عرفت البشرية مهنة السمسرة أو الوساطة منذ القدم، فقد جاء تفسيرها في الكثير من المعاجم العربية، وظلت لسنوات طويلة مهنة سيئة السمعة، يتهم من يعمل بها بالغش والخداع واللعب على جميع الأطراف، للخروج بأكبر مكسب. ولطالما سُئل رجال الدين عن حكم ممارستها شرعا، وهي مهنة اقتصرت لفترات طويلة على الرجال، وخصوصاً في مجال العقارات الذي يعد أشهر مجالات الوساطة أو السمسرة، لما فيه من متاعب، وإرهاق بدني وذهني.
اعتبرت مهنة الوساطة العقارية أو السمسرة منذ انتشارها في مصر في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة بأنها مهنة الخارجين على القانون، والموظفين المتقاعدين، وانتشرت بين "الصنايعية" أو الحرفيين مثل: النجارين والسباكين وأشخاص قد يفتقرون لمعرفة القراءة والكتابة، ولاتزال الدولة المصرية تحاول وضع قوانين واضحة، وتشدد على ضرورة استخراج التراخيص الخاصة بمزاولة السمسرة، ولكن لايزال قطاع عريض منها، يمارسها بعيدا عن اللوائح، والقوانين.
على الرغم من السمعة غير المحببة لمهنة السمسرة، والجدل القانوني والديني المصاحب لها، وصعوبتها إلى حد ما، إلا أنها جذبت نساء مصريات للعمل بها في السنوات الأخيرة، فأصبح لقب "سمسارة" يلي اسم الكثيرات، وخصوصاً في المدن الجديدة والساحلية.
"أدخلت طرقا جديدة للتسويق"
نسمة ياسر، 29 سنة، تخرجت من كلية الفنون التطبيقية، وتزوجت من وسيط عقاري في مدينة دمياط الجديدة. تعمل نسمة مع زوجها في شركة تسويق خاصة بهما، تقول لرصيف22: "أعمل مع زوجي منذ سبع سنوات، فبعد فترة من زواجي وتأخره المستمر عن المنزل، شعرت بالملل وطالبته بالعمل معه. وبرغم رفضه في البداية لصعوبة المهنة على النساء، إلا أنه وافق بالإلحاح، منحني الفرصة وأصبح يثق بي".
قامت نسمة بإدخال طرق جديدة للتسويق، وكسب عملاء جدد، وباتت شركتهما بارزة.
عندما دخلت نسمة مجال العمل، لم يكن هناك في المدينة، دمياط الجديدة، فتيات يعملن فيه، فقد كان مقتصراً على الرجال، وامرأة أو اثنتين متقدمتين في العمر. لذلك التجربة التي حدثت، شجعت فتيات غيرها لدخول المجال وتأسيس شركات منافسة.
مجال التسويق العقاري يتطلب النزول مع العميل لمعاينة الوحدة المعروضة، وهذا قد يعرّض المرأة لمضايقات، تقول نسمة: "على الرغم من أنني كنت سعيدة الحظ بوجود زوجي بجانبي، إلا أنه لا يلازمني طوال الوقت، فأنا أذهب للمعاينات بنفسي مع العميل، وأستطيع إن حدثت أية مضايقات أن أجبر أي شخص على التزام حدوده. كما أننا في الشركة لا نقابل العملاء بالخارج، فاذا أراد أحد أن يقوم بمعاينة وحدة ما، أطلب منه تشريفي في الشركة، وهذه خطوة هامة لا نتنازل عنها، حتى تسجّل كاميرات المكان الشخص الذي يصاحبني للموقع، فاذا ما حدث لي مكروه يمكننا التعامل معه عن طريق كاميرات المراقبة".
عندما دخلت نسمة مجال السمسرة، لم يكن هناك في المدينة، دمياط الجديدة، فتيات يعملن فيه، فقد كان مقتصراً على الرجال، وامرأة أو اثنتين متقدمتين في العمر. لذلك شجّعت تجربتها فتيات غيرها لدخول المجال، وتأسيس شركات منافسة
تتضايق نسمة من وصفها بـ "السمسارة"، وتفضل أن ينادونها بالمهندسة أو الوسيط العقاري، أخبرها زوجها أن كلمة سمسار تعني "سم" و"سار"، أي سم يسري.
أما ياسمين رأفت، 38 سنة، موظفة في الشؤون الصحية بمدينة مرسى مطروح الساحلية، فتعمل في مجال التسويق العقاري كعمل إضافي.
"أستعين برجل وبالبلوك"
درست ياسمين في كلية الحقوق في مسقط رأسها، مدينة طنطا، لكنها نقلت محل سكنها إلى المدينة البعيدة منذ أربع سنوات فقط، لأنها مناسبة أكثر لظروفها الاجتماعية، فهي امرأة معيلة، تبحث عن حياة هادئة وآمنة لأطفالها، ومكان به الكثير من الفرص، وكانت مرسى مطروح هي الأنسب.
تحكي ياسمين عن بداية تجربتها، قائلة لرصيف22: "منذ قدمت إلى مطروح، كوّنت علاقات مع العديد من أهل البلد، فساعدت الكثير من أصدقائي الغرباء عن المدينة في العثور على السكن المناسب في فترة الصيف بمطروح، والتي تعد واحدة من أجمل المصايف في مصر".
"ومرة بعد مرة، فكرت في أن أحترف الموضوع وأجعله مصدر دخل إضافي لي، خصوصاً أن علاقاتي تشعبت، وأصبح لدي العديد من العملاء الذين يطلبون مني تأجير وحداتهم السكنية أو بيعها طوال العام، وليس في فترة الصيف فقط".
مواقع التواصل الاجتماعي ساعدت ياسمين كثيراً في عملها، فهي تسوّق من خلالها، كما أنها لا تقوم بالمعاينة بنفسها، حيث استعانت برجل "ثقة" توكل إليه هذه المهمة، لكي تتجنب المضايقات.
"الأمر لا يخلو من مضايقات إلكترونية، لكن حينها يكون "البلوك" هو الحل".
تشير ياسمين إلى أن الأمر لا يخلو من مضايقات إلكترونية، لكن حينها يكون "البلوك" هو الحل.
لا تحاول ياسمين أن توسّع نطاق علاقتها، فهي تكتفي بمن هم محل ثقة، وتؤكد أن بعض العملاء لا يعرفون عنها سوى حسابها الشخصي على فيسبوك ورقم هاتفها، فلم تقابلهم ولا مرة، لكنها استطاعت بالرغم من ذلك أن تكسب ثقتهم.
أما عن عمولتها، فتحصل عليها عن طريق خدمة الدفع المسبق "فودافون كاش".
بقليل من البحث تأكدت أن هناك العديد من النساء والفتيات يعملن بمجال التسويق العقاري في مطروح، فلقد ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي العديد من نساء البلدة نفسها على العمل في المجال، تحت أسماء مستعارة، تجنباً للإحراج، كما أن أغلب بنات البلد العاملات في هذا المجال إن صرحن بهويتهن الحقيقية، يؤكدن طوال الوقت أنهن أصحاب العقارات أو يديرونها لأقاربهن كخدمة، كما لمست ذلك بنفسي، لكن الوافدات على المدينة لا يجدن حرجاً في الأمر.
لا تنزعج ياسمين من أن يلقبها أحد بالـ "سمسارة"، فتقول: "لا أجد عيباً في الكلمة، ولا أتضايق إن أطلقها أحد علي، فأنا متصالحة مع الواقع، فالمهم أن تكون سمعتي نظيفة، سواء كنت وسيطاً عقارياً في نظر البعض أو سمسارة في نظر البعض الآخر".
"أخفي هويتي منعا للإحراج"
هالة عبد الجواد، 48 سنة، مؤهل متوسط، اعترفت لي أن هذا ليس اسمها، فهو اسم مستعار اختارته لتخفي به شخصيتها الحقيقية، فهي بدأت ممارسة مهنة الوسيط العقاري أو السمسرة منذ عدة أشهر فقط، في مدينة العاشر من رمضان. إحدى أبرز المدن الجديدة في ضواحي القاهرة، الأمر لم يكن مرتباً، فهي عاشت عمرها ربة منزل، ولأن لديها أبناء كبار في مراحل تعليم مختلفة، فضلت أن تخفي هويتها منعاً لإحراج أولادها.
تحكي هالة قصتها مع السمسرة، تقول لرصيف22: "بدأ الأمر بالصدفة، حينما سألتني جارة عن شقة في العمارة التي أسكن بها، وعندما توفرت أخبرتها لكنها لم تعجبها، فأبلغتُ آخرين عنها، وبالفعل تم الإيجار وحصلت على عمولة لم أطلبها".
"الموضوع شجعني، وتخيّلت أنه سهل، فمواقع التواصل الاجتماعي يسّرت الأمر، لكن الواقع كان أكثر صعوبة. مع الوقت تعرفت إلى سماسرة بالمنطقة، وصرت أتعاون معهم ونقتسم العمولة سوياً".
لم يكن هذا العمل سهلاً لهالة، فقد واجهت العديد من القيود، أولها رفض قاطع من العائلة.
"في البداية، رفض زوجي بشدة مؤكداً أنه حرام، ورفض أبنائي خوفاً على أن تسوء صورتهم أمام الناس، كما أنها مهنة سيئة السمعة لدى البعض، لكنني وجدتها فرصة، وتأكدت من كونها ليست حراماً"
تقول هالة لرصيف22: "في البداية، رفض زوجي بشدة مؤكداً أنه حرام، ورفض أبنائي خوفاً على أن تسوء صورتهم أمام الناس، كما أنها مهنة سيئة السمعة لدى البعض، لكنني وجدتها فرصة، وتأكدت من كونها ليست حراماً مادامت تتم بالتراضي بين الأطراف. أما عن سمعتها، فالمرأة التي تعمل بها هي التي تفرض احترامها على الجميع، وأشهد أنه حتى الآن لم أتعرض لمضايقات، كما أنني لا أصعد لمعاينات أبداً، فأنا أقوم بتوصيل البائع بالمشتري، وأنتظرهم في الشارع، كما أنني أتعمد تغيير مظهري، فبعد أن كنت ارتدي الكاجوال، قررت أن أحول لبسي إلى عباءة سوداء وحجاب حتى أقطع الطريق على أي معاكسات، فأنا أعرض على الناس شققاً سكنية وليس نفسي"، على حد تعبير هالة.
أكثر ما يضايق هالة إذا تمت عملية بيع أو إيجار وحصلت على عمولتها، أن يتراجع أحد الطرفين ويقرر فسخ العقد، ويأتي ليطالبها بالعمولة، تقول: "وقتها كنت أشعر بالحرج الشديد، لكن أحد السماسرة الكبار قال لي إن السمسار زي المأذون، علاقته بتنقطع بالطرفين بعد كتابة العقد، وهي الجملة التي حفظتها جيدا وصرت أعمل بها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...