الجَلَاد، هو نوع من المِسك المستخلص من عدة مصادر حيوانية ونباتية، يُضمّخ به العِقد الذي يُعلّق علي جيد الرضّع والأطفال في السودان، ويُقال إن عِقد الجلاد كلما تعتق صار ألهج في البوح بعبيره.
وهكذا كانت فرقة "عقد الجلاد" الغنائية بالنسبة لنا نحن جيل الثمانينيات، تربينا في كنفها السماعي الرحيم، وكانت واحة الفرح لمن تقطعت بهم السُبل في خضم القحط الديكتاتوري لنظام الجبهة الإسلامية المعادي لكل مظهر من مظاهر الجمال والحياة، فكيف لا يعادي الجمال من كان مشروعه يرمي لإشاعة القبح والموت وكل ما هو فظّ وفاشي؟
خلافات عاصفة داخل فرقة "عِقد الجَلاَد" السودانية... هل يخبو العبير؟
وتعتبر عقد الجلاد من أقدم الفرق الغنائية، إذ استمر نشاطها لأكثر من ثلاثين عاماً، ومثّلت نموذجاً للفن المصادم الذي مثّل صوت الشعب ووقف ضد الحكومات الديكتاتورية، لا سيما نظام الإخوان المسلمين.
حضور نسائي لافت
تأسست الفرقة في مبادرة من خريجي المعهد العالي للموسيقي والمسرح، وشكّل الصوت النسائي فيها حضوراً بارزاً منذ لحظة تأسيسها، حيث ضمت عضويتها الدكتورة منال بدر الدين، ابنة الموسيقي محمد بدر الدين، أحد مؤسسي فرق الجاز في السودان.
كما ضمّت الدكتورة الراحلة حواء المنصوري، عازفة الكيبورد، ومع وجود ملحنين على قدر عال من الذكاء والرهافة الموسيقية، مثل عثمان النو ومجاهد عمر، وأصوات غنية مثل صوت عوض الله بشير، أنور عبد الرحمن وشمت محمد نور في صفوف الفرقة، امتلكت عقد الجلاد كل مقوّمات النجاح.
الجَلَاد، هو نوع من المِسك المستخلص من عدة مصادر حيوانية ونباتية، يُضمّخ به العِقد الذي يُعلّق علي جيد الرضّع والأطفال في السودان، ويُقال إن عِقد الجلاد كلما تعتق صار ألهج في البوح بعبيره
كانت البداية الفعلية للفرقة في منتصف الثمانينيات، لكن الجمهور تعرف على عقد الجلاد في سهرة تلفزيونية شهيرة عام 1988 على تلفزيون السودان القومي، غنت فيها:
"عيناكِ لي سقيا/ وحلاوة اللقيا/ من غابت الأصحاب/ وتركت مقهوراً/ عاري بلا أنخاب/ أتلصص السقيا/ من فارغ الأكواب".
وكما هو حال كل مشروع متجذر وأصيل، يصعب تحديد لحظة بعينها كنقطة بداية، لكن ذلك الظهور يصلح لأن يُعيّن كتدشين للفرقة، فهو أول ظهور على نطاق جماهيري واسع. وبالطبع مرت الفرقة بمخاضات كثيرة قبل هذا اللقاء، ساهم فيها أعضاؤها كما ساهم فيها أصدقاء الفرقة من شعراء وموسيقيين ومُحبّين.
فرقة نهلت من تيارات مختلفة
في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، ضجّت ردهات المعهد العالي للموسيقي والمسرح، والذي كان مقرّه حينها في مبنى قصر الشباب والأطفال بأم درمان، بالتصفيق الحار، بعد أن ألقى الشاعر والمناضل السودان-أريتري محمد مدني، العائد لتوه من ميدان حرب التحرير الأريترية، قصيدته العصماء "مناورات تكتيكية" من منصة جماعة "تجاوز للثقافة والإبداع".
وهي قصيدة من خمسة صفحات، اجتزأ منها الأستاذ عثمان النو مطلعها ومزجه ببعض أبيات الشاعر المصري أمل دنقل، تتغنى بها عقد الجلاد فيما بعد، وتصير جوهرة العقد الفريد، التي عُرفت لدي جمهورها بـ"أحتاج دوزنة":
"لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كل قيصر يموت/ قيصر جديد/ وبعد كل ثائر يفوت/ أحزان بلا جدوى ودمعة سدى/ أحتاج دوزنة وتر جديد".
كما تغنّت الفرقة بأشعار عدد من الشعراء المعروفين بمواقفهم المناهضة لديكتاتورية الجبهة الإسلامية، منهم على سبيل المثال هاشم صديق، محمد طه القدال، عماد الدين إبراهيم، محجوب شريف ومحمد الحسن سالم حميد. ونهلت الفرقة من التراث الصوفي السوداني، فتغنت بموجدة الشيخ المكاوي "يا ليلي ليلك جنّ" التي نظمها في رحلته الشهيرة إلى الحجاز ومصر، وعرجت على الشعراء الشباب، فقدمت للشاعر والمسرحي الراحل مجدي النور أغنيتي "قصد الطيور النور" و"فاجأني النهار" التي يقول فيها:
"عصفور نبت فيني الريش/ صفقت جريت فرحان/ ما تغطيني أنا عرقان/ من وهجي الفيني".
