كان التحرير، وكنت أنا ألعب قرب الخزانة الخشبية حين صرخت والدتي وطرقت على باب جارتنا الفلسطينية لتعلمها أن إسرائيل هربت من الجنوب. يومذاك رقصتا في مدخل المبنى وانضمّت إليهما دون أن أفهم ما يحصل حقًا. لكنني ارتحت لأنه في الشتاء المقبل حين أسمع صوت الرعد لن أخاف وأستيقظ من نومي مردّدة: “عم تقصفنا إسرائيل”.
أذكر قانا والفتاة الصغيرة الجميلة التي وضعنا وردة على ضريحها. أذكر الأيادي المتسلّلة من شباك الزنزانة المصافحة للحرّية في معتقل الخيام، وتلك الناثرة للأرز والورود في الهواء، والرجل المعتقل الذي حاول خلع البوّابة برجله فكاد أن يصهر الحديد. أذكر تدفّق النّاس إلى أراضيهم المحرّرة باسترجاعها لأصحابها وزيارتنا الأولى إلى قريتنا المدمّرة في البقاع الغربي.
أذكر تحرير الجنوب وأشاهد المقاومة في فلسطين. الدماء التي امتصّتها الأرض هنا لا تزال تنزف هناك. في القدس وفي غزّة. وبعد كل هذه الأعوام نحن أصحاب هذه الأرض نعلم أن حلم التحرير بإمكانه أن يصير حقيقة في وجه العدو نفسه.
أتألّم على أشجار الزيتون التي تكسر جذوعها في فلسطين، فجدّي الفلاّح الذي كان يسافر بين الحواجز ليصل إلى كرمه قرب العين علّمني أن وجعه من وجع الأشجار
تقف الفتيات اليوم على الحاجز أمام حي الشيخ جراح في فلسطين المقفل عليهنّ، ليلقين السلام على صديقاتهنّ. يأتي الخبر تحت مقطع الفيديو الذي يوثّق لحظة اللّقاء ليقول لنا: “أهالي حي الشيخ جراح لا يزالون يعيشون تحت الحصار منذ أكثر من شهر. إذ يمنع دخول أي شخص ليس من سكّان الحي، كما يُمنع دخول الصحافيين في أغلب الأحيان. في هذا المشهد نرى فتيات من الحي يعانقن صديقاتهنّ على الحاجز العسكري”.
الخبر الثاني لليوم يعلمنا بوفاة الشاب الفلسطيني أحمد فهد:” قُتل أحمد فهد من مخيم الأمعري بالرصاص على أيدي القوات الخاصّة الإسرائيلية بالخطأ. وبحسب صحيفة يديعوت العبرية فإن أحمد لم يكن الشخص الذي تبحث عنه قوّات الاحتلال كما تشير التقديرات إلى أن أقاربه كانوا المستهدفين وليس هو”.
أذكر تحرير الجنوب وأشاهد المقاومة في فلسطين. الدماء التي امتصّتها الأرض هنا لا تزال تنزف هناك. في القدس وفي غزّة
في غمرة كل هذه الأحداث تطلّ علينا سهى بشارة من المعتقل في فيلم “النجاة من الجحيم” للمخرجة رندة الشهال وهو يُعرض مجانًا على موقع “أفلامنا” لتعود وتمشي في زنزانتها الصغيرة التي قبعت عشر سنوات فيها، ست منها في عزلة، ولتدير ظهرها للاحتلال وتضحك أمام الكاميرا وتشارك قصّتها بين الاعتقال ومقاومة العدو الذي يواجهه اليوم الفلسطينيون الذين بعد سنوات من التعب والموت وتجمّع الكوكب ضدّهم يصدّقون ويؤمنون أكثر منًا كلّنا أن التحرير ممكن.
نعرف وجه سهى بشارة كما نعرف وجوه من يحاربون الآن ما بعد حدودنا المحرّرة. نعرف صوت منى الكرد وكلماتها التي لا تتزعزع في وجه العدو. ووجه الحاج نبيل وحركة جسده وهو يلاحق المستوطن ليخيفه بضحكته. رأينا الأطفال الذين أنقذوا السمكة من الدار قبل أن يهدم، والصبي الذي رفض المغادرة دون قطّته. سمعنا الأغنيات وحفظنا الشعارات. نحن الذين قبل عام كنا قد نسينا ما يقبع خارج الانهيار الاقتصادي وفجوة الانفجار جاء الشعب الفلسطيني ليعيد لنا ذكرياتنا مع التحرير وليذكّرنا أن كل احتمال حريّة يمكن تحقيقه.
بين لبنان وفلسطين الكثير من الأطفال الذين لن يكبروا، الكثير من الأسماء التي قاومت ولم تخرج إلى العلن، لكنّنا مدينون لها بمنازلنا وبأماننا، لأنّها حاربت العدوان بالسلاح والصواريخ والقنابل. هناك شعب تحرّر من العدو لكنّه اليوم يواجه سلطته وشعب يقبع تحت غطرسة العدو داخل أرضه حتّى اللّحظة لكنّه يقاوم.
نحن الذين قبل عام كنا قد نسينا ما يقبع خارج الانهيار الاقتصادي وفجوة الانفجار جاء الشعب الفلسطيني ليعيد لنا ذكرياتنا مع التحرير وليذكّرنا أن كل احتمال حريّة يمكن تحقيقه.
بعد أيًام من تحرير جنوب لبنان في العام 2000 أًُجلسنا نحن صغار العائلة قرب نوافذ السيارات وغنّينا طوال الطريق ملوحين بالأعلام. وصلنا إلى أرضنا التي لم ندسها يومًا لنجدها خرابًا. أمام منزلنا الذي لم يكن موجودًا بعد قبعت الدبّابة الإسرائيلية المدمّرة فجعلناها لعبتنا الجديدة، وجمّعنا من بين الحطام كل ما كان قد بقي من حيوات من سبقونا. أزلنا الدبّابة، حرثنا الأرض، ومكان الدمار تعيش اليوم الأشجار، ولهذا السبب أتألّم على أشجار الزيتون التي تكسر جذوعها في فلسطين، فجدّي الفلاّح الذي كان يسافر بين الحواجز ليصل إلى كرمه قرب العين ويسقي رزقه، علّمني أن وجعه من وجع الأشجار، وقطع لنا وعدًا في الطفولة أنه سيأخذنا إلى كرمه حين تتحرّر الأرض، وحين عاد الأمان وفى بوعده. وضع فأسه على سنديانته الوحيدة وأجلسنا تحتها حيث كسّرنا الجوز وراقبنا الجبال. كلام جدّي وأحلامه في التسعينات في لبنان لا تختلف عن كلام الأجداد في فلسطين اليوم، وكما نبتت شجرة التفاح مكان الدبّابة في أرضنا المحرّرة، كذلك ستبقى أشجار الزيتون متجذّرة في عمق فلسطين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت