إذا عدنا بالزمن إلى الخلف، سنجد أن السر وراء استمرارية أي علامة أزياء، هو استغراق المصمم في تفاصيل بيئته الخاصة، في إرثه وتاريخه وانطباعاته الحميمة الأولى.
كريستيان ديور لجأ إلى طفولته في جنوب فرنسا، إلى زهرته المفضلة وأجواء الطبيعة في ريف مدينة غراس. وإلى اليوم، لا تزال العلامة تتلصص وتسترق النظر إلى مذكراته ورسوماته المزاجية، وحتى موتيفات ورق الحيطان الذي كان ينتقيه، كي تدمج هذه المفردات في المواسم الجديدة.
ولعل الانغماس في الشخصي هو ما يمنح كل علامة تميّزها؛ مصممة المجوهرات المصرية عزة فهمي على سبيل المثال، وصلت إلى العالمية من ورشة صغيرة في بولاق، وقدّمت تصميمات ذات أبعاد شكلية وجمالية مخالفة ومثيرة مستوحاة من تاريخ مصر القديمة وموروثها الحكائي.
لتلفت الأنظار في حفلات الأوسكار ومهرجان كان، ولتصبح وجهة للمصممين والمشاهير المفتونين باستخدامها للخط العربي والشعر والأمثال، بالإضافة إلى التقنيات اليدوية التي تكاد تضمحل، مثل النشر والشفتشى وتركيب الأحجار.
يتردد اسما المصريتين آية وموناز عبد الرؤوف في أوساط الموضة العالمية، بعد أن أصبحت تصميمات علامتهما التجارية "أختين" للحقائب الجلدية شغفاً جديداً لدى نجمات هوليوود. رأيناها في يد كل من بيونسيه، إيما واتسون، بريتاني سنو، جيجي حديد وغيرهن
اليوم يتردد اسم كل من آية وموناز عبد الرؤوف في أوساط الموضة العالمية، بعد أن أصبحت تصميمات علامتهما التجارية "أختين OKHTIEN" للحقائب الجلدية شغفاً جديداً لدى نجمات هوليوود.
رأيناها في يد كل من بيونسيه، إيما واتسون، بريتاني سنو، عارضة الأزياء جيجي حديد وغيرهن من اللواتي أغواهن المزج بين الكلاسيكي والحديث. فآية بطبعها تميل إلى المظهر البسيط الأنيق والإكسسوارات ذات الأسلوب المينيمالي المنضبط، في حين أن موناز تحب مزج باليت الألوان بطريقة بوهيمية متحررة. ولا بد أن تثير هذه اللعبة بين الأختين شهوة المغامرة والتجريب والدخول إلى عالم التصميم من بوابات غير معروفة.
علامة OKTEIN: قصة نجاح "رومانسية" تبدأ بضربة حظ
قصة المشروع تحتاج إلى كوب آيس كريم، فتفاصيلها لا تخلو من تلك الأجواء التي نجدها في الـ"feel good movies". بدأ حلم الأختين برأسمال لا يتعدى خمسة آلاف دولار، قدمته لهما العائلة وفتحتا به ورشة صغيرة كانت عبارة عن غرفة تحتوي ماكينتين فقط لتصنيع الحقائب.
ولم يكن الهدف الربح السريع أو صناعة ماركة جديدة وحسب، بل أيضاً الالتزام بقضايا المرأة من خلال التعاون مع مجموعة من المنظمات المحلية غير الحكومية التي تعمل على تمكين النساء اللواتي يواجهن مصاعب مالية كبيرة.
درست آية تصميم الغرافيك في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بينما درست مناز التسويق والفنون، وتخرجتا عام 2013 ليبدأ إنشاء مشروع لتصنيع حقائب نسائية بخامات عالية الجودة دون عيوب في التصميم والحياكة.
أرادتا أن تعكس التصاميم بنية تاريخ المنطقة وتراثها البصري، فكان البحث منصباً على استكشاف الأماكن الأثرية الإسلامية، وخاصة شارع المعزّ في القاهرة القديمة الذي أُطلق عليه لقب "أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم"، حيث تنتشر المساجد والبيوت المبنية على الطراز الفاطمي، وتصطف على جانبيه محلات الحرف اليدوية التقليدية وورشات صناعة النحاس.
كان هذا الشارع أقرب إلى صندوق فرجة تتكوم فيه حكايا وتفاصيل وتعاويذ وتواريخ جمعتها الأختان بإحساس غريزي، لتحصلا على الخلطة السحرية: حقيبة جلدية بإطارات من النحاس المنقوش، ويد معدنية كتلك الموجودة على أبواب المساجد في شارع المعز.
ورغم عدم حصولهما على أي استثمارات أو دعم مادي خوفاً من التضييق على حريتهما الإبداعية، نما رأس المال بالتدريج من خلال المبيعات التي ارتفعت بشكل مجنون، بعد أن نشرت بيونسيه ثلاث صور لها على صفحتها في إنستغرام وهي ترتدي إحدى حقائب علامة "أختين"، كانت منسّقة أزيائها قد عثرت عليها صدفة بأحد المحلات في لوس أنجلوس.
ومع نموّ الأعمال وازدياد الطلبات الدولية، استحوذت العلامة على مكان في السوق وافتتحت ورشاً ومتاجر، وكان هذا يمثل نجاحاً مدوّياً، ليس فقط لرائدتي الأعمال اللتين انضمتا لقائمة فوربس للشباب الأكثر تأثيراً لعام 2018، بل لكل السيدات اللواتي شاركن في صنع هذه الحقائب وتعاملن مع كل واحدة منها وكأنها قطعة فنية، فقد يستغرق تصنيع الحقيبة الواحدة شهرين لدقة الزخارف على الجلود والنحاس.
تمكين المرأة المصرية
تقول الأختان عبد الرؤوف: "نحن نؤمن بأن التفكير الإيجابي يجلب الأشياء الإيجابية. هدفنا كان واضحاً منذ البداية، وهو وضع اسم براند مصري على خريطة الموضة العالمية، ولم يكن من السهل القيام بذلك، لكننا قررنا أن حجر الأساس سيكون الحرفة المصرية اليدوية، لذلك تواصلنا مع سيدات يقطنّ في قرى ومحافظات مصر، وقمنا بتدريبهن جيداً".
تعكس تصاميم "أختين" بنية تاريخ المنطقة وتراثها البصري، فكان البحث منصباً على استكشاف الأماكن الأثرية الإسلامية، وخاصة شارع المعزّ في القاهرة القديمة الذي أُطلق عليه لقب "أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم"
الخطوات الأولى كانت دراسة قامت بها الأختان، لمعرفة الصنعة التي تشتهر بها كل محافظة من محافظات مصر، ثم البدء بتصميم الحقائب وإدخالها إلى أكثر من ورشة عمل، للصباغة والتطريز وتركيب الحلي المعدنية وغيرها، لتتطور العملية فيما بعد وتمرّ الحقيبة الواحدة بـ11 ورشة مختلفة.
الأمر لا يقتصر على مجرد شغف بالموضة، بل أيضاً وعي بمدى ارتباطها بالمجتمع، ولعل ذلك يظهر في الميل الدائم للاستفادة من التراث واستخدام معطياته بطريقة ملهمة، ثم استغلال المشروع لمساعدة النساء اللواتي يحاولن تسديد ديونهن، بجمع المال من الأعمال اليدوية التي يستطعن القيام بها داخل بيوتهن مثل التطريز.
وقد اعتمدت المجموعة الأخيرة على سبيل المثال الدمج بين الجلد وفن "التلي"، وهو نوع من التطريز بخيوط معدنية فضية وذهبية، تتميز به نساء محافظة أسيوط. وقد رفعت هذه المهارة الحرفية نسبة المبيعات بشكل كبير خاصة في أسواق إنجلترا وأمريكا.
ونستطيع أن نقول اليوم إن علامة "أختين" تمكنت من إرضاء طيف واسع من الأذواق والتواجد في 10 أسواق عالمية غربية، أبرزها فرنسا وأمريكا وإسبانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى الأسواق العربية، مثل الكويت، السعودية ولبنان، إلى جانب الاشتراك بشكل منتظم في أسبوع الموضة في باريس ولندن، ونيل العديد من الجوائز، مثل جائزة "فوغ" العربية لأفضل مصمم بالشرق الأوسط لعام 2016.
ولا تضم المنتجات حقائب من الجلد الطبيعي فقط، بل تشمل حقائب قماشية وحقائب للمكياج وأخرى من الخوص الذي تشتهر به مدينة الفيوم المصرية. وتسعى العلامة اليوم إلى التوسع، ليس فقط من خلال اتفاقات التعاون والشراكات وافتتاح متاجر جديدة، ولكن بملامسة خطوط "لايف ستايل" أخرى مثل الأزياء والديكور، مع الحفاظ بشكل أساسي على هوية الدار.
مجموعة تراعي مبادئ الاستدامة
لنلق نظرة أولية على المجموعة الجديدة لموسم ربيع وصيف 2021 التي حملت اسم Re-connect واستوحت تصاميمها من الطبيعة والحياة البرية التي يتوق إليها معظم الناس، في ظل استمرار تطبيق إجراءات الحجر المنزلي والإغلاق. نلاحظ أن الشقيقتين لم تقدّما لهذا الموسم نماذج جديدة، بل ركّزتا على فكرة الالتفات وإعادة النظر إلى الماضي، والاشتغال على التصاميم الأولى لإعادة خلقها وفق رؤية جديدة.
ثمة انسحابٌ إلى الداخل، عزلة مُركّبة أسست لهذه المجموعة التي بقيت محتفظة بطابعها الكلاسيكي الذي بات أيقونياً.
لكن هذه التشكيلة التي تستوحي مفرداتها من الطبيعة، تتميز بالإضافات اليدوية واستخدام مواد عضوية؛ إذ تمّت صياغة جميع القطع من مواد صديقة للبيئة، مثل ألياف نخل الرافية الاسباني والهندي.
وهذا بالضبط ما يُبرز الجوهر الحقيقي للعلامة التي تقدّم حقائب عملية بأشكال انسيابية، تبدو بسيطة، لكنها في نفس الوقت مشغولة بأسلوب عصري وألوان ترابية تناسب كل الأذواق. وتضيف الأختان: "مجموعتنا لهذا الموسم هي احتفاء بالأرض وبتراثنا وإحياء لفكرة الاعتناء بأنفسنا وبالبيئة".
جاءت الحملة الترويجية متناسبة مع هذه المفاهيم، تم تصويرها في موقع جبلي يمثل الطبيعة البكر مع العارضة أثيك تشول ماليل، التي ظهرت ممسكة بالحقائب وهي ترتدي عباءات مستوحاة من الطراز البيزنطي. ويبدو أن عين الفوتوغرافي المغربي موسى المرابط لم تخطئ فكرة الارتباط بالجذور واحترام الطبيعة الأم، حرّك المجموعة وصاغها في مشهديات اختبارية ممسوكة بإيقاع ولغة بصرية على درجة كبيرة من الحيوية.
الحسّ الإفريقي المتمثّل في ألوان ترابية وتزيينات شعبية سيضعنا أمام فرجة ممتعة، وستلفتنا في هذه المجموعة حقيبة Terra التي سبق ورأيناها في التشكيلات السابقة، لكنها تظهر هذه المرة بنسخة مُطوَّرة، مشغولة يدوياً على يد حرفيين في الهند. وتأتي في ثلاث تصميمات مطبوعة ومستوحاة من الصور المجهرية لجسم الإنسان.
حمّالة اليد متعرجة جذابة، والطيات الطرية في المنتصف تزيد من الحميمية بين الحقيبة وحاملتها، مع شعار العلامة الجديد الذي يتميز بقضبان معدنية لا تزال متصلة ببعضها البعض على الرغم من تباعدها.
أما حقيبة The Zayan فقوامها الاختزال، مصنوعة من جلد البقر مع هيكل ذهبي ولون مستوحى من لون الأرض. إنها حقيبة خالدة الأناقة، بتصميم يعيد إلى الذهن الحقائب الفينتيج التي حملتها أمهاتنا، بلمسة جديدة مرِحة. ونلاحظ أن المنهجية والعقلانية والدقة في التنفيذ تمنحها استقلالية فريدة.
وتبقى حقيبةThe Oval Palmette Minaudière واحدة من القطع الكلاسيكية للعلامة، صغيرة وصلبة تصلح للسهرات، ولعلها الحقيبة الوحيدة في هذه المجموعة التي لم يتغيّر تصميمها السابق. هي القطعة الفنية التي صنعت مجد "أختين" ومكّنت من إبراز مهارة وقدرة الصانعات. وقد أصبحت جزءاً أصيلاً من مشروع فنّي شاب يحاول تقديم منظور جمالي مختلف.
وتفتخر علامة "أختين" بأن مبيعاتها تنافس غوتشي ولوي فيتون على مواقع التسوّق، مع اختلاف أنها تباع بأسعار في متناول كل الإمكانيات، رغم تصميمها الجذاب وخاماتها عالية الجودة التي تتخطى صيحات الموضة المؤقتة والاتجاهات الموسمية لتبحث عن التميز. ولا تعتبر "أختين" الحقيبة مجرد قطعة إكسسوار كمالية، بل عنصراً جمالياً أساسياً، يقول الكثير عن شخصية المرأة التي تختارها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...