في الساعات الأخيرة من ليل الخامس والعشرين من نيسان/ أبريل 1945، ألقى حرس الحدود المصري القبض على رجلين داخل خيمة منصوبة قرب واحة، وسط الصحراء الفاصلة بين مصر وليبيا، واقتادوهما مخفورين بالحديد نحو مركز "الضبعة" الحدودي. وحين سألهما مأمور المركز: "لماذا دخلتما البلاد بلا جوازات؟"، صاح أحدهما بجسارة غير مألوفة في مثل هذه المواقف: "جواز سفر؟ ألا تعرفني؟ أنا الحبيب بورقيبة".
نفى الضابط معرفته به، فزاد حنق بورقيبة: "يا رجل، لم تسمع عن نضالي، ودخولي السجن وخروجي من السجن وعن جهادي ضد فرنسا... يا رجل أنا مثل سعد زغلول فى تونس". لكن الضابط المصري واصل إنكاره، فيما بدت الخيبة على ملامح بورقيبة واضحة كضوء الشمس الذي بدأ يلوح في أفق الصحراء.
فشلت كل محاولات بورقيبة في شرح القضية الوطنية التونسية للمأمور، بل فشل في أن ينتزع منه اعترافاً بوجود تونس على الخريطة. واعتقد أن الأمور ستنتهي عند هذا الحد.
ينقل محمد حسنين هيكل في مقالته اليومية "بصراحة" التي كان يكتبها على الصفحة الأولى من جريدة الأهرام، في 15 أيلول/ سبتمبر 1961، عن بورقيبة متذكراً وقائع ذلك اليوم العصيب قوله :"استدرت أخرج غاضباً يائساً... لكن ضابط الحدود قال لي: تعال هنا... كيف دخلت الحدود من غير جواز سفر؟ فقلت: لقد جئت هارباً، فمن أين لي أن أحصل على جواز سفر؟ فأجاب ببرود شديد: إذن لا بد من ترحيلك إلى سلاح الحدود ليحققوا معك!".
ثم استجمع مأمور المركز الحدودي صرامته مخاطباً بورقيبة ورفيقه بأنه لن يسمح لهما بالعبور ولن يطلق سراحهما، وغاية ما يستطيع عمله هو إعلام رؤسائه بالموضوع، فما كان من بورقيبة إلا أن ضرب كفاً بكف مردداً: "وأنا الذي كنت أنتظر أن تستقبلني الجماهير في مصر بالورد والموسيقى."
وقائع الهروب
في أعقاب خروج الاحتلال الألماني من تونس في أيار/ مايو 1943، وعودتها تحت سيطرة الإدارة الاستعمارية الفرنسية، بدأ الفرنسيون بتنفيذ حملة انتقامية قادها الجنرال شارل ماست، المقيم العام الفرنسي في تونس، ضد الحركة الوطنية التونسية، بدعوى أن التونسيين كانوا في صف قوات المحور.
شملت الحملة أمير البلاد المنصف باي، الذي عُزل من منصبه، وكذلك رموز حزب الدستور، ومن بينهم الحبيب بورقيبة الذي وُضع تحت المراقبة ومُنع من مغادرة العاصمة، على الرغم من أنه والحركة الوطنية التونسية رفضا الاصطفاف وراء الألمان خلال الحرب.
في ظروف المنع هذه، والتي استمرت حوالي سنتين، بدأت تتصاعد في العالم حمّى الاستقلالات الوطنية، خاصة بعد صعود الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها قوة دولية موازية أو تفوق قوى الاستعمار التقليدية، بريطانيا وفرنسا. وفي هذا السياق، نشأت منظمة الأمم المتحدة في تشرين الأول/ أكتوبر 1945 وقبلها الجامعة العربية في آذار/ مارس من العام نفسه، والتي تبنّت قضايا الدول العربية المستعمَرة، كما بدأ بورقيبة التفكير في التوجه شرقاً نحو القاهرة، لاستحالة العمل السياسي من داخل البلاد.
