شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أحببنا فلسطين قبل أن نعرف مكانها على الخريطة

أحببنا فلسطين قبل أن نعرف مكانها على الخريطة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 28 مايو 202110:52 ص

أعاد صوت الغارة البشع ذاك الشعور الغريب مرة أخرى. فجأةً، يتدفق في روحك الخوف والهلع والترقب وانتظار اللا شيء. فجأةً، تتجمع عند حافة قلبك الأحاسيس المتناقضة جميعها، ولا تعرف بالضبط أياً منها تلوم. فيما تبدأ الأسئلة والدموع بالتراكم على وجهك الذي يفرغ من كل شيء تدريجياً، مع كل صوت لصاروخ يهبط بشراسة، فيوقف الأسئلة كلها في عائلة ما، ويسكتها إلى الأبد. أعادت صور ومشاهد الموت في غزة ملامح مشابهة لوجه بغداد أيام الحرب، ومع كل ضربة على قلب غزة، كانت أصداء وجعها تصل إلى هنا، ويمكن سماعها جيداً وبوضوح عالٍ في العراق. لم تكُ هذه الحرب البشعة التي تمارَس أمام العالم مجرد صور وفيديوهات متناقلة على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد شعرنا بروح كل من فيها. ولمسنا، من مسافة ليست بالقريبة، دموع الأمهات المفجوعات، لأن هذا الارتباط لم يكن يوماً جديداً. ففي بلادي تحديداً، كانت فلسطين، وما زالت، وستبقى، حاضرةً وبشكل يومي، حتى على ألسنتنا، بحرب أو من دونها. وعى العراقي وتربّى في مدارسه وبين أهله، منذ صغره، على مناصرة فلسطين. حتى أن أدق التفاصيل تذكّرك جيداً بها، كأن ترسم المسجد الأقصى، وعلم فلسطين في درس التربية الفنية، وأن ترى الحجارة ليس على أنها حجارة وحسب، بل سلاح كرامة وتمسّك بالأرض. أتذكر أننا، في عائلتنا، دائماً ما نذكّر بعضنا أن عمّنا الكبير ولد في عام النكبة، فيبدو الرقم 48 محفوراً في الذهن بغصّة وتساؤل واسترجاع دائم. لم يتعلم العراقيون كل هذا عن طريق صدّام مطلقاً. بل هي الفطرة الموجودة ما قبل استلامه السلطة، وتهديمه العراق. الفكرة الفلسطينية صارت مثل وشم يحفره عاشق؛ تجد شارع حيفا في بغداد، وشارع فلسطين، وقبّة الأقصى الشريف عند مدخل إحدى الأحياء السكنية، ومجلتَي "مجلتي" و"المزمار" اللتين كانتا خير رفيق لتعليمي. لقد أحببنا فلسطين قبل أن نعرف مكانها على الخريطة. لكن ارتباطي الحقيقي كان عن طريق جارتنا الفلسطينية سلمى، التي تسكن بجوار بيتنا مع عائلتها. كانت سلمى وشقيقتها تتحدثان اللهجة العراقية معنا بطلاقة، مع إضافة بعض المفردات الفلسطينية التي لم أكن أفهمها حينها. لوالدتها قدرة مذهلة على صنع وصفات الطعام اللذيذة جداً، حتى أنها كانت كلما تزور والدتي، يحضر إناء الطعام قبلها. وفي بعض الأحيان، كانت سلمى تشعر بحزن شديد كلما مازحها أحد أبناء الحي بحزّورة سمجة: فلس وقع في الطين، ماذا يصبح؟ كانت تشعر أن الكلمة جارحة، على الرغم من أنهم دائماً ما يؤكدون المزاح معها. فتنسى سريعاً وتبتسم، ثم تجلب طبق المهلبية بالهال من مطبخ والدتها، لنتشاركه جميعنا في الشارع.

هو احتلال مستمر لأكثر من سبعين عاماً، وقمع وتصفية بشرية من قِبل مجموعة من المرتزقة التي تمارس إجرامها بموافقة القوانين الدولية. هذه القوانين التي لطالما صدعت رؤوسنا بالإنسانية والأخلاقيات

عام 2003، كان القصف دموياً. صوت الغارة المفزع كان مشابهاً لما سمعته في الأيام السابقة في فيديوهات القصف على غزة. حتى أن الصواريخ ذاتها كانت تأتي من المنشأ نفسه الذي يرشق عوائل غزة الهادئة من دون رحمة. كان المشهد توأماً متطابقاً مع كل هذا. السيناريو يعاد؛ الدول نفسها التي أعلنت الحرب يومها، نجدها اليوم وبالوجه نفسه المغطى بدماء الأبرياء. لمَ يستمر القاتل في قتله؟ إلامَ يتوارى العالم مثل قطعة جليد في صيف لاهب أمام أصوات الصغار؟ هذه الأصوات التي تكسر القلب، ستحرم قاتليها النوم، وستجتمع أرواحهم للّعب في ساحات النصر، ويصل الصدى واضحاً إلى مجرمي الحرب، وصنّاع الموت والاحتلال. ما يجعل حرب 2003 تختلف عن قصف غزة هو أن أمريكا لم تكن تعرف ماذا تريد من العراق. ونحن أيضاً لم نعرف: هل هو النفط؟ الأسلحة النووية؟ صدّام؟ أم مجرد قتل لوقت الفراغ في بلادنا؟ لكن ما يحدث في غزة، هو احتلال مستمر لأكثر من سبعين عاماً، وقمع وتصفية بشرية من قِبل مجموعة من المرتزقة التي تمارس إجرامها بموافقة القوانين الدولية. هذه القوانين التي لطالما صدعت رؤوسنا بالإنسانية والأخلاقيات، لكنها انهارت تماماً، مع كل انهيار لبرج سكني في غزة.

بعد عام 2003 بسنتين أو أقل، اختفت سلمى وعائلتها من حيّنا، من دون وداع أو أحضان. كانت قبل أيام عدة تتحدث بخوف من الحرب. وأكدت أن عائلتها تفكر بالهروب إلى أي وجهة أخرى غير بغداد، ذلك أن العاصمة كانت حينها تشبه فوهة بركان؛ تنفجر كل خمس دقائق. كما أن التغير الديموغرافي بدأت ملامحه بالظهور في أحياء العاصمة بسبب عمليات القتل الممنهج. التفجيرات والتهجير والخطف، أمور كثيرة جعلتنا نعيش حالة رعب مستمر. ومن لم يُرِد حياته حقاً، ظل مكانه. لكن هنا تحديداً، وفي تلك السنوات، كان الموت عشوائياً جداً، فلم يفهم الشعب العراقي وقتها ما الذي يحصل. وكان مهيّأً لاستقبال أي فكرة، حقيقية كانت أم خادعة، لاستيعاب ما يحدث. كما أن بعض التفجيرات كانت -حسب أحاديث قنوات الأخبار- تحدث من قبل انتحاريين قادمين من بلاد أخرى: مرة سعوديّ، ومرة شيشانيّ، ومرة فلسطيني. ولا أعلم بعد هذه السنوات الطويلة، وما شاهدناه من ظلم المسؤولين العراقيين، إذا كانت القنوات والحكومة تتعمد ذكر ذلك لتهميش روحية العراقي، وجعله يفكر في كره الآخرين له، أم أن الأمر صحيح. لكنه على أي حال شيّد فجوة هائلة بين العراقيين والعرب والفلسطينيين على وجه التحديد، بعد أن كانت تربط بينهما، قبل عام 2003، علاقة دافئة دون بقية الدول الأخرى. ومع كل انفجار يحدث في بغداد، كان المواطنون ينتظرون معرفة جنسية الانتحاري، حتى تكوّنت عندهم فكرة كاملة عن كره الجميع لبلادهم. ساعدت الحرب في بناء هذه الفكرة، وكذلك القنوات الإخبارية، والاقتتال الطائفي بين العراقيين أنفسهم.

أتذكر جيداً كمية الدعم الذي كان يصلني عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، من أصدقاء عرب وفلسطينيين، في فترة دخول داعش. وكانت رسائلهم القادمة من عكا وحيفا والقاهرة وبيروت تمثّل قطعة ضماد لقلبي الخائف على وطني

كما أن العراقي كان متخماً بالحزن والأسى، وهو يفقد أجزاءً من روحه ووطنه كل يوم. وفرغت ذاكرته من الأيام الجميلة والجيران، ووجوه الأوطان الأخرى، والأشقاء والحضارة. ملأت الدماء حياة العراقيين، فصاروا يرون كل شيء ضدهم، ولربما كان التعميم على سائر الأوطان أمراً خاطئاً. لكن الضغوط المتراكمة جعلتهم يميلون إلى عزل أنفسهم عن الجميع، حتى قدوم الإنترنت، وتعديل الفكرة بصورة تدريجية. إذ ساهم الإنترنت مجدداً في إعادة إحياء الفكرة وترميمها؛ ما من مؤامرة كونية ضدنا، ولا يكرهنا أحد كما نتوقع. إذ أتذكر جيداً كمية الدعم الذي كان يصلني عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، من أصدقاء عرب وفلسطينيين، في فترة دخول داعش. وكانت رسائلهم القادمة من عكا وحيفا والقاهرة وبيروت تمثّل قطعة ضماد لقلبي الخائف على وطني. لم تكن مجرد رسائل اطمئنان من مسافات بعيدة. لقد أدركت كم أن الإنسان قادر على إعادة نفسه عن طريق المواساة من الآخرين، وكم أننا بحاجة مرة أخرى للإيمان بحب البعيدين عنا، وصدقهم. ذكّرتني رسائلهم بسلمى التي تزور ذاكرتي كل يوم، مع صحن المهلبية. لعلّني أجدها يوماً.

يعيش العراقيون اليوم ذكرياتهم، فيما يصلّون لفلسطين وأهلها، ويشاركونهم الوجع نفسه والغصّة ذاتها. وبمشهد واحد قد تراه لطفل فلسطيني، تنبض هذه البلاد مجدداً في قلب العراق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard