي شرف عندما عرض عليه بعض التقارير: "أبعدوا عني هذه الأوراق... هذه الأوراق هي التي قتلت جمال عبد الناصر"
وفي الدراسة التي أعدها شقرة من واقع أرشيف رئاسة الجمهورية، لاحظ قيام عبد الناصر بوضع الخطوط وعلامات الاستفهام والتعجب وبعض التعليقات أحياناً على أهم ما جاء في هذه الرسائل، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلاً وضع خطوطاً تحت فقرات وردت في رسالة المواطن "ز.ع.م" خاصة التي وصفت شقيقه الليثي عبد الناصر بأنه يعيش كهارون الرشيد، وكذا تحت العبارة التي دفعته لزيارة شقيقه في الإسكندرية حتى يتثبت من غناه.
ووضع عبد الناصر علامة على ما جاء في الرسالة نفسها من اتهام أولاده بأنهم يعيشون أفضل من أولاد الملك فاروق، ولفتت نظره عبارة التهديد بالثورة الشعبية فوضع تحتها خطاً أيضاً، وآخر تحت العبارة التي اتهمت أقارب المشير عبد الحكيم عامر باستغلال النفوذ.
وكذا لفتت نظره العبارة التي وردت في رسالة المواطن "ف.ك.ش" حول حرب اليمن التي دخلتها مصر "وليس لها فيها ناقة ولا جمل"، وفقاً لما كتب صاحبها.
وتذكر الدراسة أيضاً أن عبد الناصر وضع خطوطاً تحت ما جاء في رسالة المواطن "أ.أ.أ" خاصة وصفه لـ"الاتحاد الاشتراكي" بأنه "تنظيم هزيل"، وكذا علامات التعجب والاستفهام حول العبارة التي وردت في إحدى الرسائل التي تترحم على عهد الملك فاروق، وترفض فكرة تذويب الفوارق بين الطبقات، وأيضاً خطوطاً وعلامات تعجب حول اتهامه بتدبير المؤامرات للإخوان المسلمين، ووصفهم بـ"الأبرياء".
ولفتت انتباهه رسالة المواطن "م.س.ش" التي تناولت سلوكيات الطبقة الجديدة، حيث وضع خطوطاً كثيرة تحت العناصر التي تشكلت منها هذه الطبقة، حسب ما جاء في تصور صاحبها.
غير أن ما استفزه كان تلك الجملة التي وردت في إحدى الرسائل بأن الشعب المصري يعيش في ظل حكم الفرد، وأن حكمه "أسود أيامه" فوضع تحتها خطوطاً ثقيلة جداً، والشيء نفسه ينسحب على الرسائل مجهولة الهوية التي تناولت المشاكل التموينية والأزمات الداخلية.
اعتقال شقيقه وإبعاد صلاح سالم
لم يكتف عبد الناصر بالخطوط وعلامات التعجب والاستفهام التي وضعها على رسائل البريد الأسود، بل عوملت نفس معاملة بريد الشكاوى، فخضعت للدراسة والتحري والمتابعة.
وكان بعض تلك الرسائل وراء إبعاد عضو مجلس قيادة الثورة صلاح سالم في فترة مبكرة، حيث حمل سكرتير عبد الناصر وقتئذ أمين شاكر عدة رسائل تهاجم صلاح سالم وسياسته في السودان عندما أوفد إليها لتحقيق المصالحة بين الشماليين والجنوبيين، وتطرقت الرسائل لسلوكياته وحياته الخاصة أيضاً، وفق شقرة الذي أشار إلى أنه بعد إبعاد صلاح سالم رفع شاكر تقريراً عن اتجاهات الرأي العام وارتياح الشعب لقرار إبعاده.
كما تسببت رسائل البريد الأسود في اعتقال عبد الناصر لشقيقه الليثي، حيث قام بزيارته في الإسكندرية، ليقف بنفسه على ثرائه، كما جاء في الرسالة السابقة.
ووفقاً لشهادة سكرتير الرئيس للمعلومات سامي شرف، فإن عبد الناصر ذكر أنه "لا يمانع في ثراء أحد من أسرته بشرط ألا يستغل اسمه، وأن يتواءم نمو دخله مع النمو الاقتصادي لمصر كلها، وهدد باعتقاله"، ثم اعتقله بالفعل عندما اكتشف أنه يعيش في مستوى أعلى نسبياً مما يسمح به راتبه.
وبحسب الدراسة، هاجمت رسائل المشير عبد الحكيم عامر وسلوكيات بعض الضباط خاصة تلك التي أرسلها ضباط محترفون، كرسالة الضابط الذي انتقد استعدادات القوات الجوية للمعركة مع إسرائيل، وصارح عبد الناصر بها المشير سنة 1966، وكاد يتخذ موقفاً من هذه التجاوزات لولا ظروف معقدة كثيرة أدت إلى تأجيل القرار، وفق ما يقول شقرة.
مفارقات غريبة
يذكر أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر عاصم الدسوقي أن مفارقات غريبة صاحبت الرسائل التي كانت ترد إلى عبدالناصر، ومنها ما يرويه لرصيف22 عن طالب – لم يذكر اسمه – تخرج في كلية التجارة بتقدير جيد جداً، ولم يعين معيداً في الجامعة، وإنما مدرساً في إحدى المدارس، فكتب رسالة إلى عبد الناصر يشكو فيها ذلك، فتحقق الرئيس من صدق ما ذُكر، وأصدر قراراً بتعيينه معيداً، ثم تدرج هذا الشخص في المناصب، وبعد موت عبد الناصر دأب على مهاجمته.
ويروي الدسوقي أن طالباً آخر في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية كان يقيم في المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة، لكنه رسب في إحدى السنوات وأصبح مهدداً بالخروج من المدينة، وبالمصادفة كانت هدى ابنة عبد الناصر طالبة في الكلية ذاتها، وعرف الطالب بذلك فكتب رسالة روى فيها قصته وأعطاها لحارس ابنة الرئيس لتوصيلها إلى مكتبه، فأمر الأخير بإقامته في المدينة.
ويذكر شقرة أن الرئيس الراحل أنور السادات اختلف عن سلفه عبد الناصر في التعامل مع الرسائل الواردة، حيث لم يكن يقرأ أي رسائل بريد، وكانت لديه "مشكلة مع الأوراق"، وفور توليه السلطة قال لسامي شرف عندما عرض عليه بعض التقارير: "أبعدوا عني هذه الأوراق... هذه الأوراق هي التي قتلت جمال عبدالناصر".
ورغم ذلك، بحسب شقرة، استمر مكتب الشكاوى والبريد في مواصلة عمله، لكن بطريقة بيروقراطية بعيداً عن الرئيس، وهو النهج نفسه الذي اعتمده حسني مبارك في ما بعد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...