لم يعد نجوم السينما والفنون والرياضة يشكلون مصدر الإلهام الوحيد بالنسبة للمراهقين والشباب الباحثين عن هويتهم. تنافسهم في ذلك اليوم شخصيات افتراضية مولودة من رحم السخرية، وبالتحديد "ميمز" شائعة على منصات التواصل، لا سيما تيكتوك وريديت وتمبلر.
الميم، بلغة الإنترنت، هي الدعابة الإلكترونية التي يُعاد نشرها بنسخ وتعديلات لامتناهية حتى تتخذ طابعاً كونياً. لكن جذور هذا المصطلح تعود إلى كتاب "الجين الأناني" (1976) الذي وازى فيه عالم الأحياء ريتشارد دوكنز، بين الجين بوصفه وحدة نقل بيولوجي والميم باعتبارها وحدة نقل ثقافي. كان ذلك قبل استقدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث اكتسب هذا الناقل الثقافي تعريفاً محدداً.
يصيب تعريف دوكنز، وإن كان سابقاً للميم نفسها، في وصف الأثر الثقافي لهذه الأداة التي أضحت من أبرز وسائل التعبير ومقاربة الواقع. ومع تضمينها الكثير من المعاني السياسية والاجتماعية والثقافية والجنسية، أمست "الميمز" مصدراً لضخِّ الهويات الرقمية، التي أخذت تتكاثر وتتفرّع، ووجدت بين الجموع الهائمة في الفضاء الافتراضي الكثير من المتماهين معها. من بين هذا الشخصيات يمكن ذكر الفتى والفتاة الرقمي/ة ((e-boy/e-girl، الدومر (doomer)، والبومر، والغلومر والبلومر... الخ.
لم يعد نجوم السينما والفنون والرياضة يشكلون مصدر الالهام الوحيد بالنسبة للمراهقين والشباب الباحثين عن هويتهم. تنافسهم في ذلك، اليوم، شخصيات افتراضية مولودة من رحم السخرية، وبالتحديد "ميمز" شائعة على منصات التواصل لا سيما تيكتوك وريديت وتمبلر
البومر
الإنسان الرقمي
بالرغم من تنوع النماذج والنسخ، تحمل شخصية الإنسان الرقمي سمات ثابتة إلى حد ما، وهي كالتالي: ملابس أشبه بأزياء تنكرية تمزج بين موضة الـ goth والـemo وملابس شخصيات الكرتون، سلوك جنسي وإغوائي يترافق مع مظهر طفولي، الدافع للفت انظار المجتمع الإلكتروني ولا سيما لاعبي الألعاب الإلكترونية. وفي مقابل حب الظهور الإلكتروني، يتمتع هذا النموذج بشخصية انطوائية في العالم الواقعي، يمضي معظم وقته في الغرفة منغمساً في الألعاب الإلكترونية، ويشكو الوحدة والكآبة.
e-boy
يجد الإنسان الرقمي جمهوره على تيكتوك، وهو يتألف بالدرجة الأولي من المراهقين أو ما يعرف بأبناء الجيل Z. وتكاد تكون هذه الشخصية مستقلةً عن الجندر، باستثناء بعض الفروق الجمالية بين الفتى الرقمية والفتاة الرقمية. يُلحظ لدى الفتاة الرقمية مبالغتها في التوكيد على الطابع الكاريكاتوري لمظهرها وحركتها الجسدية أمام الكاميرا، بشكلٍ يحاكي فتيات "الإنيمي" (الكرتون الياباني) اللواتي يجمعن بين الطفولية والإثارة الجنسية.
تفرط في وضع الماكياج لكنها تستخدمه بطرق غير تقليدية، أي غير تلك المعتمدة من "جميلات" إنستغرام. شعرها متعدد الألوان، وجميعها فاقع. عيونها مؤطرة بكحل شديد السواد وكأنها المرأة الحديدية، ووجنتاها مطليتان بلون زهري وكأنها خدود طفل حديث الولادة. أما نظيرها الذكري، فهو يتمتع بشخصية الصبي الرقيق (softboy)، يرتدي الأسود دائماً، يستمع إلى الموسيقى الحزينة ويلجأ إلى الإنترنت للتعبير عن نفسه.
بهذه الصفات، يجسّد فتيان وفتيات تيكتوك نقيض الثقافة الجمالية السائدة إلكترونياً والتي يضع أطرها مؤثرو ومؤثرات إنستغرام ذوو الصور المنمقة وأسلوب الحياة المثالي. وهذا الأمر لا يقتصر على المظهر الخارجي فحسب بل يعكس أيضاً الذهنية التي يعبر عنها كل من النموذجين، إذ يصور لنا نجوم إنستغرام حياتهم وكأنها عطلة صيفية لا تنتهي، في حين أن نجوم تيكتوك يشكون حزنهم واغترابهم.
الإنسان المنكوب
من جهةٍ أخرى، يقدم جيل الميلينيالز (أي مواليد التسعينيات) نموذج مختلف للثقافة المضادة. نتحدث هنا عن بشخصية الـ doomer (المنكوب) التي تعبر عن شريحة من الشباب اليائس وغير المحب للظهور الإلكتروني.
اشتهرت هذه الشخصية من خلال رسم كرتوني رديء يُظهر شاباً يرتدي الأسود على الدوام، مظهره رث ومهمل بعض الشيء، السيجارة لا تفارق فمه، وتظهر تحت عينيه علامات البكاء وقلّة النوم. وإن كانت الشخصية الرقمية ترتكز على السمات الجمالية والجسدية، فإن الملامح العامة للشخصية "المنكوبة" تتعلق بالجوهر الذهني والنفسي للإنسان الحديث الذي يواجه صراعاته الوجودية.
e-girl
ينظر "الدومر" إلى العالم بنظرة سوداوية متشائمة، عاجزاً عن إيجاد أي هدف للاستمرار. هو نقيض "البومر" (مصطلح يصف الجيل الذي ولد بين أربعينيات وستينيات القرن الماضي) الذي يحيا في حالة من الإيجابية الساذجة والتفاؤل الناتج عن الجهل، ويجد نفسه أهلاً لوعظ الأجيال الصغرى التي ورثت الخراب عنه وعن رفاق جيله.
الفرق بين "البومر" و"الدومر" هو أن الأخير قد وُلِد في التسعينيات ونشأ في ربوع الإنترنت الذي أتاح له الوصول الحرّ إلى كمٍّ غير مسبوق من المعرفة، معرفة كانت كفيلة بتغيير الطريقة التي ينظر بها الناس إلى العالم. ومع تحول شاشة الحاسوب إلى نافذة مفتوحة على شتى مظاهر الفوضى والعبث التي تسكن عالمنا، أدركت شريحة واسعة من جيل الميلينيالز أن النظرة الإيجابية التي يتمسّك بها الجيل الأكبر ويصوّر بها الأمور لم تعد تتناسب مع العالم الجديد وهي بحاجة للتجديد، وان كان ذلك معناه التوجه نحو العدمية.
أما النسخة الأنثوية من "الدومر"، فقد جاءت لاحقاً على شكل دعابة ميزوجينية (معادية للنساء). خرجت هذه النكتة من موقع 4chan، حيث أخذ المستخدمون يشاركون كاريكاتور "أنثى الدومر" باعتبارها النظير المطابق للشاب الدومر، الا أنها تظن نفسها أعلى شأناً منه وتعامله بازدراء.
الميم، بلغة الإنترنت، هي الدعابة الإلكترونية التي يُعاد نشرها بنسخ لامتناهية. لكن جذور هذا المصطلح تعود إلى كتاب "الجين الأناني" الذي وازى فيه عالم الأحياء ريتشارد دوكنز، بين الجين بوصفه وحدة نقل بيولوجي والميم باعتبارها وحدة نقل ثقافي
تأتي هذه الميم في سياق سلوك ذكوري كثير الانتشار على السوشال ميديا، ناتج عن عدم قدرة بعض الذكور على تقبّل رفض النساء لهم، فيبدون ردات فعل دفاعية وغير مناسبة كالتنمّر والتشهير. كما يعمدون لنسج أسطورة ذاتية تشيطن النساء وتظهر الرجل في موقع الضحية، وذلك بالرغم من سلوكياتهم العنفية.
