تفتح الكاتبة اللبنانية رولا الحسين روايتها "حوض السلاحف" بالعبارة التالية، "في وسط الغرفة، وعلى كنبة بيضاء تمددت"، عنوان الفصل الأول مُلتبس: "بعد ظهر يوم جمعة يُفترض أن يكون سبت"، الزمن غير واضح هنا، أو خاضع لأهواء بطلة الرواية التي بعد ساعة ونصف من استيقاظها "مشت إلى غرفة الجلوس ورمت بنفسها على الكنبة. لم تدخل الحمّام. لم تغسل وجهها. لم تفرّش أسنانها".
بمجرد أن تستقرّ البطلة على الكنبة، تبدأ المخيلة بتعداد احتمالات الأنشطة التي يمكن القيام بها بعد مغادرة الأريكة "التي تقسم الغرفة المستطيلة إلى زاوية جلوس على يمينها وزاوية تناول الطعام عند يسارها"، أي أن الكنبة تقسم فضاء المعيشة حسب الوظيفة.
الأهم أن مساحتها أكبر من أن تكون للجلوس إذ يمكن الاستلقاء، الاضطجاع والاتكاء. تعدد الاحتمالات هذا يجعل مغادرتها جهداً يمكن الاستغناء عنه، وكأنها تغمر من عليها بذاته التي تفيض عنه، فلا شريك لمن يجلس على الأريكة، سوى أفكاره الشاردة التي تبدأ بخطوة وقد تنتهي بالطيران.
يعلن الجلوس على الأريكة عن بداية النهار، لكنه لا يعني الدخول في زمن العمل (الآن اختلف الأمر بالطبع) يمكن قضاء ساعات طويلة على الأريكة دون فعل شيء يذكر.
هناك طاقة سحرية تحويها الوسائد تتسلل إلى فقرات المضطجع ووعيه، وحتى إن غفا، لا يعتبر نائماً ولا مستيقظاً، هو في الوسط، مُعلق بين الاستقامة والاتكاء، خصوصاً أن الذكريات على الأريكة: جلسات سابقة، بقع متنوعة، أوراق قديمة تختفي بين الوسائد وكأن الشقوق بين الوسائد أرشيف عشوائي لما ننساه، ذاك الذي يتكشّف تدريجياً كلما طال الجلوس.
يعلن الجلوس على الأريكة عن بداية النهار، لكنه لا يعني الدخول في زمن العمل، يمكن قضاء ساعات طويلة على الأريكة دون فعل شيء يذكر
يشرد من على أريكته أو "يحلم يقظاً"، يستدعي صوراً شعرية عابرةً نقرأ عنها في كتاب "شاعرية أحلام اليقظة" لغاستون باشلار، الذي يرى أن المشاركة الخلّاقة بين المخيلة والوعي هي ما تفعّل الصور الشعرية الحالمة في اليقظة، تلك "التي نَعدُ بكتابتها"، كوننا لا نستطيع "سردها شفهياً".
هذه الصور والشردات لا تشبه أحلام الليل، لأن الوعي يتدخل ضمنها، دافناً اللاوعي في ظلامه، دون أن تتلاشى "الأنا" التي تُصمم "ديكور" الشرود، هنا تظهر الكنبة أو الأريكة كمحرك لمخيلة من نوع فريد، تلك التي تولد صوراً لا يمكن نقلها للآخرين لحظة حدوثها.
أن يجلس الواحد منا على أريكته يعني الدخول في نهر الأحلام التي لا تلتقط، لا بحرها المظلم، جالساً منتظراً أو لا ينتظر، شارداً، يُردد شعراً يظن أنه صاحبه، لكن بمجرد أن يغادر الأريكة يتلاشى كل شيء، كعبارة هاملت، بالضبط التي تتردد في الزمن الضئيل بين الهمّ بمغادرة الأريكة والاستقامة وقوفاً: "إلهي، قد أكون أسير حبة جوز، وأظن نفسي ملك الفضاء اللانهائي".
تحيلنا الكنبة دوماً إلى التحليل النفسي، الصورة الشهيرة لعيادة فرويد في لندن تتوسطها الكنبة الشهيرة، التي أهدته إياها مريضته مدام بينفينيسني Benvenisti بعد أن شفيت، نهاية القرن التاسع عشر، ربما هي سخرية أن تهديه إياها، إما كعلامة على شفائها أو العكس، رغبة في التخلص من ساعات الثرثرة الطويلة وما تحويه من انطباعات.
هذه الكنبة الفرويدية تحولت إلى مفهوم أكثر منها غرضاً، هي مكان للتداعي الحر للكلمات، والتخفّف من الجدية، وكأي أريكة أخرى، تفترض "الراحة" أولاً، تلك الميزة التي راهن عليها رجال التسويق، أن نجلس على الكنبات قبل شرائها لنختبر موضع الإست عليها، والظهر والكوع وكل احتمالات الجلوس، لأنها، أي الأريكة، كالسرير والمرحاض، أماكن لا تتطلب البداهة أو سرعة التفكير، فالزمن لا يتدفق أفقياً على الكنبة.
