شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"بحثاً عن الحرية لا سعياً إلى الربح"... الحالة الخاصة لفناني/ات شارع الحبيب بورقيبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 6 يونيو 202103:27 م

المكان الأبرز في العاصمة التونسية كان مسرحاً كبيراً لعمليات إرهابية ناجحة ومحبطة، وهو محط تظاهرات النشطاء منذ اندلاع النقطة الأولى في ثورات الربيع العربي 2011، ومزار سياحي، ومعلم تاريخي، ولكنه أيضاً روح تحمل فلسفة الطيور في الحرية، وتغيّراً في طريقة تفكير عشاقه ومحبيه، الذين يرتادونه يومياً، ويمارسون فيه أنشطة فنية، إنه شارع الحبيب بورقيبة.

"لا أحب الفضاءات المغلقة"

الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحاً، يجلس سيف الدين الجبالي على كرسيّ خشبيّ أمام المسرح البلدي بالعاصمة، ويضع فوق ركبتيه أدوات الرسم، ولوحات مرسومة.

اختار سيف الدين قلب العاصمة منذ ست سنوات ليرسم، ويبدع في رسم وجوه المارة الذين يطلبون منه ذلك مقابل مبلغ مادي بسيط، وينوي أيضاً إقامة معرض في نفس المكان لأنه لا يحب الفضاءات المغلقة، وفق حديثه.

سيف الدين الفنان التونسي يرسم أمام المسرح البلدي في شارع الحبيب بورقيبة

يقول سيف الدين لرصيف22: "اخترت العمل في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة هرباً من الأماكن المغلقة، التي أشعر دائماً أنها تكبل حريتي، لكن منذ أن اخترت العمل في هذا المكان أحسست بأنني حرّ طليق، مثل الطيور التي اختارت من الأشجار القائمة على طول الشارع مسكناً لها".

يردد سيف الدين أبيات أبو القاسم الشابي: "خلقت طَليقاً كطَيف النسيمِ، وحُرًّا كنور الضحى في سماهْ، تغرد كالطير أين اندفعتَ، وتشدو بما شاء وحي الإلهْ".

لم يفكر سيف الدين في تغيير مكانه، تنوع الوجوه التي تأتي من كل حدب وصوب حوّل الشارع إلى "فضاء ثقافي وفني مميز"، يقول: "في الشارع أرسم أناساً لا أعرفهم ولا يعرفونني، وأتعرف يومياً إلى أشخاص جدد من تونس وخارجها".

مصاب بمرض نقص الأردينالين ولا يتحكم في مزاجه الخاص، وآخر يكره الجدران، وأخرى لا تريد العمل دواماً كاملاً بمقابل ضعيف… قصد هؤلاء شارع الحبيب بورقيبة، وتأثروا بروحه، وتغيروا

غيّر شارع بورقيبة من نظرة سيف الدين إلى الفنانين، بالنسبة له هناك فنان حبيس الجدران، وآخر في فضاء شارع ينبض بالحياة. وهو يشعر أحياناً عندما يرسم بشخصيات المارة وبأرواحهم كأنها تدخل جسده، وتساعده في الرسم، والإلهام.

"رسم على الأجساد"

غير بعيد عن المسرح البلدي، على بعد أمتار قليلة من مجسم العلامة التونسي ابن خلدون، تنكب الشابة التونسية إيمان (24 عاماً)، من منطقة سيدي حسين، على الرسم، لكنها لا ترسم على لوحة بل تتخذ من أيادي النساء وأجسادهن لوحات لها.

بدأت إيمان عملها في تزيين أيادي النساء وأجسادهن قبل 14 عاماً، أي عندما كانت تبلغ من العمر عشر سنوات فقط، وما زالت إلى اليوم تعمل في نفس المكان، ولا تفكر في مغادرته على الأقل في الوقت الحالي، تقول: "هنا كبرت وكبرت أحلامي"، وتستدرك: "صحيح أن مهنتي بسيطة، ولا أجني أموالاً طائلة، لكنني فخورة بعملي وبصمودي في الشارع".

إيمان ترسم على يد امرأة، أمام مجسم العلامة ابن خلدون

وتضيف: "زينت أيادي نساء من كل دول العالم، لا أتحدث اللغات ولكنني أفهم حريفتي (زبونتي) وإن حدثتني بالإشارة".

إيمان هي الأخرى هربت من محدوية الجدران، وتدابير العمل الإدارية، حيث الالتزام الزمني والمقابل المادي الضعيف، لذا تسمي الشارع بيتها الثاني، "الحبيب بورقيبة يحتضنني في كل الأوقات والأزمنة، هنا وجدت لقمة عيشي وهنا وجدت مكاناً أعمل فيه بحرية ودون قيود"، تقول إيمان.

"هو المكان الذي يقصده كثيرون للتربّح، وكسب قوت يومهم، وهو أيضاً مقصد التونسيين الغاضبين من السلطة، والطبقة السياسية، ومسرح للدفاع عن القضية الفلسطينية وكل القضايا الإنسانية"

بجانب العمل، كونت إيمان صداقات عديدة، وكانت شاهدة على قصص العشاق الذين يلتقون يومياً، وأحداث أخرى.

للعمل في شارع بورقيبة جانب مظلم. تتعرض إيمان لمضايقات كثيرة، أبرزها التحرش، والضرر الاقتصادي بسبب انتشار وباء كورونا، الذي منع السياح خاصة الجزائريين من القدوم.

فن رغم المرض

أمام أحد النزل بشارع الحبيب بورقيبة، يقف الشاب الجزائري كمال (21 عاماً) وهو يردد أغانٍ غربية وعربية، ويعزف بقيثارته التي لا تفارقه، ألحاناً تُطرب كل من سمعها، وتجبر المارة على التوقف لمشاهدة العرض الموسيقي الهادئ الذي يقدمه.

ويعاني كمال مرض نقص الأدرينالين، وهو الهرمون الذي له دور مهم في التحكم بمزاج الشخص، لذلك فشل في العثور على عمل، فاختار أن يستغل موهبته في الغناء، فاتخذ من شارع الحبيب بورقيبة مسرحاً ومن المارة جمهوره الوفي.

كمال يعاني من نقص الأردينالين، يغني أمام نزل بشارع الحبيب بورقيبة

يقول: "أعتمد أساساً على العزف والغناء في الشارع لتحصيل الأموال كي أتمكن من إعالة نفسي، وإكمال دراستي، في البداية كنت خائفاً من خوض التجربة، لكنني اليوم فخور بنفسي وسعيد بتجربتي".

ويضيف: "صحيح أنني أجني بعض المال للعيش لكنني وجدت السعادة الحقيقية من خلال الغناء على أرصفة الشارع لأنني أمارس هوايتي التي أحبها".

ويتابع: "أصبحت معروفاً ولديّ جمهور يشجعني باستمرار، وهناك من يأتي إلى شارع الحبيب بورقيبة خصيصاً ليشاهد عروضي الموسيقية".

شارع للجميع

يشدد زين العابدين بالحارث، وهو رئيس جمعية تراثنا، في حديثه لرصيف22، على الأهمية الكبرى لشارع الحبيب بورقيبة: "للشارع رمزيته التاريخية والفكرية والثقافية، فهو يضمّ معالم تاريخية وثقافية هامة، وهو أيضاً مسرح للعروض الموسيقية والفنية والمهرجانات الصيفية".

تظاهرة أمام المسرح البلدي بوسط العاصمة تونس

ويضيف متحدثاً عن الشارع الرمز: "هو المكان الذي يقصده كثيرون للتربّح، وكسب قوت يومهم، وهو أيضاً مقصد التونسيين الغاضبين من السلطة، والطبقة السياسية، ومسرح للدفاع عن القضية الفلسطينية وكل القضايا الإنسانية".

ويتابع: "هو بكل بساطة الشارع الذي يعانق فيه التونسيون الحرية، ويرفعون أصواتهم عالياً ضد الأنظمة الحاكمة، وضد الاستبداد، وهو المكان الذي يجتمع فيه المبدعون للغناء والعزف والرقص، إنه شارع جميل يبقى محفوراً في ذاكرة كل من يزوره".

يذكر أن شارع الحبيب بورقيبة يحتوي على عدد من المعالم، أهمها الكاتدرائية، وهي الكنيسة الرئيسية لطائفة الروم الكاثوليك، وبرج الساعة، وتمثال عالم الاجتماع ابن خلدون، وتمثال الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، والمسرح البلدي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard