في الفيلم الألماني "حيوات الآخرين" (The lives of others) الذي تدور أحداثه في ألمانيا الشرقية، قبل انهيار جدار برلين، تضطر زوجة الكاتب والناشط السياسي، وهي ممثلة معروفة وقتذاك، على ممارسة الجنس مع وزير الثقافة في ألمانيا الشرقية، مقابل كفّ يده عن زوجها، في مشهد لخّص كل تعريفات العالم عن الابتزاز. من حسن الحظ، انتهى الابتزاز بانتهاء الفيلم، على عكس السوريين الذين يعيشون الآن في سوريا أو المغتربين.
لا نتحدث هنا عن ابتزاز بمقتضى العرف، كأن تُجبروا على الانتماء لحزب البعث كي يُنظَر في طلباتكم للتوظيف، أو ابتزاز بمعنى الفساد، كأن تُجبروا على دفع ملايين الليرات للحصول على وظيفة في إدارة الجمارك، فهذا شيء اعتاده السوريون منذ زمن بعيد وأصبح من روتين حياتهم، ولا عن ابتزاز العائلة الحاكمة للمعارضين منذ قديم الزمن، أو تقديم الخدمات مقابل المال والأتاوات للحماية. كل هذا وأكثر، يُعتبر تفاصيل عادية في نظر السوريين، فهي جزء من حياتهم اليومية مثل البيروقراطية والنمو الاقتصادي المعدوم.
نتحدث هنا عن ابتزاز مقونن، أي صادر بموجب قوانين صدّقت عليها سلطات القيادة العليا، ولا نملك أن نفعل تجاهها أي شيء. هي قوانين صدّق عليها مهرّجو مجلس الشعب والوزراء والرئيس السوري، قوانين إنْ دلّت على شيء، فهي تدل على العقلية المافيوية المتأصلة في النظام السوري، عقلية العصابات وقطّاع الطرق الذين كانوا يفرضون المال على القوافل التجارية، عقلية القراصنة التي تتحجج بقلة الموارد للسطو على السفن التجارية.
"نصادر أمواله"
"نصادر أمواله وممتلكاته وأرزاقه، وأرزاق عائلته وأقاربه وكل مَن يخصه". بهذه الكلمات، عبّر الجنرال السوري عن الإجراءات المتخذة بحق المغتربين الذين بلغوا سن الـ42 ولم يؤدّوا الخدمة العسكرية ولم يدفعوا "بدل فوات الخدمة" المحدد بـ8000 دولار أمريكي.
الغرباء عن سوريا سيستغربون هذا التصريح المنافي لأي منطق قانوني (مدني أو ديني) ولكن السوريين اعتبروه أمراً عادياً من نظام اعتادوا على عقليته القائمة على الابتزاز ومقايضة الحماية أو الحق بالعيش الكريم بطاعة عمياء وقبول لكل القوانين التي تصدر.
يمكننا الحديث حتى الصباح عن ابتزاز أنصار الحكم في أي بلد ديكتاتوري، أو الابتزاز المافيوي لأجهزة الحكم فيه، من عناصر الأمن وضباط المخابرات والجيش، ومن وزراء وعائلة حاكمة وأقاربها. ولكن أن تشرعَن عملية الابتزاز فهذه لا تحصل أينما كان.
بموجب القانون الجديد الذي تحدث عنه الجنرال الموقر، فإن أي "مواطن" سوري يقيم في الخارج وأتم الـ42 عاماً بدون سداد البدل المالي لفوات الخدمة العسكرية، يحق للدولة مصادرة أمواله وممتلكاته، وإذا لم تكن لديه أموال وممتلكات، يحق لها مصادرة ممتلكات أهله وأقاربه وكل مَن يخصه، حسب توضيح الضابط السوري على التلفزيون الرسمي، وحتى لو امتلك جنسية ثانية. باختصار، لا أحد محصّناً من عمليات السطو التي تنظّمها الدولة بحق مواطنيها.
"نتحدث هنا عن ابتزاز مقونن، أي صادر بموجب قوانين صدّق عليها مهرّجو مجلس الشعب والوزراء والرئيس السوري، قوانين إنْ دلّت على شيء، فهي تدل على العقلية المافيوية المتأصلة في النظام السوري"
مَن يعيش في سوريا، قد لا يستغرب من هذا الطرح، فهو امتداد لمجموعة قوانين نازية تصدر بين الفترة والثانية، قوانين هدفها تطهير البلاد من سكانها غير المرغوب فيهم. للوهلة الأولى قد يبدو الأمر مبالغاً فيه. هذا من ظنه الأوروبيون في بداية انتشار أخبار معسكرات اعتقال اليهود. تخيّلوا معي أن تقضوا عشرين عاماً تكدحون لتشتروا منزلاً، ثم تأتي الحكومة بكل بساطة وتستولي عليه لأن أحد إخوتكم لم يسدد بدل الخدمة!