عوض الله بشير (عضو مؤسس) في أول ظهور تلفزيوني لعقد الجلاد
الموسيقى كأداة مقاومة
عقد الجلاد كانت أكثر من فرقة موسيقية، بل مشروع مقاومة جمالي وحداثوي، فما الفن في جوهره غير المقاومة، أو بالتعبير الدولوزي، غير الإفلات وتأمين خطوط الهرب المستمر من فكّي الحياة الفاشية؟
كانت فرقة "عقد الجلاد" الغنائية بالنسبة لجيل الثمانينيات في السودان واحة الفرح لمن تقطعت بهم السُبل في خضم القحط الديكتاتوري لنظام الجبهة الإسلامية المعادي لكل مظهر من مظاهر الجمال والحياة
بأغانيها الحية والباعثة للأمل وحداثتها المتجذرة في الثقافة والتراث والإيقاعات السودانية، سرعان ما استحوذت الفرقة على قلوب الصغار والشباب والكبار، الذين غنوا بصوت واحد "زارنا حتى إذا ما سرنا بالقرب زال/ طيفك يا حبيبنا" و"أمونة شن بتشوفي/ يا عيوني شن بتشوفي".
ولم يكن فن الغناء الجماعي جديداً على السودانيين، فقد بدأ الغناء جماعياً وطقسياً، وأغلب طقوس القبائل المنتشرة في الجغرافيا السودانية هي في الأصل طقوس غنائية ورقصات تُؤدي في مناسبات حَولية، مثل طقوس الحصاد والمطر والتعميد.
هي مقاومة طبيعية للشرّ الذي جثم على صدر البلاد، وما أمضى الغناء من سلاح في مواجهة هذا النوع من المرض السرطاني الذي أراد تجريف الشخصية السودانية وتنميط النساء السودانيات في قوالب طهرانية وسلفية ميتة وزائفة، وإخضاعهن بالتابوهات والقوانين البطريركية المُهينة، كجزء من مشروع كبير للقبح سموه جزافاً بـ"المشروع الحضاري".
ثلاثون عجاف
كانت منال بدر الدين مشرقة كزهرة الصبار في ليل الخرطوم، وسط كوكبة الشباب الوسيمين، تذكرنا بـ"جمال النيل والخرطوم بالليل" قبل أن يسطو الهوس الديني على المدينة، وكانت حواء المنصوري تنشد عن ليل الخرطوم الكابوس بضربات الكيبورد.
نالت "عقد الجلاد" ما نال كل المجتمع السوداني في الثلاثين العجاف من حكم الديكتاتورية الإسلاموية، من تنكيل ومضايقة، خصوصاً في العشرية الأولى من سنوات حكم النظام التي اتسمت بالقمع الشديد والدموية. يحكي الأستاذ شمت محمد نور، أحد مؤسسي الفرقة عن تلك الحقبة قائلاً:
"حينما ضاقت علينا البلاد قررنا أن نهاجر برسالتنا، تم منعنا من السفر عبر المطار، فسافرنا براً إلى 'الحُمرا'، مدينة حدودية بين السودان وأثيوبيا، مكثنا في مزرعة دواجن سبعة عشر يوماً وكانت معنا حواء المنصوري، ركبت معنا 'الكي واي' عربة شحن، وسط رعب وإرهاب شديد".
خلافات حادة وانقلاب من الداخل
قبل أشهر من اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، تفاجأ جمهور "عقد الجلاد" بالحفل الذي أحيته الفرقة في إحدى فعاليات "اتحاد الوطني للشباب السوداني" وهو إحدى الواجهات التنظيمية المعروفة لنظام الجبهة الإسلامية، أثار هذا الحفل سخطاً شديداً وسط جمهور "عقد الجلاد" ومحبيها، ما حدا بالشاعر الكبير محمد طه القدال بأن يقول إن على الفرقة أن تتخيّر منابرها جيداً.
تعتبر "عقد الجلاد" من أقدم الفرق الغنائية، إذ استمر نشاطها لأكثر من ثلاثين عاماً، ومثّلت نموذجاً للفن المصادم الذي مثّل صوت الشعب ووقف ضد الحكومات الديكتاتورية، لا سيما نظام الإخوان المسلمين
بعد هذا الحدث لم تعد أحوال الفرقة على ما يرام، ومرّت خلال السنتين الأخيرتين بالكثير من المشاكل، وصلت إلى إقصاء الفنان شمت محمد نور، وهو أحد مؤسسي الفرقة وملحنيها ومن الأصوات الأساسية فيها، من إدارة المجموعة.
كما تم إيقاف ترديد أغانيه التي لحنها لـ"عِقد الجلاد" في حفلات الفرقة من قبل إدارة الفرقة، التي لم تعقد جمعيتها العمومية منذ العام 2016، بالتهرب من إقامة الجمعية العمومية واتخاذ سبيل الإقصاء والتكتل للتهرب من مواجهة المشكلات وقمع الصوت الناقد داخل الفرقة، ويتهمها شمت محمد نور بمحاولة اختطاف الفرقة ويحملها مسؤولية التردّي الفني الذي حاق بمستوى عقد الجلاد في السنوات الأخيرة.
النهاية؟
مؤخراً، أصدر حوالي عشرة من الشعراء وأُسرهم، من ضمنهم الملحن شمت محمد نور ومجاهد عمر، إنذاراً قانونياً للفرقة، يمنعها من تأدية أعمالهم الشعرية والغنائية إلى حين حل جميع القضايا الخلافية العالقة حالياً بين أعضاء الفرقة، وانتخاب مجلس إدارة جديد لتصحيح مسار "عقد الجلاد" كي تواصل رسالتها التي بدأت بـ"لا المدامع وقفتنا ولا الحكايات الحزينة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين