استيقظت يوماً ليس ببعيد، على صباح عادي ببلد ليس بعادي أبداً، على فكرة أصبحت قراراً بلمح البصر: "خلص رح سافر، ما بقى فيي أبقى هون".
عن سفري خارج سوريا أتكلم... نعم أصدقائي، أنا ديما التي قررت أن تهاجر في الـ 2020 بعد تسع سنوات من الحرب.
ربما أصبح من البديهي أو من الأشياء العادية عندما نتحدث عن سوريّ ترك بلده، مجبراً غير مخيّر، وخرج هرباً من الحرب وتبعاتها، بحثاً عن حياة أفضل ومستقبل أوضح، لكن ماذا عن السوريين الذين استنتجوا الآن، بعد كل سنين الحرب وإصرارهم على البقاء، أن الوطن لا يتسع للجميع؟
أدركتُ أن ما بقي لي في هذه البلاد أقلّ مما توقعت، كلّ ما أملك هو أشخاص أحبهم، أغلبهم يريد السفر، ذكريات معلّقة هنا وهناك، أحلام لا تشبه هذا الواقع البلاستيكي بعملياته التجميلية المزيفة وحفنة من الإنجازات الشخصية.
هذا كل ما أملك، عندما أخبرت أحد أصدقائي المقربين بقرار السفر، وفي خلال حديثنا، نظر إلي وقال: "أنتِ سافرتي، خلص أنت سافرتي"... كتشبيهٍ منه لوضوح اقتناعي بالفكرة، وابتعادي عن المشاعر الرنانة والالتزام بالواقعية، فقلت له: "يا صديقي، أنا كالكثير من أبناء بلدي سأخرج منها بلا مفتاح لمكانٍ أعود إليه... بلا مفتاح لمنزل أهلي الذي فقدته مع فقدانهم المبكر في هذه الحرب... دون مفتاح لصندوق صغير أخبّئ فيه دفتر مذكراتي وما بقي من صور الماضي".
نحن أولئك الذين ظنوا أن لبقائهم أثراً، وأن واجبهم الدفاع، بأسلوبهم الخاص، عن أفكار ومبادئ تبني وطن الأحلام للجميع، لكن بعد كل ما حدث وكل محاولاتهم التي باءت بالفشل، قرروا الرحيل والبدء من جديد. كان قرار السفر بداخلي وكأني سافرت فعلاً، لم أشعر بشيء غريب، وكأني قطعت حبل السرة بيني وبين مدينتي، لأطير بعيداً وأحاول صنع الحياة التي أريد.
نحن أولئك الذين ظنوا أن لبقائهم أثراً، وأن واجبهم الدفاع، بأسلوبهم الخاص، عن أفكار ومبادئ تبني وطن الأحلام للجميع، لكن بعد كل ما حدث وكل محاولاتهم التي باءت بالفشل، قرروا الرحيل والبدء من جديد
لماذا؟ الجميع يعلم لماذا حرفياً، الجميع على هذه الكرة الأرضية. لم أعد أحتمل العيش داخل هذه البقعة الجغرافية الموجعة حد الألم، تلك الأرض التي أصبحت أشعر بالذنب فيها بأصغر التفاصيل، كالذنب إذا أكلت، إذا فرحت، إذا أحببت، فتخيلوا أن تعيشوا في بلد التناقض بين فقير لا يملك رغيف الخبز وفاشنيستا في أحد المطاعم الفاخرة، تحاضر بالوطنيات وتحقيق الأحلام والإصرار وإلخ... من الكلام المدفوع سعره مسبقاً على قائمة الزبائن.
أنا التي ارتبطتُ بذاكرة أصدقائي السوريين خارج البلدن بدمشق وتفاصيلها وحبَي الكبير لها، بدأت تصلني رسائل منهم: "إذا أنت مسافرة يعني خلص" أو "كان بقائك يعني في أمل وخروجك يعني ما بقى فيي"، وغيرها من الرسائل عن ذكريات جمعتنا في هذه المدينة التي كانت حنونة يوماً ما، قبل كل ما فعلوه بها.
من يعرف دمشق جيداً يعرف تماماً أنك كي تستطيع الخروج منها يجب عليها أن تخرج منك أولاً، ولكي تخرج منك ولو قليلاً، عليك المرور بمراحل يمرّ بها كل سوريّ/ة، منذ زمن بعيد حتى الآن قبل قرار السفر، أولها "الصدمة"، هذه المرحلة التي ظنّ أغلبيتنا، بسذاجة مطلقة، أن الحرب قاربت على الانتهاء وأن الوضع من المستحيل أن يزداد سوءاً، وإذا به ينحدر بطريقة تراجيدية لم نستوعبها أبداً، لننصدم بتفاصيل ظننا أنها لن تتكرر وتتطور بهذه الطريقة السلبية.
ثاني المراحل بداخلنا هي "اليأس"، حتى المتفائل من السوريين لم ينجح بالفرار من فخ اليأس، لقد تم صناعته بحرفية عالية لتستنتج وتستسلم بأنك لن تتمكن من صنع التغيير الذي تريده، ولا رسم الحياة التي تخيلتها لنفسك يوماً، فإن هربتَ من طوابير الخبز والغاز والسكر والرز وغيرها، لن تستطيع الهرب من وجوه من حولك من "كسرة" عمو الختيار على دور الفرن، ومن صبر سائق تاكسي انتظر 15 ساعة كي يملأ سيارته بالبنزين، ليعمل ويعود لعائلته بلقمة كريمة "مغمّسة بالحزن"!
أما ثالث المراحل وأهمّها "الغضب". في العادة، عندما يشعر الإنسان بالعجز يتبعه شعور بالغضب والسخط على كل ما ومن حوله، وأولهم نفسه. هذا تماماً شعور الأغلبية في بلادنا الجميلة، الغضب من كل شيء، حتى من ضحكة غريب مرّ بالشارع أمامك.
رابع المراحل وآخرها هي "التغيير". تبدأ بالبحث عن التغيير في مكان خارج هذا المكان الذي لم تنجح مبادراتك بتغييره، البحث عن وطن جديد! يا إلهي ما أقسى هذا الكلام: أن تبحث عن وطن هو كالبحث عن أم بعد فقدان أمك، فهل تستطيع؟ هل تنجح؟ لا أظن لكن حاول بجميع الأحوال.
لم أعد أحتمل العيش داخل هذه البقعة الجغرافية الموجعة حد الألم، تلك الأرض التي أصبحت أشعر بالذنب فيها بأصغر التفاصيل، كالذنب إذا أكلت، إذا فرحت، إذا أحببت
حجزتُ أقرب موعد طائرة. حزمتُ حقائبي وقررتُ التوجه إلى أقرب نقطة ممكن أن أصل إليها حالياً، وأعرف بداخلي أنها ليست الأخيرة، أنا التي تتعلق بأصغر التفاصيل وتجمع الذكريات يومياً، كيف سأجمع كل هذه الحكايات داخل حقيبة؟ كيف آخذ معي ما تبقى لي من أهلي؟ كيف سآخذ معي ضحكة حبيبي، حنيّة صديقتي والمرح مع صديقي المفضل؟ ما هذه العقوبة التي حلّت علينا؟
وضّبت ما بقي لي من أحلام ورحلت. فهذه إذاً هي "آخر الأحلام نطلقها على عجلٍ ونمضي... هي آخر الأيامِ نطويها ونرحل بسلام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...