كانت الشرطة السرّية الاستعمارية تطبّق حصاراً أمنياً صارماً على بورقيبة ورفاقه، إذ كان التنقل داخل العاصمة صعباً، أما التحرك نحو مدن أخرى فشبه مستحيل. اضطر بورقيبة للعودة إلى مهنة المحاماة والتذرّع بها لفض الطوق الأمني المفروض عليه، وقد نجح بذلك في تضليل عناصر المراقبة بعد أن تعلل بقضية يترافع فيها في مدينة صفاقس جنوب البلاد. ومن سواحل صفاقس بدأت رحلة العبور السري نحو القاهرة.
في صفاقس، حمل بورقيبة اسماً مستعاراً هو "علي محفوظ"، تاجر يرتدي الملابس التقليدية لجزيرة قرقنة المتاخمة لسواحل صفاقس، ومكث في دار قريبة من ميناء المدينة وفّرها له الزعيم العمالي الحبيب عاشور، والذي سينتهي سجيناً في عهد بورقيبة الرئيس.
كانت خطة الهروب تقوم على تضليل عناصر الأمن والمراقبة في الميناء، بحيث يركب بورقيبة قارباً شراعياً مملوكاً لـ"الرايس علي الزاهي" ويتجه نحو جزيرة قرقنة، لكنه قبل أن يصل إليها يتوجه نحو الساحل الليبي القريب، بيد أن عاصفة هوجاء طوحت بالمركب نحو ساحل الجزيرة ليستقر به الحال في نقطة اسمها "الشرقي" ويختبئ في بيت يملكه رجل اسمه "محمد العون"، سيتحوّل بعد الاستقلال إلى متحف يحمل اسم "بيت النجاة".
بعد ذلك، نجح بورقيبة في الإبحار مجدداً من ساحل قرقنة خلسة نحو الساحل الليبي القريب، في بحر مزدحم بسفن الحلفاء التي كانت تجوب المياه بحثاً عن بقايا الألمان والطليان الهاربين.
بعد أن وصل المركب سواحل مدينة زوارة الليبية، بدأت رحلة بورقيبة ورفيقه خليفة حواص، أحد شباب الحزب الدستوري المتحمسين والذي رافقه منذ خروجه من العاصمة تونس، تأخذ طابعاً أكثر خطورة. كانت بقايا أحداث الحرب العالمية الثانية لا تزال جارية. الدوريات البريطانية والأمريكية تذرع المدن والقرى بحثاً عن مناصري الطليان والألمان، وحفلات القتل على الهوية لا تتوقف.
كان بورقيبة قد تنكر بالملابس التقليدية الليبية وحمل أسماء مستعارة كثيرة على طول الرحلة بين زوارة والسلوم عند الحدود المصرية، واستعان بالكثير من شيوخ القبائل وبالقائد الوطني أحمد السويحلي، وهو شقيق رمضان السويحلي، أحد القيادات التاريخية للكفاح المسلح ضد الاحتلال الإيطالي، والذي أمّن له المسير من مصراتة إلى الحدود المصرية.
مهاجر غير شرعي
فيما كان بورقيبة ورفيقه ينتظران الفرج القادم على مهل من القاهرة داخل نظارة مركز الحدود، فوجئا باستدعائهما للحضور أمام مأمور المركز للتوقيع على محضر، بدعوى دخول البلاد دون جواز سفر، وأُبلغا بأنهما سيُنقلان صباحاً إلى محكمة العامرية للمثول أمام القاضي.
ومع ساعات الصباح الأولى، اقتادهما الشاويش عبد الرزاق السوداني نحو محطة القطار، وفي الطريق طلب منه بورقيبة أن يمكّنه من إرسال برقية لعبد الرحمن عزام باشا، أمين عام جامعة الدول العربية، يطالبه فيها بالتدخل.
وقبل أن ينطلق القطار نحو الإسكندرية، كان رئيس مركز الحدود ينهب الأرض بسيارته الجيب يريد اللحاق به. وصل الضابط المصري على عجل وقفز داخل العربة مقبّلاً بورقيبة ورفيقه، ملحّاً في طلب العفو والاعتذار، وسط ذهول الركاب.
في القاهرة، فتح الحبيب بورقيبة خطوط تواصل مع القوى السياسية المصرية، لكنها لم تتحمس كثيراً له باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تسعى لتوسيع نشاطها نحو الدول العربية من خلال مكتب الاتصال بالعالم الإسلامي وكذلك جماعة مصر الفتاة الشوفينية
وضع الضابط في يد الشاويش حزمة أوراق هي تسخير سفر وبطاقات حجز في الدرجة الأولى في جناح مريح في القطار. كان منظر بورقيبة ورفيقه بالملابس التقليدية الليبية التي عبروا بها وسط جناح الباشوات في القطار غريباً، لكن تعلّقهما بالقاهرة بدد كل خجل وغرابة ولم يمنعهما من مناقشة مقالات الصحف التي وُضعت أمامهما بفرنسية لفتت إليهما الأنظار.
وصل بورقيبة القاهرة ليل الثامن والعشرين من نيسان/ أبريل 1945. ولم يكن الاستقبال في القاهرة أفضل من لحظة الدخول سراً إلى مركز الضبعة الحدودي.
مكتب المغرب العربي في القاهرة (عن موقع الدكتور عبد الكريم غلاب، أحد رفاق بورقيبة في القاهرة)
في مقال محمد حسنين هيكل المذكور والذي حمل عنوان "ساعات مع الحبيب بورقيبة في بلجراد"، نقل الكاتب المصري عن بورقيبة روايته بطريقته الخاصة، بكل حواسه وجوارحه، لوقائع استقباله داخل مصلحة خفر الحدود قائلاً: "لم يكن داخل المصلحة إلا عريف من الجيش، قلت له: هل تعرف أبورقيبة؟
فرد مستغرباً: أبو إيه؟
قلت: ولا شيء... ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وكنت متعباً فسألته: هل أستطيع أن أذهب إلى فندق قريب، أنام الليل فيه، ثم نبحث الأمر في الصباح؟
قال: لا... ستقضي الليلة هنا!
قلت: هنا؟... هل معنى ذلك أنني موقوف؟
قال: لا... ليس تماماً... وإنما استيفاء الإجراءات ضروري.
قلت: لا تخفف المصيبة عليَّ... أنا موقوف!
قال: في الصباح يفرجها ربنا... قلت: في الصباح؟... سأموت لو بقيت هنا للصباح... هل أستطيع أن أجري اتصالاً تليفونياً من هنا؟
قال: لا مانع!
وأمسكت التليفون، وكان معي رقم أحد الأصدقاء التونسيين في القاهرة، ورد عليّ، وقلت له: فلان... الحقني... أنا هنا موقوف في سلاح الحدود... اتصل بسرعة بمَن ترى الاتصال بهم ليدبّروا أمر الإفراج عنّي، واتصل أيضاً بالقنصل الأمريكي دوليتل في الإسكندرية ليسارع بالتدخل قبل أن تتعقد المسائل".
في ليل 25 نيسان/ أبريل 1945، ألقى حرس الحدود المصري القبض على الحبيب بورقيبة وصديق له وسط الصحراء الفاصلة بين مصر وليبيا، واقتادوهما مخفورين بالحديد نحو مركز "الضبعة" الحدودي. قال بورقيبة للمحقق: "هل تعرف أبورقيبة؟"، فرد مستغرباً: "أبو إيه؟"
وصلت أخبار بورقيبة إلى صديقه الأمريكي هوكر دوليتل، ومنه إلى الخارجية المصرية. وبموازاة ذلك، بدأ رموز الجالية التونسية في القاهرة بالتحرك، وعلى رأسهم الشيخ محمد الخضر حسين، الذي سيصبح بعد ذلك شيخ الأزهر، وأبناء محمد بيرم الخامس، أحد رموز الحركة الإصلاحية التونسية والذي كان قد استقر في القاهرة بعد الاستعمار.
كان بورقيبة متخوفاً من دخول السفارة الفرنسية على الخط لإقناع السلطات المصرية بتسليمه. لكن جهود القنصل الأمريكي وعزام باشا، أمين عام الجامعة العربية، أثمرت أخيراً.
في صباح التاسع والعشرين من نيسان/ أبريل، أفرجت وزارة الدفاع المصرية عن بورقيبة ورفيقه خليفة حواص ونُقلا إلى وزارة الداخلية حيث التقيا بوزير الداخلية حسن باشا رفعت ووقعاً على تعهد بعدم الدخول في أي نشاط سياسي داخلي مصري. وخرجا نحو القاهرة.