وفي غضون أيام، انتقلت هذه الميم من فور تشان إلى ريديت وتمبلر وإنستغرام وتويتر، ولاقت رواجاً واسعاً، لا سيما لدى النساء اللواتي وجدن فيها نموذجاً محبباً، ما أدى لانتزاعها من جذورها الذكورية وتغيير السردية المحبوكة حولها. إلا أن هذا التحول من أداة للإهانة والاستهزاء إلى شخصية شعبية ومحبوبة لم يرق لرواد الدوائر الذكورية على السوشال ميديا، لا سيما أولئك الذين يدّعون ملكية وبراءة اختراع الميم الأساسية، فعمدوا إلى حظر استخدامها ومشاركتها طالما أنها لا تطابق سرديتهم الأصلية.
من جهة، تطمس الميمز الفروقات بين أطياف الأنواع الاجتماعية، فنرى مثلاً أن النسختين الذكرية والأنثوية من الميم نفسها متقاربتان إلى حد بعيد. ومن جهة أخرى، تتجلى عبرها التوترات والمشاحنات الجنسية بين هذه الأطياف، ولا سيما الذكور والإناث المغايرين/ات جنسياً، كما نرى في مثال "الدومر غيرل". إلا أن هذه الدراما الجنسية تبقى غير متكافئة بسبب اختلال التوازن بين الطرفين. فنرى لدى الفتاة الرقمية مرونة خلّاقة وميلاً للتمسرح وتجسيد الأشكال الأكثر غرابةً واثارةً. في المقابل، تتصف شخصية الفتى الرقمي، كما حركته الجسدية، بالصلابة والميكانيكية والانطواء على الذات.
تطمس الميمز الفروقات بين أطياف الأنواع الاجتماعية، فنرى مثلاً أن النسختين الذكرية والأنثوية من الميم نفسها متقاربتان إلى حد بعيد
لعل أبرز من التفت إلى هذه الظاهرة هو اليوتيوبر ومحلّل الميمز كريس غابريال الذي تساءل عن سبب عدم مشاركة رجال اليوم في "الدراما الجنسية المذهلة" التي عهدتها الأجيال السابقة، حيث كان لكل نموذج هوياتي أنثوي نظيره الذكري (الإيمو، البانك، الغوث...)، وقد وصل غابريال إلى استنتاج يفيد بأن "الرجل المعاصر الذي يصح عليه وصف الدومر هو شخص غير قادر على التفاعل مع الواقع. بالرغم من أنه يملك رغبة جنسية لكنه لا يملك الشخصية الجنسية التي توفر له أدوات التواصل الجنسي مع الآخرين. هو مرء قد فقد روحه".
قد يحمل الزعم الأخير بعضاً من المبالغة أو السوداوية، لكنه مستمد من استخدام المحلل النفسي كارل يونغ لمفهوم الروح في سياق نظريته حول الأنيما والأنيموس، أي الروح الأنثوية للرجال والروح الذكرية للنساء. ويشبه يونغ "الأنيما" بالمرأة الراقصة التي تقطن داخل الرجل: "فلطلما رقص الرجال مع الأنيما الخاصة بهم"، يقول غابريال.
"لكن هذه الروح لم تعد موجودة داخل أجساد الرجال المعاصرين إنما في مصفوفتهم التكنولوجية، ما يجعل الرقصة الجنسية على درجة عالية من الصعوبة. بالنتيجة، يتحول ذكور الإنترنت إلى رجال كارهين للنساء ومخلصين لأمهم الرقمية التي قد لا يتمكنون يوماً من الإفلات منها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...