شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن ضرورة شتم أعراض اللؤماء

عن ضرورة شتم أعراض اللؤماء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 25 مايو 202112:00 م

حذلقة لتجنّب الافتراء

يردُ في "أدب الكاتب" لابن قتيبة شرح لكلمة اللئيم، فهو "الذي جمع الشُحّ، ومهانة النفس، ودناءة الآباء". المثير للاهتمام في تعريف أو تصحيح ابن قتيبة لكلام العوام والجهّال، أنه جعل في اللئيم ثلاث صفات: اثنتين له يد فيهما، وثالثة تصله بالوراثة.

أول صفة هي الشُحّ، أي البخل، واستكثار تدليل الذات أو ترفيهها، تليها مهانة النفس، وهي أمر لا يمكن رصده بدقة، فقد يهين الشخص نفسه علناً أو سراً، أي لا يكمن لنا أن نتيقن بدقة متى يهين الفرد نفسه.

لكن التفكّر في الموضوع يكشف لنا أن من يهين نفسه لا يمكن أن يقوم بذلك إلا علناً إن كان لئيماً، إذ يمكن لأحدهم أن يخفي المهانة أمام نفسه، ويحتفظ بها سراً، إلا اللئيم، لا بدّ له من جمهور، وأعين ترصد بدقة كيف يهين نفسه، وهنا نفهم "إن أنت أكرمت اللئيم تمرّدَ"، أي هناك شكل من أشكال التخفّي يمارسه اللئيم، ربما ليستغل الكرم، لأطول فترة ممكنة، ثم يتمرد، أي لا يظهر لؤم ذي النفس المُهانة إلا أمام آخر يحدق به.

هذه العلنيّة هي المستفزّة، فاللئيم لئيمٌ علناً، ومهانة نفسه تأتي من عدم قدرته على رؤية نفسه في أعين الآخرين، إذ يتعامى لؤماً عن أعين غيره حد عدم إبصاره لذاته.

أما دناءة الآباء، فهذه ما لا نفهم سبب وضع ابن قتيبة لها، فما للآباء لا ينتقل للأبناء مباشرة، إلا الثروة. أما أخلاق الجيل السابق وصفاته وعيوبه وحسناته فقد تنقطع من دون أي سبب أحياناً.

 إذاً، كيف يتّهم ابن قتيبة، المُؤَدِّبْ، أحداً باللؤم من دون أن يعرف "آباءه"، وكأنه يفتري على سلالة بأكملها بسبب فرد. هل كانت له عداوة شخصية مع أسرة أحدهم، فنعته باللئيم في إشارة إلى آبائه؟ أو أن الأمر سياسي؟

تحوي اللغة العربيّة صيغة الحلفان "بأبي أنت"، أي أفديك بأبي يا فلان. لكن، ماذا لو كان الابن لئيماً كما قال ابن قتيبة، هنا قد يتضح المعنى: اللئيم يتسبب بالدناءة لأهله حتى لو لم يعرفهم أحد، ويجلب السبّة واللعنة لهم، والتهمة بالدناءة من دون أن يكون لهم يد فيها، فالعلاقة عكسية إذاً، اللئيم لا يرث دناءة آبائه، بل يلصق بهم الدناءة بلؤمه، وهنا مجازيّة تعبير "بأبي أنت".

لا يمتلك الأبناء حق التضحية بآبائهم خوفاً من لؤمهم، بعكس الآباء. حق تقديم الأبناء كأضحية مكفول، بل تخفّف تهمة من يقتل ابنه في بعض البلدان. إذاً، كيف يمكن فهم انتقال صفة الدناءة من الأبناء إلى الآباء ضمن نظام الأضحية؟

تضحية الأب بابنه تقطع النسل، ويحتكر الأب الدناءة لنفسه، ما يغفر لمن سيأتي من سلالته. أما في حالة اللئيم فلا ينقطع النسل، لا تضحية ولا موتاً، هناك فقط اتهام قد يلحق من سبق ومن سيأتي، وهنا إشكالية اللئيم، قد "يُلعن" ويفترى على سلالته بأكملها بسبب لؤمه.

يردُ في "أدب الكاتب" لابن قتيبة شرح لكلمة اللئيم، فهو "الذي جمع الشُحّ، ومهانة النفس، ودناءة الآباء". المثير للاهتمام في تعريف أو تصحيح ابن قتيبة لكلام العوام والجهّال، أنه جعل في اللئيم ثلاث صفات: اثنتين له يد فيهما، وثالثة تصله بالوراثة

اشتم بلسان من لا صوت لهم

لا يمتلك اللاجئون حق التصويت في أوروبا، وإن تمتعوا بحقوق المواطنين الأصليين كافة، إذ يبقى التصويت حكراً على من يوقّع على التعاقد بينه وبين الجمهورية/ المملكة التي يسكنها، وفي حالة اللاجئين السوريين، الأمر سيّان، فكلهم لم يمارسوا هذا "الحق" بالمعنى السياسي للكلمة.

توافد سوريون في عدد من العواصم الأوروبية إلى سفارة بلدهم من أجل الإدلاء بأصواتهم إثر اقتراب موعد الانتخابات في سوريا. كلمة توافد هنا تحوي مبالغة، يمكن القول "تسلل البعض إلى داخل السفارة"، أو "انتظروا على بابها حذرين من أجل الإدلاء بأصواتهم الانتخابيّة الوهميّة لصالح الأسد الابن".

ما يحفّز في الأمر هو المواجهة التي حصلت بين من ينتخبون الأسد وبين الآخرين اللاجئين، الذين لا يمتلكون حق التصويت، والذين لا تصلح وثائق السفر التي يحملونها لدخول سوريا. هؤلاء وقفوا أمام المُنتَخِبِين، الذين لم يمارسوا "حقهم" بثقة أو من دون تكلف، أو يقين بالنتيجة، بل واجهوا أولئك الغاضبين، المحكومين بسرعة الإنترنت للتواصل مع ذويهم داخل سوريا.

أمام السفارة السورية في باريس، تقف مجموعة من السوريين للإدلاء بأصواتهم. من بعيد، يتجمهر اللاجئون الذين لا يمتلكون حق الدخول إلى السفارة، والذين إن دخلوا، قد تسقط عنهم صفة اللاجئ. أولئك المستثنون من أرضهم، اجتمعوا ليراقبوا أولئك المؤمنين بالقائد الخالد.

لكن، لا اجتماع بين حشدين مختلفين سياسياً من دون مواجهة، وفي دولة تضمن حق التجمع والتظاهر (بشروط طبعاً، فمنع مظاهرة التضامن مع غزة في باريس سفالة مطلقة). بدأ طقس ينعش كل من يشاهده، واشتدت أصوات الجمع شتماً وقذفاً بأولئك المتسلّلين سراً. شتائم على نغم أو من دون إيقاع، مقفاة ومرتجلة، تنطلق لتضرب في أذن من يصوّت، لتستفزّ أو تهين، أو من دون أن تترك أثراً، لكنها شتيمة، وظهرت علناً، وسمعها من وُجّهت له.

ربما هم مهددون، خائفون، لكن لِمَ لمْ يتواصلوا مع السفارة كي يأتوا في وقت مبكر (أي من "طيز" الصبح) كي لا يراهم أحد. لمَ اللؤم العلنيّ والإصرار على الانتخاب في منتصف النهار؟ هنا تظهر مهانة النفس التي تحدّث عنها ابن قتيبة: لا بد من جمهور للّؤماء. نشاهد في التسجيل الذي وثّق ما حدث جمعاً متفِقاً على شتم جمع آخر قرر أفراده المشاركة في العرس الوطني، ولا نحاول القول إنهم بمأمن من بطش الأسد.

يظهر الشتم كتدريب شخصي على الغضب، والحزن أحياناً، خصوصاً أن الشتيمة ليست مجّانية، بل تحمل داخلها اتهاماً. أولئك يصوتون لمن يمنع أقرانهم من العودة إلى منازلهم. إن كان الأمر كذلك، لنشتم إذاً، ونلعن، ونمرمغ في التراب والخراء أولئك الواقفين طابوراً على باب السفارات السورية في أوروبا.

لا لشيء، لنسمّها "منيكة"، استثماراً في وقت الفراغ، أو لنكن أكثر جديّة، لنسمها اتهاماً واضحاً وصريحاً، خصوصاً أن هؤلاء عبر انتخابهم هذا، وعلنيتهم "يمثّلون" و"يرسّخون" القوّة التي طردت أقرانهم على الرصيف المقابل، هؤلاء الناخبون نموذج عن فئة كبيرة صامتة لا تظهر دوماً، وتتحرّك في أوروبا، وأحياناً تلعب دوراً سياسياً كونها ترى أن كل ما فعله الأسد لمصلحة البلد.

لن أذكر أسماء من شتموا لأني لم أسألهم إن كان يحق لي ذلك.

لكن ومن دون عاطفة، هذه الشتائم، محروم منها الكثيرون: المطيعون على مضض، والمصوتون على مضض، بالإكراه أو خوفاً من عين ما قد تميّز أنهم ليسوا كالباقين. كل شتيمة قد تبرّد قلب أحدهم وهو يلوّث إبهامه مضطراً في واحد من مراكز الاقتراع في سوريا. الشتيمة هنا رابطة عاطفية، صوت يستعار في لحظة الصمت التي تعني النجاة بالنسبة إلى الكثيرين، المُراقَبين أثناء تصويتهم.

أثناء الانتخابات الماضية في سوريا أو الاستفتاء، كان العرف الذي يقي من العنف أو الأعين الغاضبة يتمثل بأن يكون إبهام "الكل" مصبوغاً بالأزرق، ولن نتحدث عمن بصموا بالدم، بل نشير إلى أولئك العاديين، الذين لا يأخذون الانتخاب في سوريا على محمل الجد. مع ذلك هم مضطرون للقيام به، أولئك الذي اضطروا بالقوة أن يحملوا العلامة العلنية حينها، والتي كانت أسلوباً جمالياً لرسم الحد بين الأعداء والأصدقاء.

لا شتائم، لا سباب أو تقريظ، فقط صمت وطأطأة، كون الانتخابات في سوريا علنيّة أكثر منها سرية بسبب نتائجها المحسومة. لكن السبب الأول للاستمرار في إجرائها هو استعراض القوة أمام السوريين أنفسهم، لترسيخ القدرة على جعل "جميع" من هم تحت سيادة الأسد يتبنّون العلامة ذاتها في الوقت ذاته.

كتب الشاعر والصحافي السوري نورس يكن على جداره على فيسبوك، أنه تعرّض للانتقاد لأنه شتم المصوّتين أمام السفارة، أو لنقل تفنّن بشتمهم، وقارن الأمر بهتاف (هيلا هيلا هو... جبران باسيل كس أمو )، الذي انتشر أثناء الثورة في لبنان، واستغرب لمَ لا ينطبق الأمر ذاته عليه؟ لا نقف في صف المُنتقدين، الذين فرقوا بين شتم سياسيّ، أو شخصية عامة، وبين فرد خاص، لكن هل من المنطقي إدانة نورس وتفادي الشتم؟

باختصار، للإجابة عن السؤال السابق، نعم، يجوز شتم أشخاص، وليشتم نورس من يريد، خصوصاً أن أسماء المصوّتين لم تُذكر، بل وُجهت الشتيمة مجردة، تأشيراً عن بعد من دون تحديد، (إلا في حالة واحد منهم بسبب معطفه المضحك الذي تمت الإشارة إليه).

الشتم هنا ليس تعبيراً عن الذات، أو المستوى الأخلاقي، أو كل هذه الحجج السطحيّة. الشتم هنا أسلوب بلاغي للتواصل، (أنا أشتمك، أي أنني أعترف بوجودك، وأنتظر ردّك، شتماً أو تجاهلاً، يا عرص).

الشتم هنا ليس تعبيراً عن الذات، أو المستوى الأخلاقي، أو كل هذه الحجج السطحيّة. الشتم هنا أسلوب بلاغي للتواصل، (أنا أشتمك، أي أنني أعترف بوجودك، وأنتظر ردّك، شتماً أو تجاهلاً، يا عرص)

هنا تبرز فاعليّة الشتم، فمن يشتم حين يكون فرداً لا شخصاً عاماً، يساهم في استعادة جزء ولو بسيط من كرامتـ"نا" المهدورة. والأهم، يؤكد أن الشتم شكل من أشكال التعبير التي يجب أن تكون مضمونة. الشتيمة دعوة لمجتمع جديد يقف فيه الشاتم والمشتوم متواجهَين من دون أي أذى، تفعيلٌ للفضاء العام، يتضح حين يؤكد الشاتمون، وحروف "السين" تشتدّ في أفواههم بعد الكاف في نعت أم أحدهم.

إنهم واعون بما يقومون به، هم فقط يشيرون إلى اللئيم الذي جلب السُبّة لسلالته. شخصنة الشتيمة محاولة لردع من تُوجّه له، أن ارعوِ، انضبط، وانظر ما تفعل، لا تكن لئيماً، لا مناص من شتمك وشتم آبائك.

تختلف الشتيمة وإيقاعها كونها لحظيّة، وليدة الموقف، كحالة اللئيم الذي يورّط أهله بالمسبّة من دون أن يعلموا ما كان يفعل. هي نداء أمام ما لا يُسكت عنه إلى حد استدعاء الآباء والأمهات للتشاور معهم، ولفت انتباههم: أن احذروا ابنكم اللئيم، ما يفعل بنفسه وبكم.

وهنا خاصيّة لم يضفها ابن قتيبة للئيم، هو لا يستحي، وإن استُبيح عرضه (مع اختلافنا مع مفهوم العرض بأكمله). لكن المثير أن ابن قتيبة في الكتاب ذاته يشير إلى أن عرض المرء لا يشمل أهله وزوجه، بل يستهدفه هو، وكأنه يؤكد أن شتم العرض بالذات شديد الالتصاق بمن يُشتَم، ولا يمتد إلى خارج جسده.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image