لاجئاً في القاهرة أخيراً
كانت قاهرة الأربعينيات من القرن الماضي كبيرة وصاخبة وفيها من كل الملل والطوائف، حتى أنها كانت مكتفية بنفسها عن معرفة ما يدور خارجها أو حولها. لم تكن أخبار بلاد المغرب ذات أهمية بالنسبة للمصريين، بعكس أهل المغرب الذين كانوا يتابعون ما يجري في مصر بلهف ودقة، ويعرفون كتّابها وزعماءها وحتى أسماء الراقصات الشهيرات في ملاهيها العامرة بالموسيقى والفرح.
كان مثقفو تونس منقسمين بين عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني وكان أبو القاسم الشابي يراسل مجلة أبولو القاهرية لينشر فيها قصائده، وتغص مسارح العاصمة بمشاهدة مسرحيات نجيب الريحاني في جولته المغاربية.
في هذه الأجواء، وجد بورقيبة نفسه غريباً. استقر في شقة صغيرة في شارع نوال في حي العجوزة في الجيزة، وبدأ يخطط لنشاطه السياسي من خلال التواصل مع قادة الحركات الوطنية المغاربية، وبدعوة رفاقه في أوروبا للالتحاق به في مصر وتأسيس مكتب للحزب الدستوري، كما فتح خطوط تواصل مع القوى السياسية المصرية، والتي لم تتحمس كثيراً له، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تسعى لتوسيع نشاطها نحو الدول العربية من خلال مكتب الاتصال بالعالم الإسلامي وكذلك جماعة مصر الفتاة ذات التوجهات الشوفينية المصرية.
بورقيبة مع حسن البنّا وعبد الكريم الخطابي (عن موقع الدكتور عبد الكريم غلاب، أحد رفاق بورقيبة في القاهرة)
وفي القاهرة، وطّد بورقيبة علاقته بالنخب الشامية المهاجرة، وأبرزها الصحافي الفلسطيني محمد علي الطاهر، الذي فتح له الكثير من الأبواب المغلقة في العاصمة المصرية، والأمير شكيب أرسلان، ومفتي القدس أمين الحسيني، وتلقى دعماً مالياً وسياسياً من هؤلاء، وكذلك دعماً سخياً من أمين عام الجامعة العربية عبد الرحمن عزام، حتى نجح أخيراً في تأسيس مكتب المغرب العربي مع علالة الفاسي والأمير عبد الكريم الخطابي من المغرب، والشيخ الفضيل الورتلاني من الجزائر، ليكون رافعة سياسية لجبهة مغاربية لتحرير تونس والمغرب والجزائر.
بورقيبة مع أمين الحسيني ومحمد علي الطاهر (عن موقع الدكتور عبد الكريم غلاب، أحد رفاق بورقيبة في القاهرة)
مكث بورقيبة في القاهرة إلى حدود أيلول/ سبتمبر 1949، وخلال وجوده فيها سافر نحو الولايات المتحدة وجنيف وقام بجولات في الهند وباكستان والحجاز وإندونسيا وبلاد الشام، لحشد التأييد للقضية التونسية.
وفي أعقاب النكبة والهزيمة التي مُني بها العرب عام 1948، تحوّل اهتمام الجامعة العربية ومصر وعموم المشرق نحو القضية الفلسطينة، لتجد الحركات التحررية المغاربية نفسها على هامش الحراك السياسي، فقرر بورقيبة العودة إلى تونس والعمل على إطلاق الكفاح المسلح.
لن يعود بورقيبة إلى القاهرة إلا في عام 1965، في طريقه إلى القدس، لكنه هذه المرة سيكون رئيساً وليس مجرد لاجئ، إلا أن الخيبة نفسها ستلازمه، فقد حاصرته صحف القاهرة وبيروت بالتخوين والردّة عندما طالب في مدينة أريحا، وسط جمع من اللاجئين الذين التفوا حوله، بضرورة قبول قرار التقسيم. وكان ذلك آخر عهده بالقاهرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون