هل تفكر في الله؟ هل يراك؟ هل تتحدث إليه ليلاً، وتقصّ عليه أسرارك، وتطلب منه المساعدة؟ هل يجيبك؟ هل تشعر أنه يسمعك أو يلبّي دعواتك؟ هل تعاتبه عندما يهمل تحقيق أمنياتك، أو ينساك؟ هل ما زلت تؤمن به؟ إن كنت متردداً في الإجابة، أو تريد أن ترواغ، فاعلم أن هناك جداراً يمنعك، سداً منيعاً يحجز بينك وبين حريتك. ولكن ماذا إن حصلت على تلك الحرية المحظورة علناً، وآمنت بعدم وجود الله، حتى ولو كان ذلك الإيمان "سراً" بينك وبين نفسك. هل تعود مرة أخرى لتبحث عنه؟ أي الأسباب قد تدفعك للبحث عن الذات الخارقة المتمثلة في الله من جديد؟
بوسعي أن أقص عليك موقفاً بسيط يمكنك من خلاله أن تستنبط الأسباب التي قد تدفعنا جميعاً للبحث عن الله، حتى لو لم تصل إلى محطة الإيمان بعدم وجوده. ففي الإجازة الصيفية لعام 2017، قبيل بدء العام الدراسي الجديد، بدأت أفكر في مشروع تخرجي الجامعي، وأسأل نفسي كل يوم من أين أحصل على مصاريف هذا المشروع؟ كل الأبواب التي يمكن طرقها كانت مغلقة أمامي، حتى أن قرار العمل خلال الإجازة أخذته، لكن فرص العمل داخل القرى النائية المهمشة شبه معدومة، والسلطة الأبوية تمنع خروج الفتيات إلى المدينة، أو سفرهن بمفردهن من الريف والصعيد إلى القاهرة. لكن الظروف أهدتني محاولة للخروج خفيةً، وباءت التجربة بالفشل. عدت أبكي وحدي من جديد كل مساء، وأتحدث إلى السماء كثيراً، لعل هناك من يسمعني، أو يجيبني، أو يلهمني الطريق. لكن آمالي في السماء خابت.
بدأ العام الدراسي الجديد، وأنا مكبلة اليدين. ولما اشتد ظلام الأيام وعسرها، وجدت أحد الأساتذة في الكلية يطلب مني أن أكتب مقالاً صحافياً عن "الإرهاب"، للمشاركة في مسابقة لم يكن لديّ أي تفاصيل حولها. لم أكن على استعداد للمشاركة، لكن الأستاذ حذرنا من عدم تنفيذ أوامره، ونظر إليّ من بين زملائي كلهم، وقال بصوت قوي: "أثق بموهبتك، وقدرتك على الفوز في المسابقة". بعد عشرة أيام قمت بتسليم المقال، وعند إعلان النتائج حصلت باسم الجامعة على جائزة المركز الثاني من بين جامعات مصر، والمفاجأة كانت أن شهادة التقدير مرفقة بجائزة مالية غطّت تكاليف مشروع تخرجي. عدت من جديد لأصافح دموع السعادة، وقلت في نفسي "هذا ترتيب من الله".
تعلمنا في المدراس، وفي الكُتّاب، وفي الدروس التربوية التي نحصل عليها داخل المسجد، وحتى في الشارع، أن كل شيء يحدث لنا هو بإرادة الله، وأن السعي الشخصي، والقدرات لا علاقة لها بالأمر
لكن لماذا ظننت أن هذا النجاح الذي حققته كان بإرادة "الله" وحده، وليس لمجهودي، وسعيي، وقدراتي أي دور؟ على الرغم من أنه لم يفز أحد من زملائي الذين قدّموا أعمالهم بعد أن سألوا ربهم النجاح، ويعيشون هم أيضاً الظروف الاقتصادية نفسها التي كنت أعيشها، أتعرف لماذا؟ لأننا تعلمنا في المدراس، وفي الكُتّاب، وفي الدروس التربوية التي نحصل عليها داخل المسجد، وحتى في الشارع، أن كل شيء يحدث لنا هو بإرادة الله، وأن السعي الشخصي، والقدرات لا علاقة لها بالأمر. وما دمت قريباً بأعمالك من "الله"، فأنت في الكفة الرابحة؛ الفوز حليفك، والنجاح طريقك، وإن خالفت الطريق، الويل ثم الويل لك.
حرصت لفترة على قراءة مؤلفات الراحل مصطفى محمود. أحببت أسلوبه السهل، والحرية التي شعرت بها عند قراءتي بعضاً منها. لكني دُهشت أنه طرح مؤلفاً تحت عنوان "رحلتي من الشك إلى اليقين"، أي جدار يا ترى أجبره على تغيير رأيه؟ أهو جدار الخوف؟ فالبعض يقول إن هناك جملة من التهديدات وصلته عندما شعروا بانحرافه عن مسارهم، وأخذ القرّاء معه إلى بوابة الفكر والتأمل، وربما تستشعر بذلك في جملته "تفكرك في الله ساعة خير من تعبدك ألف ساعة". ذلك لأن الكثيرين يقدّسون التعبد، أكثر من تقديسهم الإله نفسه؛ يقدّسون المظاهر أكثر من التقديس الروحي للرب الذي يؤمنون به، وكأن إيمانهم يتمثل في المسبحة، وصلاة الجماعة، وزيارة الكعبة. يقدّسون رمضان، وكعك العيد، ورجال الدين، أكثر من رب الدين، فهم يرفضون الفكر.
رأيت مقطع فيديو لشاب يدعى "أحمد حرقان"، وهو أحد المدونين على اليوتيوب. وجدته يعلن إسلامه من جديد، ذلك الإسلام الذي قال إنه تركه عندما آمن بعدم وجود إله، فتعرض للسب والتجريح والتهديد بالقتل، حتى عاد يكفِّر عن الإثم الذي ارتكبه، لمتابعيه. وكأن "الله" أمرهم بمحاسبته. فحاول أن يعتذر لهم حتى يعفوا عنه. لكن من يفهم تعبيرات وجهه جيداً في الفيديو، يتأكد أنه مُجبر، وأن الاعتذار فُرض عليه. جدار الخوف منعه من أن يستمر في الطريق الذي اختاره بنفسه، ولم يجبره عليه أحد، ثم تتفاجأ بنشأة علاقة قوية بينه وبين الشيخ عبد الله رشدي خطيب مسجد السيدة نفيسة السابق، والمعروف بتصريحاته الجدلية خاصة في ما يتعلق بالمرأة. وعلى الجانب الآخر، نجد المدوّن شريف جابر الذي يقدّم حلقات متنوعة تنتقد الأديان، والذي تلقى تهديداً بالقتل.
ثمة أوهام نفسية تقود الأشخاص الذين تركوا الإيمان بالله إلى العودة في البحث عن الإله من جديد. معظم هؤلاء الأشخاص تكون أعمارهم تحت سن الـ25 عاماً، ويكونون مراهقين في أفكارهم، ومراهقين في قراراتهم، ومتسرعين دائماً. إذ إن بعض الضغوط الأسرية، والحدود الثقافية في بلادهم، تجعلهم يتمردون على تلك الأعراف، من خلال الكفر بكل ما هو موروث، سواء أكان عرفاً مجتمعياً، أو عقائدياً.
كيف للرب الرحيم أن يحرق نفساً لم تذنب، لكي يعطي نفساً مذنبة درساً في الإيمان كي تتوب؟
سألت أحد الأصدقاء، وهو شخص ملحد، عن الأسباب التي قد تدفع بالملحدين للعودة إلى الدين، أو البحث عن "الله"، فقال: "الوهم". نعم، هو يقصد ذلك الوهم الذي يتخيله الشخص الذي انقطع عن الصلاة، وقد اعتاد عليها، ثم بعد الإلحاد لم يعد يسجد لربّه، أو حتى يناجيه، فإذا سعى إلى تحقيق هدف، وتعثر في طريقه، ظن أن بعده عن الله هو الذي منعه من تحقيق حلمه. ما يستوجب عليه فعله في هذه الحالة هو البحث بشكل جدي عن وسائل تحقق له أهدافه من دون انتظار قوة خارقة تنصره. قد تكون هذه الحالة سائدة بين الملحدين من الشباب. فكيف نفسر عودة الأشخاص الطاعنين في السن، الذين يمرون بالموقف نفسه إلى الإيمان، مثل الممثل المصري الراحل محمود الجندي، الذي كان قد أعلن إلحاده، وبعد فترة حدث حريق في منزله تسبب في موت زوجته. جاءت النار على كل شيء في المنزل باستثناء المصحف، وقد ظن أن ما حدث رسالة من الله لكي يبتعد عن طريق الكفر، ويعود إلى الإيمان. ربما لم يفكر أن غلاف المصحف مصنوع من مادة مضادة للاشتعال، بل اعتقد أن الحريق الذي راحت ضحيته زوجته، هو الذي أنقذه من الكفر. كيف للرب الرحيم أن يحرق نفساً لم تذنب، لكي يعطي نفساً مذنبة درساً في الإيمان كي تتوب؟ السبب المنطقي هو عامل السن، فالبعض يعودون إلى فكرة الإيمان بالبعث والخلود بعد الموت، ويهتدون إلى الله كي يدخلهم الجنة، ويرحمهم من هلاك النار.
قد يكون التمرد على النصوص الدينية، أو رجال الدين، هو أحد أبرز الأسباب التي تجعل الأشخاص يتجهون إلى الإلحاد. وغالباً ما يندفع هؤلاء إلى التمرد على السلطات بأنواعها كلها. بعد سلطة الدين، تأتي سلطة النظام الحاكم، وما إن يقع أحدهم في هذه المصيدة، حتى يعود إلى البحث عن الله كي يجد ملاذاً يشكو إليه قلة حيلته.
قد تكون عملية البحث عن الله، لدى العائدين إلى الدين، فكرة تراود كل إنسان ذي عقل. وكلما بحث الملحد من جديد عن الله، يضع دليلاً على حسن صدقه. لا بد وأن يكون الأمر هذا غريباً على المؤمنين، لأنهم لم يعتادوا البحث لا عن إله، ولا عن صحة دين، ولا حتى عن أنفسهم. فهم لا يفكرون لأن رجال الدين يفكرون بدلاً عنهم، ولا يفهمون لأن رجال الدين يفهمون بدلاً عنهم.
لذلك تُعد فكرة وجود الإله، مريحة نفسياً. نحن تعودنا دائماً، منذ الطفولة، على رعاية الأب والأم لنا في كل خطوة. يفتقد الإنسان تلك الرعاية كلما كبر، وبعدها يبحث عن أب جديد، فيتوهم أنه يدعمه ويساعده. وقد يكون ذلك هو السبب الرئيسي الذي يجعل الملحدين يعودون إلى البحث عن الله. لكن هذا لا يعني أننا ننفي أو نثبت وجوده. ثمة من يميل إلى الفكرة، ويستريح لها. وثمة من هو رافض لها تماماً لأسباب مختلفة.
قد لا نجد دليلاً ملموساً على وجود إله، كذلك، قد لا نجد دليلاً على نفي وجوده. فهو صعب الإثبات، كما أنه صعب النفي. كل ما علينا الآن هو فهم هذه القاعدة، لنفهم المنطق. وبمعرفة هذا المنطق، تتسنى لنا معرفة الغاية من وجود الخلق، وعندها نحاول أن نقضي على المجهول الموجود في دواخلنا، والمجهول الذي ينتظرنا، علّنا نصل إلى مقدمات الحقيقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...