ربما لم يكن العالم ليتعرّف إلى نفسه وتفاصيله لولا المرآة؛ هذا الكائن الآخر الذي يعيش معنا يوماً بيوم، والذي تشبه نشأته نشأتنا وتطور معرفتنا. هذا الكائن الذي أصبح مع صيرورة الزمن رقيقاً وهشاً وبارداً وأملس، بعد أن كان خشناً وداكناً وجلفاً. نقف أمامه بكل بساطة، نتعرى، نتفقد أجسادنا: إلى الأمام قليلاً، إلى الوراء قليلاً، ننظر إلى المناطق السرية، ونتلصص عليها. نرقص، وأحياناً نصرخ. ننظر إلى وجوهنا بكل ما تحمله من حزن وفرح وألم وخيبة وخسارات، لنسأل هذا الكائن التعس المسجون معنا، ولا يغادر أبداً سجنه، والذي يعتقلنا داخل الصورة التي نحنّ إليها، منذ أن كفّ الآخرون عن التأمل في وجوهنا: من نحن؟
ألهمت المرآة الفلاسفة والكتاب والمفكرين والشعراء، ولا سيما في القرن الماضي، حين برزت بشكل واضح وطاغٍ، فحملت عناوين كتب وأفلام. يكاد يكون هذا المشهد في السينما، وفي التلفاز أقرب إلى المقدس، وجزءاً أصيلاً منه. كذلك الأمر في الرواية والقصة والمسرح والشعر. هو تلك الصورة/ المشهد الخالدة بين الفرد/ الإنسان، والمرآة. وفي الغالب يطغى على هذه الصورة، أو اللحظة، أو المشهد، طابع الاغتراب، أو التساؤل، أو الصدمة الناتجة عن اكتشاف عميق في الذات، أو يمكن أن نسميه الوعي. لكنها المرآة، وعلى الرغم من كل ذلك، تظل فارغةً إلى أن نأتي نحن، فنصنع لها معنى وظلاً داخل ظلها.
نطل نحن النساء على المرآة صباحاً، لنتأكد أننا لم نفقد شيئاً منا البارحة، وأن شيئاً لم يتغير
المرأة والمرآة
على الرغم من برودة المرآة، إلا أن النساء يستطعن أن يجعلن منها كائناً دافئاً يعشن معه كل يوم، وهن ممتلئات بالخوف من ألا يتعرفن في اليوم التالي إلى الكائن الآخر/ الصورة المنعكسة في المرآة. صديقتي مهووسة بعلاقتها مع المرآة. لا تستطيع أن تجلس من دون أن تحمل مرآة في يدها. أما صديقتي الأخرى، ففي كثير من الأوقات، تمارس في الحمام أمام المرآة عادتها الممتعة في نزع الرؤوس السوداء عن جلدها، والتي إن لم تكن موجودة، دخلت لخلقها. أما أنا، فبالكاد أمر على النافذة مساءً، أنظر إلى انعكاس جسدي في كل الاتجاهات كما تفعل تماماً عارضة أزياء أمام عشرات المرايا.
هكذا نطل نحن النساء على المرآة صباحاً، لنتأكد أننا لم نفقد شيئاً منا البارحة، وأن شيئاً لم يتغير. وبلا وعي نصرخ عندما نرى خطاً تعبيرياً يبدو واضحاً، أو حين نكون متعبات لأننا لم ننم جيداً في الأمس. نعيش مع هذا الكائن الآخر في المرأة، الكائن الذي هو نحن، ذاك الخائف المضطرب الذي يتلصص على الزمن، ويحاول طمس حقيقته. نهرب إلى عيوننا، ونقول كم نحن جميلات، ولم نشخ بعد. يا لروعتنا، لقد وصلنا إلى ما نحن عليه من دون أن نكبر كثيراً. هكذا نراقب تجاعيدنا مثل شرطي مرور. وفي مرات قليلة نقول إننا نحب أنفسنا، وإننا هذا الصباح طريّات مثل الحبق، ولذلك يمكننا أن نخرج بفوضانا كلها، ونحن مفعمات برائحة السرير على أجسادنا.
تمثّل المرآة للمرأة الزمن الثقيل، وانعكاس الحياة والواقع؛ كيف يمر الزمن عليها، فوق المرآة، أو من خلالها؟ هكذا يتلاشى فعل الزمن الجوهري ليصبح خارجاً مطلقاً. وعليه يفقد الزمن قيمته كأثر نفسي، ليتحول إلى عامل جسدي تستغرق فيه المرأة الوقت كله، وتتوقف عن الاستغراق في بقية التحولات، والتغييرات العميقة التي تساعدها على إطلاق العنان لحياتها، فتجد نفسها محاصرة بلعبة من هي الأجمل يا مرآتي؟ أنتِ يا مولاتي!
نهرب إلى عيوننا، ونقول كم نحن جميلات، ولم نشخ بعد. يا لروعتنا، لقد وصلنا إلى ما نحن عليه من دون أن نكبر كثيراً. هكذا نراقب تجاعيدنا مثل شرطي مرور
الرجل والمرآة
في الأسطورة فحسب، مات نرسيس، لأنه نظر إلى صورته. إلى انعكاسها في المرآة. ولعل الرجال تعلموا الدرس من تلك الحكاية؛ الشر يكمن في المرآة. لذلك يمرون في الغالب عليها، خفافاً، ومسرعين ليضبطوا لحاهم، أو قبّات قمصانهم. يقول نجيب محفوظ: "ينبغي أن تكون المرآة آخر ما أحزن عليه، لن تعكس لي وجهاً أُسرّ به، الخفة أنفس من الجمال!".
يكمن الزمن بالنسبة إلى الرجل في ما يصنعه، فيجد نفسه طوال الوقت في صراع مرير معه، يمضي يومه في محاولة هزيمته عبر تجاهله، وعدم الاعتراف به. وأما أكثر الرجال التصاقاً بالمرآة، فهم الحائرون الملهمون من الشعراء والكتاب والمتصوفة الذين كلما صفع واحد منهم فكرة، قال: هي مرآتي، أو قابل امرأة، قال: هي مرآتي، وقد وجدت نفسي فيها. أما الرجال الذين دخلوا لعبة الشركات، فأصبحوا وجوهاً تتكسب من صورها التي تستلزم منهم أن يصاحبوا المرآة طويلاً، ويخضعوا لسلطتها.
ما يقدّمه الأدب، وما تقدّمه الفنون بأنواعها كافةً، هو مرآة ليس لعقل صانعها فحسب، بل للمجتمعات التي تنتجها أيضاً. فالفنون المليئة بالعنف، والكراهية، والغضب، والسخرية، والسخافة، والسطحية، والضعف، ليست إلا انعكاساً لصورة المجتمع وقيمه التي ينبغي فهمها، كما ينبغي مسحها، كي نرى الصورة على حقيقتها واضحة. ولكن أسوأ ما في هذه الصورة، حين تعجبنا، فندخل في عشقها، كما هي الحال مع مجتمعاتنا التي تحب ما هي عليه من قيم فاسدة ترفض التخلي عنها، وتعتقد أنها مطلق الخير والكمال والمثالية، فتكاد تكون لديها هوية أخرى تعبّر عنها، بل تسعى جاهدةً لتثبيتها. يقول محمود درويش: "الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة". لكننا لا نستطيع أن نحطم الصورة. فما الذي يبقى منا عندما نصبح بلا صورة؟ نصبح أفراداً بلا هوية، وبلا انعكاس، أفراداً بلا مرآة نقف أمامها، ونصرخ: نحن هنا، نحن موجودون، لأن لنا ظلا في المرآة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...