احتمالات الجلوس السابقة تحاربها الوظيفية في التصميم الداخليّ، أريكة كوربوزية الشهيرة LC2، لا تصلح إلا للجلوس بظهر مستو، أشبه بالإسمنت المصبوب على شكل أريكة، لا حركة فيه ولا احتواء، مجرّد جلوس يقتل المخيّلة، فلا داعي لاختبارها مسبقاً، فوظيفتها تتطابق مع شكلها وتصميمها، اجلسْ واستمعْ، وإن أطلت الجلوس، التهمك جلدها الإيطالي.
الوعد بالراحة الأزلية
مثير للحيرة وعد الله للمؤمنين بجنة تحوي أرائك، الكلمة التي تتكرر خمس مرات في النص القرآني تترافق دوماً مع الاتكاء والنظر، وكأن المكافأة النهائية في مملكة الرب، مكان مريح يتيح للمتكئ المشاهدة دون بذل جهد، لكن لا نعرف بدقة ما الذي تتم مشاهدته، البعض يقول نعيم الله وآخرون عذابات جهنم.
نقرأ في سورة الإنسان: "مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَونَ فِيهَا شَمساً وَلَا زَمْهَرِيْراً"، وكأن الزمن يتوقف على الأريكة، إذ لا تتدفق الأيام والفصول بوضوح، فالأريكة حسب الثعالبيّ "عليها حجلة" أي مغطاة من أعلى، ومن عليها يرى لكن لا يمكن رؤيته، ويتسع المعنى في سورة الكهف إذ نقرأ: "مُتَّكِئِينَ فِيهَا-أي الجنة- عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ".
أن يجلس الواحد منا على أريكته يعني الدخول في نهر الأحلام التي لا تلتقط، يُردد شعراً يظن أنه صاحبه، لكن بمجرد أن يغادر الأريكة يتلاشى كل شي
هذ الوعد يأتي بعد حكاية فتية الكهف ونومهم الطويل، وعدم الراحة التي شهدوها في غفوتهم وتقلبهم يمنة وشمالاً، لتأتي المكافأة بالأريكة كإنقاذ لهم من صلابة الأرض وبحر أحلامهم، عبر أرائك مريحة، ودهر من أحلام اليقظة والتأمل بعد أن أغمضوا أعينهم حد الوجع.
هذا الوعد بالراحة ينتهي بألم، فالمعنى الثاني لكلمة أريكة هو "الجُرْح إِذا ذهبتْ غَثِيثَتُه وظهر لحمه صحيحاً أَحمر ولم يَعْلُه الجلد"، أشبه بالتقرّح إذن، لحم مفتوح على الداخل، يستقبل ما هو خارج، فإن كانت الكلمة جرحاً ودعوة إلى المجلس، فالأريكة جرح تفتّح "كلاماً" في زمن الجلوس.
فغطاء الأريكة وما يعلوها يحجب العالم وما يدور فيه، ومن يسقط فيها، أي في جرحها المفتوح، يدخل كونه الداخلي، مع ذلك يبقى واعياً، فالأريكة جرح لم يندمل ولم يمض زمن طويل على شقّه، فلم يقسُ بعد، وهذا ما يمكن أن نفهمه من "ألف ليلة وليلة"، تبتلع الأرائك والأسرة شهرزاد كلما "سردت" أكثر، كلما تحدثت وكلما امتد مُتكؤها، تأجل موتها الموعود، كحلم يقظة يتكرر مراراً في الأريكة.
تفعل الساعات طويلة من الجلوس/ الاتكاء/ الاضطجاع على الأريكة، حنين العظم القاسي إلى الخشب أو الحديد القاسي في الأريكة، فيشتدان وينجذبان حد انفتاح اللحم جرحاً، ذات الأمر إن كانت الأريكة وثيرة، فالطريّ على الطريّ إن تلاقيا لزمن طويل، تصلبا حد الاتحاد فولاذاً.
هذا الميل للصلب مبرر، فالقاسي ثابت ودائم وأشد تحمّلاً، وكأن من بقي على أريكته حكم عليه باللاحركة وتجذمر في مكانه، وهنا يظهر معنى آخر لكلمة أريكة، هي اسم "جبل"، أي ذاك الراسخ في الأرض لا يتزحزح.
امتداد الزمن على الأريكة وابتلاعها للطري حدّ القساوة يتحوّل إلى أسلوب للانمساخ، أجساد متعبة ومتصلّبة من طوال القعود مهما كانت الأريكة وثيرةً، وكلما ازداد التقلّب اكتشف الألم مفاصل وعضلات جديدة ليظهر ضمنها.
ولا نتحدث هنا عن ذاك الألم القاسي الذي يفتك بالعقل والمخيّلة، بل عن ألم أشبه بالنداء، يشلّ من شدّته صاحبه لكنه لا يفقده وعيه، الأمر أشبه بمعادلة رياضية، كلما اشتدّ الحنين للقساوة، تحولت الليونة وجعاً ثم تصلّبت، كمن يجلس على قطن تناهى إسفلتاً بعد أبدٍ ما.
العلجوم في عزلته
يحدثنا باشلار عن التأملات الشاردة في "الكون"، تلك التي لا نحتاج لعزلة الصحراء كي تظهر لنا، فالعزلة هي الذريعة لا السبب كي تتحرر الصور الشعرية، وعبرها نجد أنفسها في "الكون" لا في المجتمع.
فالشرود يخلصنا من تدفق الزمن ووطأة السبب، فالشريد لغةً من هام دون أن يتبعه أحد، بعكس الطريد الملاحق دوماً، فالشارد على أريكته، لا يغويه سبب للاستقامة وقوفاً عنها سوى هواه أو رغباته الضرورية المؤجلة.
نستخدم كلمة غرق سابقاً لأن أصل الحلم ماء، والشعر يختبئ هناك، أما نحن فلسنا مكتشفين له كالشعراء، بل شاردين كسولين على الأرائك، إن تجلى أمامنا الشعر نلتقطه وإن تلاشى فلا عتب.
مثير للحيرة وعد الله للمؤمنين بجنة تحوي أرائك، تترافق دوماً مع الاتكاء والنظر، وكأن المكافأة النهائية في مملكة الرب، مكان مريح يتيح للمتكئ المشاهدة دون بذل جهد
الأهم نحن لا ننتظر، فالكرسي هو علامة "ذاك الذي ينتظر" حسب "شذرات من خطاب الحب" لرولان بارت، أما صاحب الأريكة، فلا يتبنى الانتظار، لأنه لا يراهن على غيابه الشخصي، بل حضوره الكامل ألما وكسلاً بين الوسائد.
العزلة المثالية في المُضْطَجَعِ لا تشتدّ ولا تلين، وضمنها تحمل الأريكة من عليها كالضباب يطفو على الماء، المخيب للأمل أن هذه المعادلة من الصعب تحقيقها في "المجتمع"، لكنها حاضرة في "الكون" الذي تحدث عنه باشلار، والذي تسقط فيه الأنا واعيةً بذتها في عمق الماء، لتصل مكاناً أقرب للشعر منه للواقع.
ويمكن رصد معالم هذ المكان في الصورة التي حازت المرتبة الثانية في مسابقة "فنون أعماق المحيط للتصوير"، والتي تحمل عنوان "بانتظار القبلة".
يوحي عنوان اللوحة بالانتظار، أي الوقت الذي يمر والعلجوم متكئ على ورقة تطفو، القبلة لا نعلم ممن، وكما هو واضح، يحيل العنوان بأكمله إلى الحكاية الشهيرة، خصوصاً أن من التقط الصور يشير إلى أن العلجوم كان في طريقه للبحث عن أنثى، لكنه اضطجع على ورقة تطفو في الأعماق قبل أن يتابع بحثه.
هذه الحكاية عن القبلة والانتظار في عين المصوّر فقط. ماذا لو أن العلجوم وجد في الورقة التي تطفو أريكةً تخفف من عبء الماء عليه، فاتكأ لتستبيح الظلمة "عالمه"، تاركاً لنفسه حرية أن يشرد زمناً؟
المثير للاهتمام أن كلمة العلجوم تعني ذكر الضفدع ونوع من أنواع الطيور، وربما هذا ما الضبط ما كان يشرد فيه العلجوم في الصورة، يستدعي ذاك الكائن العالق بين الاثنين، الحلقة التطورية المفقودة، ذاك السلف أو الخلف، القادر على السباحة عميقاً والطيران عالياً متى شاء.
ربما شرد العلجوم مستحضراً أقراناً متخيلين يطيرون عالياً، بينما بقي هو بدون أجنحة، فاستراح حزناً على ورقته/ أريكته، مُتقلباً دون فطنة بالاتجاهات، مُدركاً أن الحال لن يتغير.
ما التقطه العدسة في أعماق المحيط كان حلماً بالتغير وانقلاب الحال، حلما لا يتحقق فاستراح صاحبه في جرح حاملاً جرحه، نهايةً، أليست حكاية العلجوم الذي ينتظر القبلة مجازاً عن تحول أحدهم من حال إلى حال، وما بينهما انتظار لمعجزة تدلل الحلم وتنادي الكسل؟
هناك سحر غريب في الأريكة، تقلب حال من يجلس عليها، ليتكلم، أو يشرد أو يحلم، دون أن ينفصل كلياً عن "المجتمع"، هو موجود، لكنه لا يدخل ضمن القوة العاملة، ينتظر مُعجزةً ما، قبلة، كلمة من المحلل النفسي، ضفدع يقتحم عزلته المظلمة، أو ربما موتاً يحرره من ألم المفاصل ووجع تُلملم عبره أعضاؤه بعضها على بعض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...