فئات السوريين
حسبما تبدو الصورة، يُصَنَّف السوريون حالياً إلى فئات: مَن يستطيع زيارة سوريا ومَن لا يستطيع؛ مَن يمكنه العيش فيها ومَن يسمح له بالعيش فيها. فمثلاً، شريحة هائلة من السوريين الذين يقيمون في لبنان حُرموا من زيارة بلدهم، بحكم قرار الـ100 دولار الواجب تصريفها بربع قيمتها الحقيقية في السوق ليُسمح لهم بدخول البلاد، وأيضاً قرار الموافقة الأمنية عند أي عملية بيع أو شراء عقار أو ملكية والتي تستمر لمدة تصل إلى خمسة أشهر، وببساطة شديدة قد تأتي برفض العملية بسبب حكم صادر أو لأسباب سياسية أو خمنوا معي: بسبب الخدمة الإلزامية.
بعيداً عن البدل المادي وتكلفته، هنالك إذن السفر، حسب ما تسميه شعب التجنيد في سوريا، والذي يجب دفع المال للحصول عليه وللسماح لكم بالسفر خارج البلاد. كمواطنين، علينا أن ندفع أتاوة للدولة عند الدخول والخروج من البلاد.
وهنالك تكلفة تجديد جواز السفر للمغتربين، والذي يُعَدّ الأغلى في العالم، إذ تصل تكلفته إلى 800 دولار، هذا على افتراض أننا نقيم في مدينة فيها قنصلية سورية. غير ذلك، تُضاف عشرات أو مئات الدولارات للتنقل والمبيت، وستتجاوز الكلفة الـ1000 دولار، وهذه يجب أن تُدفع كل عامين، هي مدة صلاحية جواز السفر.
"للوهلة الأولى قد يبدو الأمر مبالغاً فيه. هذا ما ظنه الأوروبيون في بداية انتشار أخبار معسكرات اعتقال اليهود. تخيّلوا معي أن تقضوا عشرين عاماً تكدحون لتشتروا منزلاً، ثم تأتي الحكومة بكل بساطة وتستولي عليه لأن أحد إخوتكم لم يسدد بدل الخدمة!"
وسط تخبط النظام السوري الاقتصادي وقرقعة البطون الجائعة في البلاد، أضحت الخدمة الإلزامية أحد مصادر الدخل القليلة المتبقية للدولة، طبعاً بجانب إنتاج وتهريب المخدرات، وبضعة معامل هنا وهنالك.
يحافظ البدل المادي للخدمة العسكرية على مصدر دخل ثابت للحكومة السورية. وبعد استنفاد كل عمليات إيجاد مصادر بديلة للدخل من مصادرة أموال رجال الأعمال وممتلكاتهم، وبيع المنشآت الحيوية والموارد الباطنية للشركات الأجنبية، لم يبقَ شيء في سوريا للبيع واكتساب الأموال منه إلا الخدمة العسكرية للشباب السوريين وابتزازهم للحصول على إعفاء منها، هي التي تقضي على مستقبلهم المقضي عليه أصلاً في سوريا.
مقايضة بسيطة: إذا أردت الحصول على مستقبلك البائس في سوريا وكنت تظن أنك تستطيع فعل شيء ما فيها، عليك أن تدفع المال، الكثير من المال، صرر يسحبها منك الحاكم كي يسمح لك بالعيش.
كل ما سبق ذكره هو قوانين وقرارات حكومية لكيان يدّعي أنه دولة مسؤولة عن راحة مواطنيها وخدمتهم، كيان له صوت في الأمم المتحدة وتمثله سفارات في دول العالم المختلفة، ولكنّه أقرب إلى جماعات مسلحة تحتجز شعباً كاملاً كرهائن.
مَن يحكمون سوريا هم تشكيل عصابي حوّلوا البلد إلى ما يشبه نادٍ ريفي لحفنة من أثرياء يجلسون بسرور ويدخنون السيغار ويشربون الكونياك ويفكرون في الخطوة القادمة من خطتهم لإنشاء مخيّمات يقطن فيها "مواطنون" يعانون لتوفير الطعام والشموع للإضاءة وبعض الأخشاب ليتدفأوا عليها. ومَن لا يعجبهم العيش بهذه الطريقة يمكنهم مغادرة المخيّم بعد دفع أتاوة الخروج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...